ياسر حسني يكتب: المخابرات العامة المصرية .. أباطرة الصمت وثعالب المعلومات
جهاز المخابرات العامة المصرية .. تم تصنيفه ضمن أقوى 5 أجهزة استخبارات في العالم
رغم أن عملية انشاء جهاز المخابرات العامة المصرية، بدأت تقريبا من الصفر، وبعدد محدود جدًا من الرجال، إلا أن “محيي الدين ورفاقه العشرة”، ومن جاءوا من بعدهم، وباعتراف العالم تمكنوا خلال سنوات قليلة من إثبات أنهم بالفعل أبطال مجهولون يعملون في صمت يثير الدهشة، ويتحملون ما لا يمكن تخيله من مخاطر وصلت في بعض الأحيان إلي تقديم حياتهم – نفسها – فداء للواجب والوطن.
كانت البداية في أحد أيام صيف 1953 عندما اجتمع الرئيس جمال عبد الناصر، بمدير المخابرات الحربية، وعضو مجلس قيادة الثورة وتنظيم الضباط الأحرار، البكباشي زكريا محيي الدين، وعرض عليه حلمه بإنشاء جهاز المخابرات العامة المصرية للقيام بدوره في حماية الأمن القومي المصري وتوفير المعلومات عما يحاك للوطن من مؤامرات “في الغرف المغلقة” داخليا وخارجيا.
واتفق الرجلان على ضرورة تحقيق هذا الحلم في أسرع وقت ممكن.. فقد كانت مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 تتحرك فوق صفيح ساخن وملتهب أحيانا.
فالثورة الوليدة كانت محاصرة بالأعداء من أكثر من ناحية، وكان عليها أن تكتشف المؤامرات التي تحاك ضدها ولم يكن ذلك ممكنا إلا بالحصول علي المعلومات والأسرار من خلال جهاز متخصص.
فلم يكن في مصر قبل الثورة سوي المخابرات الحربية والتي كانت تدير ملف الأمن الحربي وحماية الأسرار العسكرية ببراعة، ولكنها لم تكن مجهزة أو مدربة للتعامل مع المؤامرات الخارجية وعالم الجواسيس ومكافحتهم، وهي حياة جديدة ومعقدة ظهرت للوجود أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية.
وطوال سنوات الحرب الصامتة بين معسكري “المحور والحلفاء”، أي الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت القاهرة قد تحولت إلي مرتع للجواسيس الألمان والبريطانيين والأمريكان، ولحقت بهم المخابرات الإسرائيلية بعد ذلك.
ومن هنا كان عبدالناصر يدرك ضرورة وخطورة وجود جهاز مخابرات مصري قوي لكشف المؤامرات والدسائس التي تدبر سرا ضد مصر، ويؤازر المخابرات الحربية المصرية، الشقيقة الكبرى للمخابرات العامة، والتي سبقتها في الوجود وشرف حماية الوطن من الأعداء التي تتكالب عليه بعد ثورة يوليو 1952.
وبعد عدة لقاءات بين عبد الناصر ومحيي الدين، تم ترشيح 10 ضباط من الجيش المصري ليكونوا النواة الأولى لهذا الجهاز الوليد، وتم الاتفاق على أن تكون المخابرات العامة إدارة جديدة ومستحدثة بالمخابرات الحربية، لتستفيد من امكانياتها وخبرات رجالها، حتى تستطيع الاستقلال بنفسها وإن كان سيكون لها استقلال بشكل كبير في تحركاتها وتدريبات رجالها، بل وحتى في مقرها الرئيسي.
وكان عبدالناصر يضع ثقته في زكريا محيي الدين، فهو أحد افراد خلية عبد الناصر المباشرة في تنظيم الضباط الأحرار، وكان يعلم جيدا السمات الشخصية له، والتي تؤهله لهذا الدور الوطني والمفصلي في تاريخ مصر.
فقد كانت شخصية ومهارات زكريا محيي الدين تؤهله بالفعل لهذه المهمة الخطيرة، إذ كان نموذجا كاملا للهدوء والأعصاب الفولاذية مع قدرة خارقة علي الصبر والعمل المتواصل، وكان حكيما لا يبت في أمر قبل أن يبحثه ويدرسه ويحلله جيدا، حتى أنه لعب دورا مهما في تحريك قوات الضباط الأحرار وتحديد أماكنها في ليلة الثورة.
وبالفعل نشط الرجال العشرة في أولى مهامهم، وهي اختيار مقر رئيسي لإدارة المخابرات العامة يكون في القاهرة، بشرط أن يكون في مكان لا يلفت الأنظار ويتميز بالهدوء والبعد عن المناطق المزدحمة.
وتوصل الرجال إلى مبنى تنطبق عليه الشروط والمواصفات التي يحتاجون إليها، بشكل كبير.. عبارة عن مبنى خاص أقرب للفيلا تحيطه حديقة كبيرة وسور يفصله عن المباني الأخرى المجاورة له، ويقع في أطراف مدينة القاهرة.
كان المبنى مملوك لطبيب نفسي شاب، درس في سويسرا، أعده له والده – الطبيب النفسي أيضا – ليفتتح فيه مستشفى خاص لعلاج الحالات النفسية والعصبية، عقب عودته من الخارج واستقراره بمصر.
ولكن شاءت إرادة الله أن يصاب الطبيب الشاب باكتئاب نفسي حاد، مجهول السبب، ويقوم والده بارساله لتلقي العلاج في الخارج، على أمل شفائه وعودته قريبا، ولكن للأسف كانت التقارير الطبية تشير إلى أن حالاته مستعصية ويحتاج العلاج لسنوات عدة.
حينها قرر الأب غلق المبنى وإلغاء فكرة المستشفى الخاص، وظلت الفيلا مغلقة لسنوات، حتى أصابتها الشيخوخة المبكرة، وذبلت اشجارها وماتت الزهور التي كانت تزينها وعلا الصدأ بوابتها الحديدية!
وبعد سنوات من الإغلاق والإهمال، تقدم شخص مجهول لوالد الطبيب الشاب، يطلب منه شراء المستشفي، وتمت الصفقة وتضمنت كذلك شراء ما حولها من أراض فضاء في هدوء..
وطوال أشهر لم يلاحظ أحد من سكان هذه المنطقة النائية الرجال الغامضين الذين كانوا يحضرون خلسة إلي مبني المستشفي المهجور، لكن السكان فوجئوا ذات صباح بلافتة معلقة علي واجهة المبني تحمل عبارة «إدارة البحوث والإنشاء».
ولم يعرف أحد إلا بعد سنوات طويلة أن هذا المبني كان أحد أول المقار المجهولة للمخابرات المصرية والتي لعبت في صمت غالبا أدوارا وطنية خطيرة، سواء في مصر أو في البلاد العربية وحتي علي مستوي العالم!
هكذا ولد جهاز المخابرات المصرية علي أيدي زكريا محيي الدين وعشرة من الضباط تم اختيارهم بعناية شديدة، ليصدر الرئيس عبد الناصر قرارا جمهوريا في 22 مارس 1954 بتأسيس جهاز المخابرات العامة رسميا كإدارة ضمن المخابرات الحربية.
وكأن القدر كان يريد اختبار هذا الجهاز الوليد، والكشف عن ميلاده عملاقا قويا في عالم الغموض والضباب، حيث رصد رجال المخابرات المصرية في صيف عام 1954، تحركات مريبة لشخصيات تابعة للجالية اليهودية في مصر، تزامنت مع المباحثات المصرية البريطانية حول جلاء الاحتلال الانجليزي عن البلاد.
ونجح رجال المخابرات المصرية في كشف شبكة التخريب اليهودية بمصر، والتي كانت تستهدف القيام بتخريب بعض المنشأت الأمريكية والبريطانية الموجودة في مصر بهدف زعزعة الأمن المصري وتوتير الأوضاع بين مصر والولايات المتحدة وبريطانيا وإفساد مفاوضات الجلاء التي كانت تجري بين القاهرة ولندن على قدم وساق.
وعرفت تلك العملية الناجحة باسم “فضيحة لافون” في إشارة إلى بنحاس لاڤون وزير الدفاع الإسرائيلي، في هذا الوقت، والذي أجبر على الاستقالة عقب فشل خطته الخبيثة وكشف رجاله وعملائه والقبض عليهم.
ليس هذا فقط بل إن جهاز المخابرات العامة، قام بواحدة من أجرأ العمليات المخابراتية في سنواته الأولي، بزرع أول عميل له في اسرائيل، والغريب أن هذا العميل كان ضابطا سابقا في الجيش الاسرائيلي، ويدعى “الكسندر يوليه”
وأشرف على هذه العملية، مدير المخابرات العامة، “زكريا محيي الدين” بنفسه، ونجحت مصر بالفعل في اقتناص تلك الفرصة الذهبية لزرع أول عميل للمخابرات المصرية في اسرائيل، وكأن الجهاز يؤكد للرئيس عبد الناصر وللشعب المصري كله، أنه جدير بصدور القانون رقم 323 لسنة 55 والصادر يوم 26 يونيو 1955 بتأسيس المخابرات العامة ككيان منفصل عن المخابرات الحربية وتابع مباشرة لرئيس الجمهورية، فيما يعد الميلاد الثاني للجهاز على الصعيد الرسمي.
وفي عام 56 تولى على صبرى رئاسة الجهاز بعد محيى الدين لعام واحد، ثم جاء بعده أحد أشهر من تولوا هذا المنصب “صلاح نصر”، الذي بدأ في عهده التأسيس الثاني على المستوى المهني والعملي والتقني لجهاز المخابرات العامة المصرية.
قاد صلاح نصر المخابرات العامة، لمدة 10 سنوات، نفذ الجهاز خلالها أهم عملياته ضد إسرائيل، وأصبحت تلك العمليات تدرس فيما بعد، فى معهد المخابرات الدولية، وكان من أشهرها وأهمها عملية لوتز، وزرع أول عميل مصري في قلب اسرائيل وهو رفعت الجمال، أو “رأفت الهجان” كما اشتهر أدبيا ودراميا.
كما أن صلاح نصر كان أول من فكر في انشاء ادارات متخصصة داخل المخابرات العامة، منها إدارة التزييف والتزوير، وإدارة الاتصال التكنولوجي وفك الشفرات، كما أنه سمح لعدد كبير من المدنيين بالانضمام للعمل ضمن صفوف الجهاز، لتغطية الجوانب غير العسكرية والتي تحتاجها عمليات المخابرات ومكافحة الجاسوسية.
وبعد رحيل صلاح نصر، ولأسباب تتعلق بطبيعة المرحلة تولى رجل من طراز خاص رئاسة المخابرات المصرية، هو أمين هويدى الذى ظل على رأس المخابرات لمدة 3 سنوات، وجمع ذلك المنصب الرفيع مع منصب وزير الحربية، للمرة الأولى والأخيرة فى تاريخ مصر.
وأشرف هويدى على تنفيذ عمليات مهمة، منها تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات، وتفجير حفار النفط الإسرائيلى الذى تم تفخيخه وتدمير جزء كبير منه، فى مارس 1968.
ولم تتوقف المخابرات العامة المصرية عن القيام بدورها الوطني، وبرزت أهميتها في الأوقات الحالكة والفترات العصيبة التي مر بها الوطن، فكان لها دورًا قويا ومؤثرا في خطة الخداع الاستراتيجي التي سبقت حرب أكتوبر 1973 خاصة وأن اللواء أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة، خلال حرب أكتوبر، كان قبل تعينه في هذا المنصب مديرا للمخابرات العامة ولمدة 3 سنوات.
كما لعبت المخابرات المصرية دورًا بارزًا في ادارة ملفات مهمة جدا بتكليفات مباشرة من رئيس الجمهورية مثلما حدث في عهد اللواء عمر سليمان والذي أدار الجهاز لمدة 18 عاما، قام خلالها بإدارة ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ومباحثات السلام بينهما بتكليف مباشر من الرئيس الأسبق حسني مبارك.
ونتيجة ما بذله هؤلاء الرجال الأفذاذ من جهد وتفان في سبيل الوطن، نجحت المخابرات المصرية رغم إمكانياتها المادية المحدودة للظروف الاقتصادية التي مرت بها البلاد، في فرض وجودها ضمن افضل 5 أجهزة مخابرات في العالم، جميعها تمتلك امكانيات مالية غير محدودة، وذلك وفقا للتقارير الصادرة عن الجهات المتخصصة.
وتضم القائمة، المخابرات الامريكية (التي تمتلك ميزانية تفوق الموازنة العامة لمصر بالكامل) ونظيرتها الروسية (وريثة المخابرات السوفيتية) والمخابرات البريطانية (التي يتم تمويلها من 3 دول تشكل تحالف المملكة المتحدة) والمخابرات الاسرائيلية (التي يقوم على تمويلها عد كبير من رجال الاعمال اليهود بعضهم يمتلك مؤسسات اقتصادية ضخمة تتحكم في اقتصاد العالم)!