رجائي عطية يكتب: نوبة صحيان!
من أيام، طالعت على صفحات التواصل الاجتماعى خبراً خطيراً، مشفوعاً بالصورة، عن نفوق أطنان من الأسماك بمياه النيل فى البحيرة وكفر الشيخ، والصورة الملتقطة بالغة التعبير عن فداحة الكارثة، فهذه الأطنان النافقة من الأسماك تعنى أن مياه النيل مسمَّمة أو صارت مسمَّمة، وأن هذا السم سم زعاف، يسرى فى مياه النيل الذى كنا نتغنى به وله فى الأيام الخوالى، وأن سريانه فى مياهه منتشراً طال هذه الأطنان من الأسماك فنفقت!! وذلك يعنى أنه يطال كل الأحياء النباتية والحيوانية والإنسانية التى تتعامل مع النيل ومياهه وتحيا عليها، وأن الموت يسرى فيه سريان المياه التى تجرى فى نهره، وتروى ضفافه، وتروى العطاشى بما تمدهم به ممن يشربون منه مباشرة وهم كُثْر فى ربوع القرى والنجوع وعلى متن المراكب والسفن والقوارب والصنادل، وممن يشربون عبر شبكة مياه الشرب التى تعانى أصلاً من أمراض عضال!
ويومها منذ أربعة أيام علقت مستجيراً، متسائلاً ما آخرة هذه السموم فى حياتنا؟ فى الهواء الذى نتنفسه، وفى مياه نيلنا الذى نحيا عليه، وفى الماء الذى نشربه، وفى النباتات والأطعمة التى نقتات بها! أين الأجهزة المختصة؟ وأين وزراء البيئة والصحة وأرباب الحقائب الوزارية المختصة؟!
بيد أنه مضى على نشر الخبر الخطير يومٌ فثانٍ فثالث فرابع، وهو حادث لا يجوز أن يمر مرور الكرام، إلاَّ أننا لم نسمع خبراً عن حادث بالغ الخطر يحمل الموت والدمار إلى مصر والمصريين، فلم نسمع عن تحقيق ولا عن تحريات وفحوص وبحوث، ولم نسمع صوتاً لمسئول، أى مسئول، فلا تحدث وزير أو وزيرة البيئة لم أعد أعرف وقد تشابه الكل علينا، ولا تحدث وزير الصحة، ولا تحدث محافظ البحيرة أو محافظ كفر الشيخ أو أى من أجهزة الحكم المحلى بالمحافظتين، ولم نسمع أن وزير الحكم المحلى راجع المحافظين أو المحافظتين عن هذا الحادث المنكر وعن هذا الصمت المطبق، ولم نسمع أن السيد رئيس مجلس الوزراء استدعى وسأل وزراءه المختصين، ولا عقد اجتماعاً لمجلس الوزراء لبحث هذا الحادث الخطير الذى صمت وزراؤه وأجهزة وزاراته عن تحقيقه وعلاجه وعلاج الرعب الذى سرى بين أهالى المحافظتين على مياه الشرب، وهو لا بد سيسرى أقصد الرعب إلى باقى محافظات مصر، على الأقل فى اتجاه الشمال من موقع النفوق فى البحيرة وكفر الشيخ باعتبار مياه النيل متحركة تجرى من الجنوب إلى الشمال، ولم نسمع أن مجالس الأمن القومى والدفاع الوطنى والبيئة والطفولة والأنوثة أو المرأة قد اجتمعت لتبحث أسباب وأثر هذه المصيبة التى تمس أمن البلاد وأمن المواطنين وتطال فيمن تطال النساء والأطفال، والشيوخ والولدان، وتحمل السموم إلى أوراق وسيقان النباتات، وإلى قطعان الأغنام والمواشى، وإلى الثروة الداجنة، ومن هذه وتلك إلى الحياة التى نتنسمها، والطعام الذى نقتاته، والأمان الذى صار ضربُهُ يلاحقنا فى كل مكان ومن جميع الاتجاهات!!
كتبت أقول فى اليوم الرابع «صح النوم»، وأتنادى بهذه الأوجاع وبالاستغاثة التى أطلقتها من لحظة طالعت هذا الخبر المشئوم، ولكن لا أحد يجيب!!
النوم فى العسل!
هل صار النوم فى العسل غالباً؟! ولكن أين هو العسل أصلاً حتى ينام فيه النائمون الحالمون؟! هل ظنوا أنه تم إنجاز الخطوة الثالثة من خارطة الطريق ولم يعد فى الطريق شىء يستحق الإنجاز؟! وهل الخطوة الثالثة أُنجرت حقاً، أم أن الإنجاز محض «رصٍّ» و«تستيفٍ»؟! إن ما نراه لا يبشر بأن الخطوة الثالثة أُنجزت على ما يرام أو كما ينبغى أن يكون الإنجاز! وهى قد حملت إلى مصر وبرلمانها العريق صورة مقلقة لا تبشر بخير! فيما يبدو أنه يحتاج إلى النظرة فى الطريق ذاته قبل الخارطة!
لا شىء إذن من العسل يطيب للنائمين النوم فيه، وهم لو كانوا غارقين فى بحر العسل، لأيقظهم هذا الخبر الخطير عن نفوق أطنان من الأسماك بمياه النيل فى محافظتى البحيرة وكفر الشيخ، ولكن لا يبدو أن أحداً قد استيقظ، واستمر النوم الذى صار كأنه الموت الذى بات يتهددنا فى مياه نيلنا التى تلوثت بالسموم ولم يكفنا ما لوثناها به من جيف الحيوانات وإلقاء الفضلات وما تخرجه البطون فى مجراه، وعوادم المصانع والبواخر السابحة فيه، ولا يدرى أحد حتى الآن إزاء حالة النوم فى العسل المستعصية، ماذا عساه يكون قد قُذف به إلى مياهه، ومن وراء هذه الجريمة المنكرة؟! هل هو محض إهمال يُضاف إلى الإهمالات التى تراكمت حتى صارت تكاد تسد عين الشمس؟! أم أنه عمدٌ مقصود لمزيد من قهر مصر والمصريين، ونشر الموت والدمار فى ربوع البلاد وفى شريان حياتها الذى ظللنا نتغنى به وله مئات السنين؟!!
نوبة صحيان
كان من حظِّى بعد أن جُندت عام 1959 لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، أن تواصلت رحلتى فى القوات المسلحة، فالتحقت بالكلية الحربية وتخرجت فيها ضابطاً عاملاً بالقضاء العسكرى، وأمضيت فى صفوفها أحلى سنوات العمر، وتعلمنا فيها الجلد والنظام والإخلاص والإتقان، وتعوَّدنا فيما تعوَّدناه على «نوبة صحيان» التى كانت توقظنا فى السادسة صباحاً بالكلية الحربية من أحلام النوم ودفء الفراش، فنهُبُّ على قلب رجلٍ واحدٍ لنبدأ يوماً مليئاً بالنشاط والحيوية والعطاء والجهاد، ولا يسمح لجنوبنا أن تخلد إلى الراحة إلاَّ مع «نوبة النوم».
يبدو أن هناك «نوبة النوم» قد طالت المسئولين فى بلادنا، فأغرتهم السباحة فيها، ولكنها سباحة ساكنة صامتة، لا روح فيها ولا حياة، بل هو نوم فى العسل، أشبه بالموت الخامد الزؤام الذى لا بارقة فيه!
ويبدو أننا صرنا نحتاج، احتياج لزوم بل احتياج حياة، إلى إطلاق «نوبة صحيان»، لنهُب جميعاً من مرقدنا، ويهُب المسئولون من مراقدهم، لنواجه الحياة بما تستحقه، ونبذل من أجلها ما يجب أن نبذله لنستحق الحياة.
من يطلق نوبة الصحيان؟!
يبدو أنه لم يعد فى مصر من نأمل أن يطلق النفير بنوبة الصحيان، إلاَّ السيد الرئيس، وقد كنت أتمنى أن يتعدد فى بلادنا القادرون على هذه المبادرات، المستعدون للنهوض بها، الأكفاء لإطلاق النفير، المالكون لقدرة التأثير والتحريك، إلاَّ أن تمنياتى ذهبت مع الوقت أدراج الرياح، ولم يعد فى الجعبة مَن نأمل فيه سوى الرئيس الذى من قدره أنه لا يحمل فقط هذه التلال المتراكمة من الهموم والمسئوليات، وإنما يحمل أيضاً هَمَّ جلاء ودعم المحيط حتى لا يحاصره ويبتعد به عن تحقيق الأمانى التى عقدها عليه الشعب يوم أن ولاهّ!
نوبة صحيان يا ناس!!!