الدكتور نبيل فاروق يكتب: دراما الجاسوسية.. لماذا؟
من الظواهر المدهشة، فى عالمنا العربى بشكل عام، وفى المجتمع المصرى على نحو خاص، ذلك الإقبال الواضح، والتفاعل الإيجابى الملموس، مع كل صور دراما الجاسوسية، وبخاصة على شاشة التليفزيون، الذى صار يمثَّل فى عصرنا الحالى، الواجهة الإعلامية الأولى، قوية الانتشار، فى العالم أجمع..
ودراما الجاسوسية تعد أمرا ليس بالحديث، إذ اتخذت بعض الأفلام القديمة تلك السمة، دون مرجعية حقيقية، وما زلنا نذكر فيلم (شاطئ الأسرار)، الذى تم نسب أحداثه إلى جهاز المخابرات حديث العهد آنذاك، على الرغم من أن تلك الأحداث لم تكن تتعلَّق، من القريب أو البعيد، بالعمل الفعلى لأجهزة المخابرات، ولكن دراما المخابرات والجاسوسية، بصورتها الحالية، لم تبدأ فعليا إلا عقب حرب يونيو 1967م، حيث قدَّمت عدة محاولات إذاعية وتليفزيونية، كانت تعتمد فى كاملها على تنمية الشعور الوطنى أو بث الحماسة فى النفوس، والتوعية بضرورة كتمان الاسرار، وحماية المجتمع والجبهة الداخلية، ولكن العامة لم تتفاعل مع الأمر على نحو كافٍ، نظرا لأن شعور الهزيمة كان يسيطر عليهم، وكانت ثقتهم فى القيادة السياسية قد انشرخت، عقب النكسة..
ثم جاء نصر أكتوبر 1973م، وتغيَّرت الصورة دفعة واحدة..
روح النصر أشعلت جذوة الحماسة فى النفوس، وشدَّت ظهور المصريين، وأعادت الثقة فى القيادة، وفى البيانات العسكرية، وذاق الناس، لأوَّل مرة منذ سنوات، حلاوة نصر حقيقى، وزهوة فخر واعتزاز، اشتاقوا إليها طويلا وكثيرا..
وعقب النصر، ظهر أول فيلم، يعبَّر عن دراما الجاسوسية، على نحو مدروس، وينقل صورة فعلية لعمل أجهزة المخابرات، وتقنياتهم، التى كانت مستخدمة فى تلك الأيام، وهو فيلم (الصعود إلى الهاوية)، والذى كان، وما زال، أفضل دراما سينمائية قدَّمت حتى الآن، فى هذا العالم الغامض المثير..
ثم، وبعد عدة سنوات، قدَّم التليفزيون المصرى مسلسل (دموع فى عيون وقحة)، من بطولة النجم (عادل إمام)، ليبدأ حقبة جديدة من دراما الجاسوسية، التى تتجاوز مرحلة التعامل ثنائى الأبعاد، إلى الدراما ثلاثية الأبعاد، حيث تكون لكل الشخصيات أبعاد درامية مؤثرة ومتشابكة، تمتزج بأعمال التجسَّس والمخابرات، لتمنحنا صورة أقرب إلى الواقع، جذبت انتباه المشاهدين، وأثلجت صدورهم، وفجرَّت حماستهم، وخلقت رابطة جديدة بين المواطن العادى وأجهزة المخابرات، تختلف بمائة وثمانين درجة عن تلك الرابطة، التى تكوَّنت عقب نكسة يونيو 1967م.
ولكن التفجَّر الحقيقى للعلاقة بين المشاهد ودراما الجاسوسية جاء مع أحد أقوى المسلسلات التليفزيونية فى هذا المضمار، وهو مسلسل (رأفت الهجان)، الذى نقل تفاصيل معالجة درامية، لأحد ملفات المخابرات الحقيقية، حول أحد أقوى العمليات المخابراتية، وأدى فيها دور البطولة النجم (محمود عبدالعزيز)، وحقَّق نجاحا مذهلا، حتى إن شوارع مصر كانت تخلو تقريبا من المارة، فى أوقات عرض المسلسل، كما أن الحماسة قد تفجَّرت فى كل القلوب والنفوس، مع استعراض المسلسل للعبة الذكاء المدهشة، التى تم من خلالها اختيار شاب متهم بالتحايل، وتدريبه وصقله، واستغلال مواهبه الفطرية، من خلال خبراء المخابرات العامة المصرية، ليتحول بعدها إلى واحد من أهم عيون مصر، المزروعة فى قلب المجتمع الإسرائيلى، ويمارس مهامه بنجاح منقطع النظير، حتى إنه يموت فى النهاية فى فراشه، دون أن ينكشف أمره.
كانت تلك بداية بالغة القوة، لارتباط المشاهد الوثيق بعالم المخابرات ودراما الجاسوسية، وكان لما أعقب هذا من مقالات صحفية، ولقاءات تليفزيونية، واستنكار إسرائيلى، ثم كشف للحقائق والصور، واضطرار إسرائيل ومخابراتها للاعتراف بالأمر أثره الرائع، فى تفجير حماسة الجميع أكثر وأكثر، وارتباطهم على نحو شغفى بدراما الجاسوسية ولعبة المخابرات، حتى إن العديدين من الشباب كانوا يتوجهون، عقب كل إذاعة أو إعادة للمسلسل إلى المخابرات العامة، يطلبون التطوع أو العمل، من شدة حماستهم لهذا العالم.
وتوالت بعدها دراما الجاسوسية، على الشاشتين الكبيرة والصغيرة، وشغف الناس بها أكثر وأكثر لفترة طويلة من الوقت، ثم انحسر الأمر عدة سنوات، قبل أن يعود ذلك الشغف إلى الظهور على نحو ملموس، فى السنوات الأخيرة.
وشغف المشاهدون بدراما الجاسوسية، على الرغم من أن بعضها يحوى الكثير من التطويل أو الأخطاء، يعود إلى عدة أمور مهمة، بعضها درامى ،والبعض الآخر اجتماعى ونفسى تماما.. فمن الناحية الدرامية، يشعر المشاهد أنه يتابع لعبة شديدة التعقيد، كل خطوة منها تحمل مفاجأة، واستمتاعا، وذكاء، وإثارة، ومن المعروف أن لعبة الصراع هى أفضل لعبة تمارس دراميا، وتجذب أى عدد من المشاهدين فى كل دول العالم.
أما من الناحية الأخرى، فالأمر يتجاوز الدراما إلى رغبة كل إنسان فى الشعور بالقوة، وفى استعادة لحظات النصر، حتى آخر رمق، ومع أعمال الجاسوسية والمخابرات يتحقَّق هذا الشعور فى أعلى مستوياته، خاصة أن هذا يرتبط بالحس الوطنى، وبالنصر، وبروح العطاء والتفانى، ويشد ظهور الناس، ويعطيهم الاحساس بأن وطنهم قوى، ومستعد دوما لصد وهزيمة أى محاولة للنيل من أمنه أو استقراره..
ومن الناحية الاجتماعية، فقد تغيَّرت صورة رجل المخابرات وجهاز المخابرات، فى قلب وعقل كل مصرى، مع تواصل تقديم هذا النوع من الدراما، إذ صار هناك احترام كبير وعظيم فى كل النفوس، تجاه رجال المخابرات، وما يقدمونه من أجل أوطانهم، وما يضحون به، من حياة اجتماعية أو أنفس، فى سبيل وطن قد لا يعلن حتى عن تضحيتهم هذه أبدا.
ذلك الاحترام ولَّد فخرا جديدا، زاد من الشغف والإقبال على متابعة دراما الجاسوسية، فى كل مراحلها، وربط بين كل مواطن وهذا العالم المثير، وتلك الأحداث المتشابكة، ذات العلاقات المترابطة، على نحو غير مباشر، وغير واضح للعدو. والأهم من كل هذا، هو أن روح الانتماء الغريزية، فى أعماق كل مخلوق، تفشى بمتابعة دراما الجاسوسية، وتثبَّت فى الأعماق شعور الهدوء والأمان والاستقرار، وهو الشعور الذى ينشده ــ دوما ــ كل مخلوق على وجه الأرض..
ولعل هذا يجيب السؤال.. لماذا دراما الجاسوسية!!.. لماذا؟!