الدكتور محمد نور فرحات يكتب: حديث عن الكلمة والضمير
الكلمة الصادقة تشتبك مع الواقع لتقويمه فإن استعصى عليها الواقع عادت إلى الماضى تستلهمه العبر والدروس. ولكى يحافظ الكاتب على اتزانه العقلى حين يغيب الحوار ويعلو صوت القوة والزجر، تصبح العودة إلى الماضى طريقا للبحث عن الأمل. وتنشط كتابة المذكرات فى فترات الإحباط العام. وتلح على الشعوب نزعة اجترار ذكرياتها كلما أعياها واقعها عن العيش فى ظل العدل والحرية. والتاريخ هو المرجل البخارى الذى يتم فى أتونه تراكم القوة الدافعة لتغيير المستقبل للأفضل. والكتابة والقراءة طريقان للتغيير.
أنهكت الحرب السبعينية بين بروسيا وفرنسا فى منتصف القرن التاسع عشر كلا البلدين. فانتشرت النزعة الرومانسية فى الفن والفكر. وانعكست فى مجال القانون فى ألمانيا فيما عرف بالمدرسة التاريخية التى تعتبر أن القانون كاللغة ينموان تدريجيا فى ضمير الشعب. بعض رجال القانون عندنا ناقشوا مسألة تلاشى القانون بتجاهله. كم من قوانين توضع فى بلادنا لخدمة نزوات لحظية للحكام ثم يتجاهلها المخاطبون بأحكامها وينساها الجميع بمن فيهم القضاة، ولا يتم بعثها من مرقدها إلا عندما يريد الساسة ذلك.
تنتشر الرومانسية فى الفكر والأدب والفن كنزعة تعويضية عن الأزمات الكبرى. فى عالمنا العربى حيث ينتشر الجهل والفقر تأخذ الرومانسية أبعادا مشوهة يسعد بها الحكام حينا ويشقون حينا. العودة إلى شكليات الدين عندنا أبرز تعويض عن هزائم الحاضر. لاحظوا كيف اشتدت شوكة الإسلام السياسى بعد هزيمة ١٩٦٧. ولاحظوا أن الحركات الإسلامية فى عصرنا الحديث قد بدأت فور غروب شمس الامبراطورية العثمانية رغم ظلمها وقهرها للشعوب. الإيديولوجية الدينية الطقوسية عندنا هى رومانسية الفقراء المقهورين. ويدعمها استمرار الخاصة من أصحاب المهن الدينية والمصالح السياسية فى الخوض فى النصوص دون تبين حكمتها للحفاظ على مكانتهم ومصالحهم. الدواعش فى داخلنا. والعامة عندنا مستغرقون فى الجدال حول النقاب والحجاب وعمل المرأة وزواج القاصرات.
أهرب من إحباطات الحاضر الذى تصطدم به كلماتى لأستعيد ذكريات الأمجاد الفكرية لماضينا القريب. أتذكر كتابات ورمزيات نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين ونعمات أحمد فؤاد وصلاح الدين حافظ ومحمود المراغى وفيليب جلاب ولويس عوض وجمال حمدان، والجيل السابق عليهم مباشرة من طه حسين وأحمد أمين وعباس العقاد والرافعى والمازنى وشبلى شميل وعبدالحليم عبدالله ومن تبعهم وسبقهم. سلسلة طويلة ذهبية من رواد النهضة العقلية المصرية.
هؤلاء لم يكونوا يثرثرون فيما يقولون أو يكتبون ويلقون أحجار الكلمات الفارغة أو النابية فى الصحف والفضائيات. ولم يكونوا يعيدون إنتاج ما كتبه غيرهم بعبارات ركيكة. بل كانوا يعكفون على الإحاطة بتيارات الفكر ثم يهضمونها فى عقولهم كما يفعل النحل مع رحيق الأزهار فينتج لنا شرابا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس وتقدم لوعى الأمة.
نعمات أحمد فؤاد خاضت بقلمها محاطة بقلوب المصريين معركة فكرية ضد السادات الذى كان يزمع تأجير هضبة الأهرام لمستثمرين أجانب. لم يقل لها السادات إنه لا يريد حديثا فى هذا الموضوع وأنه قد قضى الأمر. وانتصرت فى معركتها بالقلم ضد السيف. وسكينة فؤاد خاضت معركة ضارية من أجل الاكتفاء الذاتى بالقمح وضد مافيا الاستيراد. ولم تطلق عليهما الدولة نباح كتائبها الإلكترونية تحط من قدرهما وتسفه من رؤيتهما.
طه حسين كتب كتابه فى (الشعر الجاهلى) على ما به من جرأة عقلية ولم يواجه بتهمة ازدراء الأديان أو نشر دعايات مغرضة، بل حفظ وكيل النيابة التحقيق لأن البحث العلمى من وجهة نظر النيابة العامة المستنيرة المستقلة سبب من أسباب الإباحة.
كان الجميع يقدرون للكلمة والفكر قدرهما. للراحل العظيم أحمد بهاء الدين مقال بديع فى مجلة (صباح الخير) بتاريخ ٦ مارس ١٩٥٨ بعنوان (من خسائر المهنة) يتحدث فيه عن الجهد المادى والمعنوى الذى يبذله من يمتهن مهنة الكتابة من أجل أن يخط قلمه كلاما ينفع القارئ ويستفيد به علما وفكرا مفيدا.
يحكى لنا الأستاذ بهاء عن رحلته صباح كل أربعاء إلى دور بيع الكتب فى وسط القاهرة. وكيف أنه فى كل مرة يعقد العزم على الاقتصاد فى شراء الكتب توفيرا للنفقات. ولكن ما إن يضع قدمه فى المكتبة وتقع عيناه على منظر الكتب المتراصة المكدسة حتى تذوب وتتلاشى مقاومته. إنه نوع من العشق الصوفى للمعرفة. ما نقابله فى أيامنا هو عشق غوغائى للثرثرة وتجهيل الناس وتغييب وعيهم. نجده يقوم فى إحدى جولاته بالاشتراك فى مجلة (ورلد ريبورت) وقيمة اشتراكها السنوى ثلاثة جنيهات ونصف كاملة. ويخرج من المكتبة بعد أن انهارت مقاومته أمام إغراء الكتب تماما وفى يديه كتب عن: دبلوماسية الشرق الأوسط، وكتاب هافيلوك فى علم النفس، وكتاب عن تاريخ الموسيقى عند العرب، وكتاب تاريخ الحرية لبرتراند راسل، وكتاب الطريق إلى دمشق. لاحظوا تنوع الاهتمام بالمعرفة عند كاتب فذ. ويقاوم الأستاذ بهاء فى جولته لشراء الكتب الذهاب إلى الناحية المقابلة من الطريق حيث مكتبة هاشيت التى تبيع الكتب الفرنسية، فقد دفع حتى الآن ثمنا لكتبه أحد عشر جنيها كاملة ولم يتبق معه للمعيشة إلا النزر اليسير. يقول الأستاذ أحمد بهاء الدين إن لكل مهنة تكاليفها. فممارسة الرياضة مثلا لها تكاليفها من أدوات وملابس ولكنها تعود على أصحابها بالرشاقة والصحة والنشاط والحيوية. أما مهنة الكتابة فلا تعود على صاحبها إلا بإرهاق الصحة وضعف النظر (دفع أحمد أمين نظره ثمنا لدأبه على كتابة موسوعته عن تاريخ الحياة العقلية فى المجتمعات الإسلامية).
الكتابة الحقة هى التى تستند إلى معرفة عميقة وتهدف لهدف نبيل. كان أستاذى المرحوم إسماعيل غانم ينبه تلاميذه إلى الفارق بين الكتابة المسطحة التى لا تنقل معنى أو تثير حماسا لفكرة والكتابات التى يكمن تحت كل كلمة فيها علم غزير وهدف نبيل.
الكتابة الحقة نشاط باهظ التكلفة جم المخاطر عظيم الفائدة.الكلمة حملت رسالات الأنبياء وأفكار المفكرين الذين نقلوا مجتمعاتهم إلى الأمام.
كثير من الكتاب كانوا تعساء بين قومهم سعداء وسط حروف كلماتهم والعكس صحيح. كان جان جاك روسو يتلقط رزقه من جمع الزهور البرية من غابات سويسرا وبيعها على مقاهى جنيف. ثم كتب لنا كتابه عن (العقد الاجتماعى أو مبادئ الحق السياسى) الذى ألهم الثورات الأوروبية.
وتعرض أحمد بن حنبل للعذاب فى محنة خلق القرآن على يد خلفاء يدينون بمذهب المعتزلة دعاة العقل. وقتل بشار بن برد والحلاج بسبب ما كتباه. وتعرض ابن رشد صاحب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال) للنفى من موطنه ثم أقيمت المحرقة لكتبه باعتبارها زيفا وضلالا.
مهنة الكتابة وعادة القراءة تصنعان الكاتب المجيد والمواطن الصالح والحاكم الرشيد والمجتمع الحر وهذه شروط تقدم المجتمع. ولكن ليس كل ما يخطه القلم كتابة وليس كل ما تراه العين من حروف يستحق القراءة. وهل يكب الناس على وجوههم فى النار إلا حصائد ألسنتهم. وأضيف: وحصائد أقلامهم. وحصائد اللسان والقلم قد تكون بالكلام الزائف أو بالصمت عن الحق.