الدكتورة لميس جابر تكتب: ملحمة البطولة
لم تكن موقعة 25 يناير 1952 إلا تتويجاً لعدة ملاحم بطولية تكاتف فيها الأهالى مع البوليس المصرى فى تلك الأيام.. وكانت البداية يوم 8 أكتوبر 1951 تحت قبة البرلمان المصرى عندما وقف النحاس باشا ليعلن إلغاء معاهدة 1936 من طرف واحد بعد فشل مفاوضات جلاء الإنجليز عن مصر عدة مرات.. وأُلغيت كل الميزات التى كانت تتمتع بها القوات الإنجليزية فى مصر، وخرجت الجماهير المصرية فور سماعها الخبر فى الإذاعة المصرية إلى الشوارع والميادين تهتف بحياة النحاس وسقوط الإنجليز.
وبدأت المقاومة الشعبية غير المسبوقة، فقد امتنع عمال الشحن والتفريغ فى موانئ القنال عن العمل، وهامت بواخر الإنجليز فى مياه القنال غير قادرة على الرسوّ، ولا على إنزال الجنود والعتاد، ثم انسحب العمال المصريون من المعسكرات الإنجليزية، وكان عددهم أكثر من ستين ألفاً من العمال، وهاجروا إلى القاهرة والأقاليم، وساعدتهم الحكومة المصرية بإيجاد عمل وتوفير سكن، ثم أضرب المتعهدون والموردون لمواد التموين وألغوا عقودهم مع الإنجليز وتحملوا الخسائر الشديدة.. واشتعل غضب الإنجليز المحتلين.
وفى 16 أكتوبر 1951 كانت المعركة الأولى فى الإسماعيلية عندما جُن جنون الإنجليز وأطلقوا النيران على مظاهرات شعبية تحتفل بإلغاء المعاهدة، وسقط شهداء من الأهالى ورجال البوليس، واحتلت بريطانيا الإسماعيلية، ثم عزلت مدن القنال الثلاث، بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وأقامت فيها حكماً عسكرياً بريطانياً، وكان سلوكهم غاية فى الهمجية والبطش، وكانوا يطلقون النار جزافاً على المواطنين فى الشوارع.. وهنا بدأ الكفاح المسلح، وتطوع الشباب فى كتائب الفدائيين، وتولى الفريق «عزيز المصرى» تدريبهم على حرب العصابات لمهاجمة الإنجليز فى معسكراتهم، وتبرع الأهالى بالأموال للفدائيين، ثم تولت الحكومة المصرية بنفسها هذا الدور واعتمدت مائة ألف جنيه للتدريب والإمداد بالسلاح.
وفى 17 و18 نوفمبر 1951 كانت المرة الأولى، وهاجمت القوات البريطانية ثكنات بلوكات النظام (الأمن المركزى) فى الإسماعيلية بالدبابات والمصفحات، وحاولوا اقتحام الثكنات، وقوبلوا بمقاومة شديدة من رجال البوليس المصرى، واستشهد ثمانية من رجال البوليس وخمسة من المدنيين.
وفى 3 ديسمبر 1951 كانت معركة السويس، واستشهد فيها سبعة من رجال البوليس وعشرون من المدنيين، وقُتل من الإنجليز 22 وأصيب أربعون. وفى اليوم التالى، وأثناء تشييع جنازات الشهداء، فتح الإنجليز النيران على الأهالى، واستشهد خمسة عشر من الأهالى ورجال البوليس، وقُتل 24 ضابطاً وجندياً إنجليزياً، وعادت قوات الإنجليز مرة أخرى فى 17 ديسمبر 1951 للهجوم على دار محافظة الإسماعيلية بالمدافع واستشهد اثنان من رجال البوليس المصرى، وقُتل أربعة من جنود الإنجليز.
وفى أوائل يناير 1952 كانت معركة أخرى بـ«السويس»، ثم بعدها فى «أبوصوير» و«المحسمة»، ثم معركة التل الكبير، واحتل الإنجليز التل الكبير وأبوحماد، واقتربوا من القاهرة، واندلعت المظاهرات فى كل مكان بالقاهرة، واشتعلت صدور المصريين.. وجاءت ليلة الجمعة 24 يناير 1952، وفى جنح الظلام احتشدت قوات ضخمة من الجيش البريطانى مع الدبابات والمصفحات ومدافع الميدان وحاصرت مبنى محافظة الإسماعيلية وثكنات بلوكات النظام.
وكان هذا الحصار إنذاراً بأن شيئاً رهيباً على وشك الحدوث. وفى السادسة من صباح 25 يناير 1952 توجه ضابطان بريطانيان إلى منزل ضابط الاتصال المصرى البكباشى «شريف العبد» وطلبا منه مقابلة البريجادير «إكسهام» قائد القوات البريطانية فى الإسماعيلية.. ولما قابله سلّمه إنذاراً طلب فيه تسليم أسلحة جميع قوات البوليس من بلوكات النظام وغيرهم بمبنى محافظة الإسماعيلية وجلاء تلك القوات فى الساعة السادسة والربع من صباح نفس اليوم -أى بعد ربع ساعة- ورحيلها عن منطقة القنال بأكملها.
أسرع البكباشى شريف العبد فأبلغ اللواء «أحمد رائف»، قائد قوات بلوكات النظام، ووكيل المحافظة «على حلمى»، فرفضا الإنذار، ثم اتصل بوزير الداخلية «فؤاد باشا سراج الدين» فى حوالى السادسة والربع صباحاً، فوافقهما على رفض الإنذار، وطلب إليهما عدم التسليم ومقاومة أى اعتداء على دار المحافظة أو الثكنات أو رجال البوليس أو الأهالى، ومقابلة القوة بالقوة والصمود حتى آخر طلقة.
وبعد دقائق عاد «إكسهام» وأبلغ اللواء «أحمد رائف»، قائد البوليس المصرى بالإسماعيلية: «إذا لم تسلم القوات المصرية أسلحتها فوراً فستُهدم دار المحافظة والثكنات على رؤوس من فيها»، فأصر القائد المصرى على الرفض، وأصدر أوامره بالمقاومة حتى النهاية. وبعد دقائق نفذ الإنجليز الإنذار وضربوا مبنى المحافظة والثكنات بالمدافع والقنابل والدبابات والسيارات المصفحة، ودافع الجنود البواسل دفاعاً مشرفاً، وكانت قوة البوليس المصرى لا تزيد على ثمانمائة جندى ببلوكات النظام وثمانين بمبنى المحافظة مسلحين فقط بالبنادق، بينما بلغت قوات الإنجليز سبعة آلاف جندى، ونشبت المعركة الرهيبة، وظهرت فيها شجاعة رجال البوليس المصرى وضباطهم، ولم يتوقفوا حتى نفدت آخر طلقة لديهم بعد ساعتين من القتال المتواصل.
وعاد الإنجليز وأنذروا بأنهم سوف ينسفون مبنى المحافظة على من فيه، وقال لهم الضابط «مصطفى رفعت» قائد القوة: «لن يتسلم البريطانيون منا إلا جثثاً هامدة»، وقاوموا ببسالة، ولم يستسلموا إلا بعد نفاد آخر طلقة لديهم.
أحنى «إكسهام» رأسه احتراماً لرجال البوليس المصرى البواسل وقال: «إن القوات المصرية كلها قد دافعت بشرف واستسلمت بشرف فحق علينا احترامهم جميعاً ضباطاً وجنوداً».
وسقط فى معركة الشرف هذه خمسون شهيداً، وأصيب ثمانون، وأسر الإنجليز من تبقى على قيد الحياة من الجنود والضباط، وعلى رأسهم اللواء أحمد رائف واليوزباشى مصطفى رفعت، وقُتل عشرون من جنود الإنجليز، وجُرح ثلاثون، ودُمرت المحافظة والثكنات تماماً، ولكن فى النهاية استشهد الجندى والضابط المصرى ولم يُلق بسلاحه، واستسلم الباقيون بعد أن صمت السلاح ونفدت الذخيرة. وكان لا بد لهذا الكفاح المسلح أن يتوقف إلى غير رجعة، وبالفعل كان حريق القاهرة فى اليوم التالى لمعركة البطولة هو الحل لإيقاف الفدائيين وإسقاط الحكومة التى ساعدتهم.. ومن يعود لتفاصيل 26 يناير يرى أصابع الإنجليز واضحة فى مساعدة الإخوان لحرق القاهرة وإيقاف كفاح المصريين بعد كتابة لوحات الشرف التى سُطرت فيها أسماء الشهداء من الأهالى الشجعان ورجال البوليس المصرى البواسل.