الدكتور قدري حفني يكتب: مواجهة الخرافة بالعلم
ارتبطت الليبرالية لدى بحرية التفكير والتعبير؛ ولا أجد حرجا فى الاعتراف بأن ذلك الارتباط قد تكون لدى بعد مسيرة طويلة قاسية كنت خلالها على يقين بأن السبيل الأمثل للتحرر والتقدم والتنوير هو استبعاد السلطة للأفكار الرجعية والخرافية بل الغيبية أيضا،
وليس من بأس فى استبعاد أصحاب تلك الأفكار أيضا؛ ولم أكن بذلك اليقين أريد إلا خيرا بالوطن والمواطنين. لقد كنت وما زلت موقنا بأن انتشار الأفكار الخرافية المناهضة للعلم تشوش على تقدم الوطن.
ولعلى كنت فى ذلك متأثرا مبهورا بخبرة الاتحاد السوفيتى فى هذا المجال؛ حيث أخذ ستالين على عاتقه تعقيم عقول أبنائه من المواطنين السوفيت بحيث تظل تلك العقول نقية لا تلوثها الأفكار الرأسمالية الخبيثة، بأن أقام سدا منيعا يحول دون تسلل أى أفكار خرافية غيبية رأسمالية إلى عقول أبنائه، وتحولت صورة ستالين بشاربه الكث ونظراته النفاذة من كونه رئيسا للدولة إلى صورة الأب الصارم الحريص على حماية أبنائه من كل ما يراه ضارا خبيثا. ودارت الأيام ومضت السنون لأكتشف نص قرار شهير اتخذته اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى خلال عام 1926 جاء فيه: «تعتبر اللجنة المركزية للحزب أن ما يسمى بعلم البيدادوجى سواء من حيث النظرية أو من حيث التطبيق إنما يمثل مواقف علمية زائفة ومعادية للماركسية، وترتكز تلك المواقف أولا وقبل كل شيء على القانون الأساسى للبيدوجوجيا المعاصرة – أى قانون اعتماد نمو الأطفال على عوامل بيولوجية واجتماعية، وعلى تأثير الوراثة – ونوع ما من البيئة غير المتغيرة، ان هذا القانون البالغ الرجعية إنما يتناقض تماما مع الماركسية وتطبيقها فى البناء الاشتراكى.. ان ظهور مثل تلك النظرية لم يكن ممكنا إلا لأن وجهات نظر ومبادئ البيدادوجيا البرجوازية المعادية للعلم قد تسربت دون تمحيص داخل علم التربية السوفيتى، وتهدف تلك المبادئ ووجهات النظر إلى الحفاظ على الطبقات الحاكمة، وتعمل بذلك على اثبات أن هناك مواهب وحقوقا خاصة تبرر وجود الطبقات المستغلة، والأجناس الأرقى بينما هى من ناحية أخرى تأخذ على عاتقها اثبات أن الطبقة العاملة أو الأجناس الدنيا محتوم عليها الاخفاق انفعاليا وبدنيا»
وليست خطورة مثل هذا القرار فى مجرد رفض مدرسة معينة أو الاعتراض على وجهة نظر معينة، ولكن مكمن الخطورة الحقيقى هو أن ذلك الرفض صادر عن هيئة سياسية لا تختص بعلم التربية كما أن ذلك القرار لم يول أدنى اهتمام لمناقشة أفكار تلك المدرسة فى حدود تخصصها والرد عليها بحجج علمية موضوعية متخصصة تثبت فسادها وخطأها، بل على العكس تماما فإنه بصدور القرار أصبح مجرد الترويج لمثل تلك الأفكار خطيئة لا تغتفر. وتعلمت الدرس بعد أن دفعت ثمنا قاسيا: إن استدعاء السلطة لحظر الأفكار الرجعية الخرافية لا يقل خطرا عن استدعائها لحماية تلك الأفكار واعتبارها من المقدسات. قد نبتهج كثيرا بتدخل السلطة للعفو عمن نراه مثقفا بريئا تعسف بشأنه القضاء؛ ولكن استقرار مثل ذلك المبدأ يضعنا فى موقف شديد الارتباك إذا ما قررت السلطة ذاتها العفو عمن نراه مجرما أدانه القضاء. وتذكرت يوما منذ سنوات طوال حين وقف صديق من كبار المثقفين مطالبا رئيس الدولة بالتدخل لوقف ما وصفه بسيل من الكتابات الرجعية التى تتناقض مع توجهات الدولة وتباع على الأرصفة بأقل من تكلفتها؛ فإذا برئيس الدولة آنذاك يقول ساخرا «لو صادرت تلك الكتب لارتفعت أصوات عديدة تدين تدخلى فى حرية المفكرين. لماذا لا تردوا على تلك الأفكار وتفندوها؟»
ترى لماذا لا نهتم بدلا من ذلك كله بالبحث علميا وميدانيا فى أسباب انتشار الأفكار الخرافية. ترى هل صحيح أن السبب فى انتشارها يرجع إلى الترويج لها إعلاميا؟ أم أن ذلك الترويج إنما يرجع لإدراك أصحاب تلك البرامج الإعلامية برواج تلك الخرافات ومن ثم يضمنون جمهورا واسعا من المشاهدين والمعلنين؟
لقد حاول اثنان من أساتذتنا الأفاضل هما نجيب اسكندر ورشدى فام منذ ما يزيد على نصف القرن القيام ببحث رائد فى هذا المجال تحت عنوان «التفكير الخرافي: بحث تجريبي» يقررا فيه بوضوح أن «التفكير الخرافى والتفكير العلمى يتفقان من حيث الوظيفة؛ فكلاهما يستهدف تفسير الظاهرات المحيطة بالإنسان فى بيئته بغية الوصول إلى الوسائل الفعالة التى تساعده على التحكم فى البيئة وتأمين حياة الناس والتحكم فى مصائرهم»؛ ولا يتسع المقام لعرض تفصيلى لذلك البحث العلمى المهم ولعلنا نستطيع يوما عرضه مفصلا، وكذلك عرض ما قام به واحد من المؤلفين هو رشدى فام بعد ذلك بسنوات قليلة حين نشر عام 1968بحثا بعنوان «الاتجاهات نحو الخرافات» أعاد فيه الاستقصاء ملتزما نفس المنهجية العلمية المدققة ليرصد ما طرأ من تغيير؛ فإذا به يكتشف على سبيل المثال أن الخرافة المتعلقة بالشفاء من الملاريا بحرق قنفذ فى حجرة مغلقة واستنشاق الدخان؛ قد انخفضت مصداقيتها تماما بعد أن توافر علاج رخيص فعال للملاريا.
خلاصة القول إن محاربة التفكير الخرافى لا يمكن أن تؤتى أكلها إلا بتوفير البديل العقلانى للخرافة بتواضع ودون غطرسة وبعيدا عن استعداء السلطة.