رجاء النقاش يكتب: السيف والمنديل
عندما نراجع تاريخ الأدب الإنساني، نجد أن هناك مدارس متعددة للشعر، وسوف نجد تعريفات للشعر بعدد هذه المدارس الكثيرة، ولن نستطيع أن نصل إلى تعريف واحـد مـشـتـرك يتفق عليه الجميع، وهذا أمر طبیعی، فالناس يختلفون في ثقافتهم وأذواقهم وظروف حياتهم، كما أن أجيال البشر تتعاقب على عصور التاريخ، ولكل جيل من هذه الأجيال همومه ومشاكله الخاصة به، وكـل جـيـل لـه شـعـراؤه القريبون من قلبه، والذين يعبرون عنه ويطربونه، ويخلقون له لحظات من الفرح لا يستغنى عنها أي إنسان، فالشعر الحقيقي الجميل في آخر الأمر هو التعبير عن الفرح بالحياة، وكـل شـعـر لا يخلق نوعا من الفرح والنشوة، هو شعر مغشوش وزائف.
على أن الاختلاف الواسع بين الناس في فهم الشعر وتحديد معناه ومذاهبه الفنية، لم يمنع الاتفاق التام بين البشر على أن الشعر هو ضرورة للناس جميعا، والشاعر الشعبي في بلادنا معروف، وقد كان لهذا الشاعر مكانة مهمة في الريف وسائر البيئات الشعبية، وكان هذا الشاعر قبل ظهور الراديو والتليفزيون، هو البديل الوحيد لهذه الوسائل الحديثة، فكان يروى للناس الملاحم الشعبية الشهيرة مثل «أبوزيد الهلالي» و«عنترة» وغيرهما، وكان يلجأ إلى الحيل الفنية المعروفة في المسلسلات والتليفزيون، فيتوقف كل ليلة عند «لحظة مثيرة»، حتى يجذب اهتمام الجمهور، فيأتي في الليلة التالية وكله شـوق وفـضـول، لمعرفـة مـا جـرى وما صارت إليه الأحداث والصراعات بين الرجال والنساء، وكان الشاعر يروى ويغني معا، ففي الجزء المملوء بالحوادث والتفاصيل، تكون الرواية هي الوسيلة، وفي الجزء الذي ترتفع فيه المشاعر إلى درجة الغليان يكون الغناء هو الوسيلة، والغناء غالبا ما يكون تعليقا على موقف أو حادث أو لحظة فرح أو لحظة حزن وشجن.
هذه الجماهير الشعبية التي كانت تستمع إلى «الشـاعـر» وتـهـواه وتـتـأثر به، لم تكن جماهير متعلمة، ولم تكن تعيش حياة سعيدة مملوءة بالرخاء، بل كانت على الأغلب جماهير تشقى في حياتها من أجل لقمة العيش، ومع ذلك فلم تمنعهـا صـعـوبة حياتها وقلة حظها من الرزق، في أن يكون لـهـا شـاعـرها الذي يطربـهـا ويغنى من أجـلـهـا، فالشعر في حياة البشر ضرورة. وهذا هو ما يتفق عليه الجميع، وإن اختلفوا بعد ذلك في تحديد معنى الشـعـر، وتـحـديـد مـذاهـبـه وألوانه المختلفة، وكثيرون من كبار شعراء العالم يحاولون تقديم معنى للشعر كما يفهمونه، وهم يكتبون قصائدهم بوحي هذا المعنى، وحـتى لو لم يحدثنا الشاعر عن معنى الشعر كما يفهمه، فإن قصائد الشاعر نفسها تنطوي على هذا المعنى، ويمكن أن نفهم من هذه القصائد «معنى الشـعـر» كـمـا يـتـصـوره الشاعر، دون حاجة إلى أن نسمع منه تعريفه الخاص للشعر.
ومن أجـمـل تعريفات الشعر الكثيرة المتعددة، ذلك التعريف الذي يقدمه لنا شاعر «تشیلی» العالمي العظيم «بابلو نيرودا» «1904 – 1973»، وهـو الشـاعـر الكبير الذي نال جائزة نوبل سنة 1976. وقد كان معروفا عن جائزة نوبل على مدى تاريخها كـلـه مـنذ أن بدأت سنة 1901، أنها معادية لكل من كان يبـدو في أدبه وتفكيـره أي «نزعـة يسارية» ظاهرة. والاسـتـثناء الوحيد في هذه الـقـاعـدة هو «نیرودا»، فقد ذهبت إليه جائزة نوبل، رغم أنه كان معروفا في العالم كله بأنه من كـبـار «أهل اليسار»، فقد كان داعية للعدالة، مؤمنا بحق الطبقات الشعبية في الحياة الكريمة، وكان يكتب أشعاره الجميلة لهذه الطبقات، ولكنها كانت دائما أشعارا راقية وجميلة، مما جعل لجنة جائزة نوبل تنحني أمام هذه الأشعار ذات الجمال الطبيعي المتدفق، والتي تفيض بالصدق والحنان على الإنسان، الذي يكافح في كل مجال من أجل قوت أولاده، ومن أجل بعض لحظات الفرح القليلة في حياته وحياة أهله.
وذهبت جائزة نوبل إلى «نيرودا» دون أن يعترض أحد على ذلك، لأن جـمـال شـعـر «نیرودا»، لم يكن موضع خلاف، حتى عند الذين يكرهون اليسار وأهل اليسار.
أراد «نیرودا» في مـذكـراتـه الرائعة أن يقدم لنا معنى الشعر كما يفهمه، فلم يدخل في أي تعقيدات فكرية، بل إنه لم يكن يفكر في أن يشغل نفسه بتقديم تعريف للشعر، إلا عندما وقعت حادثة هزته وهو يعمل سنة 1936 في سفارة بلاده في إسبانيا.
ففي هذا العام اشتعلت الحرب الأهلية الأسبانية، وفي بداية الحـرب قـامـت قـوات الطاغـيـة «فرانکو» بقتل شـاعـر إسبانيا الكـبـيـر «لوركا» «1898 – 1936»، وكان «لوركا» صديقا «لنيرودا»، وعندمـا عـرف «نیرودا» باغتيال صـديـقـه وحـبـيـبـه «لوركا» توقف ليسأل نفسه: ما معنى الشعر؟..
يقول في مذكراته صـفـحـة 221 «تـرجـمـة الأديب الـعـربـي الفلسطيني الدكـتـور مـحـمـود صبح»: «عندما انطلقت الرصـاصـات الأولى فـاخـتـرقت قلب «لوركا»، قيثارة إسبانيا، وانبثقت منها بدل الألحـان نـافـورات من الدم، توقفت أشـعـاری مـثـل شـبح في وسط شوارع الكآبة الإنسانية، ورأيت أني قـد مشيت في دنيا «الشعور بالوحـدة» من الجنوب إلى الشمال، فوجدت نفسي أمام الشعب.. الشعب الذي أراد شعري المتواضع أن يكون له «سيفا ومنديلا» حتى يمكن لهذا الشعر أن يجـفـف الـعـرق بـعـد الجـهـد والآلام الكثيرة، وأن يكون سلاحا له في معركة الخبز».
وبعد هذا التعريف للشعر بأنه «سيف ومنديل»، يقول «نیرودا» عن شعره كلاما هو الشعر نفسه.. فهل هناك شـعـر أجـمل مـن قـول نیرودا عن شعره: «إن شعرى يتهيأ كي يتحدث مع أشباح شمسية في وضح النهار.. إن شعري يتهيأ لكي يسير.. لكي يكتشف أعـمـاق المعـدن المختبئ في سر الأرض. إن شعرى يعد العدة كي يحدد العـلاقـة المنسية بين الإنسـان والخريف. وأحيانا يكون الجو معتما ولكن سرعان ما تنجلي الغيوم وينطلق بريق مشحون، فيه تألق ورعب. إنه بناء جديد بـعـيـد تماما عن كل الكلمات المستعملة والمستهلكة. وهو بناء يشق سطح الهواء إنه قارة جديدة مكونة من أكثر المواد الشعرية سرية.. وهي قارة شامخة في الفضاء وفي تعمير هذه الأراضي، وفي تصنيف هذا الملكوت، وفي لمس ضـفـاف ألـغـازه، وفي إخـمـاد عواصفه وتهدئة أمواجه.. قضيت سنين غامضة، متوحدة، بعيدة…!!
هذا هو كـلام «نيـرودا» عن شعره، بعد أن اهتدى إلى أن هذا الشعر ليس له إلا تعريف واحد هو أن يكون «سيفا ومنديلا»، وفي کلام «نیرودا» عن شعره شيء من الـغـمـوض، ولكنه غـمـوض فـيـه سحر، وفيه بساطة، وفيها طيران بأجنحة شـفـافـة مـثل أجنحة الملائكة، ولذلك فنحن لا نجد صعوبة في فهم كلام «نیرودا» عن شعره، فـهـو كـلام مـثـل كـلام المتصوفين الذين يصرخون من قوة العشق، ويقولون: يا حبيبتي… فنظن أنهم يتحدثون عن امرأة مـحـبـوبة…
وهم في حقيقة الأمر يتحدثون عن غيرها.
وهذا الفهم للشـعـر بأنه «سيف ومنديل» هو الذي جـعـل قـصـائد «نیرودا» نـوعـا مـن الأغـانـي الشـعـبـيـة، وكلهـا أغـان يرددها الناس، ويجـدون فـيـهـا خــبـزا لأرواحهم، أو يجدون فـيـهـا كـمـا يقول «نیرودا»: سیفا في معركتهم من أجل لقـمـة الخـبـز، ومنديلا يجفف لهم عرق الجبين.
وكأني مع هذا الشاعر الإنساني العجيب أمـام شـيـخ من شيوخ الطرق الصوفية الشعبية، يلبس الملابس الملونة، ويضع في وسطه حزاما أخضر، ويلبس فوق رأسه عمامة خضراء، ويقود الجماهير الملتفة حـوله إلى «الرقص» و«الذكر»، تعبيرا عن أفـراح خـارجـة من أعماق النفوس، رغم أن هذه الجماهير «الراقصة» «الذاكرة» لا تملك من نعيم الحياة ويسرها شيئا على الإطلاق… ومع ذلك فهى «ترقص» و«تذکر» في فرح عجيب لا يبرره شيء من ظروف حياتها الصعبة. وتوليد الفرح من حياة مملوءة بالمتاعب هو مـعـجـزة الشاعر، الذي اهتدى عندما سالت دماء صديقه «لوركا» إلى أن الشعر لا شيء سوى سيف ومنديل.