27 يناير 1979.. وفاة الشاعر محمود أبوالوفا الذى عاش «حياة المآسى»
سأل الكاتب الصحفى وديع فلسطين، الشاعر محمود أبوالوفا عن أجره، مقابل غناء الموسيقار محمد عبدالوهاب لقصيدته الجميلة «عندما يأتى المساء» عام 1938 فحكى أنها ثلاثة جنيهات لفها عبدالوهاب كالسيجارة ودسها فى جيبه أثناء توديعه له بمحطة سكة حديد القاهرة، حيث كان مسافرا بالقطار إلى الإسكندرية ليستقل منها الباخرة إلى باريس، قائلا:»متع نفسك بمشروب على حسابي»، وفقا للجزء الثانى من كتاب «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره».
يستكمل «أبوالوفا»، أنه بعد ذلك بسنوات كان يصغى إلى المذياع، والمذيع يجرى حوارا مع عبدالوهاب، وسأله عن أحب أغانيه إلى نفسه، فأجاب» عندما يأتى المساء» للمرحوم محمود أبوالوفا»، فما كان منه إلا أن حاول الاتصال بالموسيقار هاتفيا، ولكن الخادم أجابه بأن الأستاذ ليس فى المنزل، فقال له أبوالوفا: عندما يأتى الأستاذ، قل له إن المرحوم أبا الوفا سأل عنه، وعندئذ سقطت سماعة الهاتف من يد الخادم، ولم يتصل عبدالوهاب للاعتذار عن هذا السهو.
بعد هذه الواقعة بفترة طويلة نشرت الأهرام يوم 28 يناير 1979 فى صفحتها الأخيرة تقريرا مطولا يحمل خبر موت أبوالوفا، قائلة: «توفى فى السادسة من صباح أمس( 27 يناير، مثل هذا اليوم، 1979) فى بيته بمدينة نصر الشاعر الكبير محمود أبوالوفا (78 سنة) بعد أن عاش حياة حافلة بالمآسى رغم كل ما حقق من مكانة فى عالم الشعر ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى كله»، ويذكر «فلسطين» أن جثمانه انتقل إلى قريته «الديرس» بمحافظة الدقهلية، وعلى مقبرته لوحة نقشها فى حياته وأوصى بتعليقها، وفيها يقول:»حسبى إذا الحب أضنانى فمت هوي/ إن يذكرونى قالوا: كان إنسانا».
ولد «أبوالوفا» عام 1901، ويذكر وديع فلسطين، أن مآسيه رافقته من طفولته فعندما بلغ سن الدراسة بعثه أبوه إلى معهد دمياط الدينى، ولم ينتظم فيه إلا ثلاث سنين، وفى العاشرة من عمره أصيبت ساقه اليسرى بعلة اقتضت بترها من منتصف الفخذ، وتوفى أباه فى نفس يوم إجراء العملية من شدة تأثره، وانتقل إلى القاهرة والتحق بالأزهر، وهجره لصعوبة الجميع بين الدراسة وعمله فى حرف متواضعة مثل بيع الفول والخدمة بالمقاهى وبيع السجائر، لكن القراءة كانت هوايته، واستطاع تثقيف نفسه حتى تفجرت ينابيع الشعر عنده بتلقائية، وكانت قصيدته الأولي»الإيمان» التى احتفظ بها فى جيبه ثلاث سنوات، حتى سلمها إلى مجلة «المقتطف» القريبة من محل الفول الذى يعمل فيه، ونشرت فى العدد التالى عام 1930، لتنقلها صحف المهجر، وتتلقى المجلة رسائل إعجاب بها.
فاز بالجائزة الأولى فى مسابقة بين الشعراء أعلنت عنها محطة الإذاعة اللاسلكية للحكومة، عن قصيدة «تغريدة» ومطلعها :»صادحة الروض، ما أشجانا/ نوحى بشكواك، أو نوحى بشكوانا»، ويذكر «فلسطين» أنه أقيم حفل كبير بدار الأوبرا الملكية لتوزيع الجوائز، بحضور أمير الشعراء أحمد شوقى، ولما رأى رجلا بجلباب وعلى عكازين يتسلم الجائزة الأولى، مال على جاره وقال له ما معناه: من سخرية الأقدار ألا يفوز بالجائزة إلا صاحب الجلباب والساق المبتورة، وبلغت هذه العبارة أبوالوفا فغضب، ولما عرف شوقى أقام حفلا لتكريمه بداره «كرمة ابن هانئ»، وأثنى على شعره، وحياه بقصيدة، جاء فيها: «البلبل الغردُ الذى هزَ الرُبي/ وشجى الغصون وحرك الأوراقا/ سباق غايات البيان جرى بلا/ ساقِ، فكيف إذا استردَ الساقا».
فى محطات بؤسه، أنه كان بلا وظيفة منتظمة، وسافر إلى فرنسا بقرار من إسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء لتركيب ساق صناعية، ثم اضطر لخلعها نتيجة آلامه المبرحة، ورغم ذلك توالى إنتاجه الشعرى، وأصبح من أركان «مدرسة أبولو» الشعرية التى أسسها أحمد زكى أبوشادى عام 1932، وكان أحمد شوقى رئيسا شرفيا لها، وضمت شعراء كبار مثل، إبراهيم ناجى وعلى محمود طه، وخليل مطران، وغيرهم، حسبما يذكر فاروق شوشة فى مقاله» جماعة أبولو ثورة شعرية» بمجلة «العربى الكويتية» عدد 691.
فى عام 1932، صدر ديوانه «أنفاس محترقة»، وهاجمه الدكتور طه حسين، واعتبره «نظما» وليس شعرا، وفقا لكتاب «حديث الأربعاء»، ويرى «فلسطين» أن طه حسين اختار الانحياز للشاعر على محمود طه وقتئذ، ومن ثم قسا على أصحاب الدواوين الأخرى التى صدرت وقتها، ومنهم أبوالوفا وإبراهيم ناجى والشاعر المهجرى فوزى معلوف، ويثنى مصطفى عبداللطيف السحرتى عليه، قائلا فى كتابه» الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث»: «محمود أبوالوفا، شاعر حلو الموسيقى، طلق الأسلوب، ومن الشعراء الثائرين على المصطلح اللغوى المبهرج، وديوانه أنفاس محترقة فيه قصائد ننشق منها عطر الشعرية الحقة».
ترك دواوين «أعشاب» و«أشواق» و«أنفاس محترقة»، و«شعري» و«أناشيد وطنية» و«أناشيد دينية» و«عنوان النشيد» و«النشيد»، وفى عام 1967 منحه الرئيس عبدالناصر وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وفى 1977 منحه الرئيس السادات جائزة «الجدارة فى الفنون».
نقلًا عن موقع «اليوم السابع»