الدكتور شوقي علام يكتب: إن الله يحب المتقين
جاء الإسلام – بل وكل الأديان – بأهداف عليا، ومقاصد عامة، تتمثل في عبادة الله، وعمارة الكون، وتزكية النفس.
وأهم ما يعين المرء على تحقيق هذه الأهداف والمقاصد في الأنفس والمجتمعات، بل وفي بناء الحضارات بشكل متكامل هو التزود بأفضل زاد؛ كما قال العلي الكريم: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197].
والتقوى – كما عرفها العلماء – هي: “العملُ بطاعةِ اللهِ إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعلُ ما أمرَ اللهُ به إيمانًا بالأمرِ وتصديقًا بوعده، ويتركُ ما نهى الله عنه إيمانًا بالنَّهي وخوفًا من وعيده؛ كما قالَ طلق بن حبيب: “إذا وقعتِ الفتنةُ فأطفئوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعملَ بطاعةِ اللهِ، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله، وأنْ تتركَ معصيةَ اللهِ، على نورٍ منَ اللهِ، تخافُ عقابَ اللهِ”. وهذا أحسنُ ما قيلَ في حدِّ التقوى”. فالتقوى شجرة مورقة والفضائل فروعها؛ منها الرحمة والصدق والعدل والوفاء والبذل والعطاء والورع، فإذا ما أينعت تلك التقوى في قلب المؤمن حصد من ثمارها ما تستقيم به حياته وآخرته.
والتقوى في اللغة تعني: الوقاية، وفي الاصطلاح: هي أن تجعل بينك وبين ما حرم الله تعالى حجابًا وحاجزًا؛ قال ابن كثير رحمه الله: “وأصل التقوى التوقي مما يُكرَه؛ لأن أصلها وقوى من الوقاية”، فحقيقتها فعل المأمورات واجتناب المنهيات.
وقال ابن رجب رحمه الله: “وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه”.
ولقد ربط القرآن الكريم بين التقوى والوفاء بالعهد، حتى ما إذا تم هذا الترابط حصل المؤمن على الثمرة؛ وهي الفوز بحب الله تعالى، قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 76]، وقال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 4]، وقال عزَّ من قائل: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 7].
ولأهمية التقوى ومكانتها وصف الله تعالى كلمة الإخلاص بالتقوى؛ فقال تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: 26]، وعليه فقد ألزم الله تعالى الأمة بها؛ فقال عز وجل: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52]، بل إنها كانت وصية الأنبياء لقومهم؛ لما لها من أثر عظيم في نفوس الأمة، ولما تحدثه من فوائد جمة يكون فيها صلاح المجتمعات والأمم؛ قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 16]، وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 177]، بل إن الله تعالى طلب من المؤمنين أن يعبدوه لتحقيقها؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21]، ولعظم مكانتها ولأهميتها فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم مكانها القلب وهو أهم عضو في الجسم، والذي يكون به الصلاح والفساد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «التَّقْوَى هَا هُنَا»، ويشير إلى صدره ثلاث مرات.
وحينما يبلغ المؤمن مرتبة التقوى ينال حب الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 4]، وهذا الحب يتمثل في مجموعة من الثمرات التي ينعم بها المؤمن:
أولها أن صاحب التقوى يكون من أكرم الناس عند الله تعالى؛ قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، ولهذا لا بد أن تكون التقوى هي المعيار الذي يُقَوَّم به الناسك ويقيمون في آنٍ واحدٍ، لا التفاخر بالأنساب، أو التكاثر بالمال، أو التعالي على الفقراء.
وبالتقوى ينال المسلم رحمة الله تعالى؛ فقال عز وجل: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: 155].
كما أنها تكون سببًا لنصرة الله وعونه وتأييده لعباده؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].
وبها يتحقق سعة الرزق، ونيل الخيرات؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96].
ويجد المسلم في تحققها في قلبه تفريج الكرب وتيسير الأمور ودفع كيد الأعداء؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]، قال الماوردي في النكت والعيون: “من يتقِ الله في اجتناب معاصيه، يجعل له من أمره يسـرًا في توفيقه للطاعة”.
وهي السبيل إلى الجنة والمنجى من النار كما وعد ربنا سبحانه وتعالى بأن التقيَّ يكون من أهل الجنة؛ قال تعالى: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 63].
وكذلك تكون بها نجاته من النار؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: 71].
كما أنها تكون سببًا لأعمال كثيرة أخرى، مثل قبول الأعمال الصالحة؛ لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجه تعالى، وهذا الإخلاص لا يتحقق للمرء ما لم يكن تقيًّا.
وبالتقوى يحصل المرء على العلم النافع الذي يعرف به ربه، ويعبده به حق عبادته، ويعرف به حقيقة علاقته بالآخرين.
ولكي تتحقق التقوى للمسلم فلا بد أن ينقيَ قلبه من أمراض القلوب، فلا غلَّ ولا حسد، ولا كبر ولا عُجْب، ولا غش ولا خداع ولا كذب، وعليه أن يكون مطعمه ومشربه من حلال ولا يدخل جوفه الحرام، وأن يحفظ جوارحه عن الحرام، وأن يتقي الله في صنعته، إن كان طبيبًا أو معلمًا أو مهندسًا، أو في أي مهنة أخرى، وأن يجعل الله تعالى أمامه في كل تعاملاته.