الدكتورة لميس جابر تكتب: قدرك يا مصر
متفردة فى الحضارة وفى أصالة شعبها ووعيه وصلابته، ومتفردة أيضاً فى عدد مَن غزوها واقتحموها واحتلوها من الشعوب والأجناس منذ آلاف السنين..
مصر الثابتة بحدودها منذ سبعة آلاف عام غير قابلة لشق الصف ولا للتقسيم ولا التفتت.. عصية على الحروب الأهلية.. لا تحمل بداخلها اختلاف المذاهب ولا الأعراق..
لذلك تحطمت عند أعتابها مؤامرة القرن الواحد والعشرين التى أطلقوا عليها اسم الدلع الشهير بالربيع العربى الذى تحول إلى جحيم عربى لا يدرى أى منا متى ينتهى وإلى أى شكل من أشكال البلاد وحدودها سوف يظهر بعد رفع أنقاض الدول ودفن الضحايا.
مصر كانت أول دولة مركزية فى العالم وأيضاً أول دولة تعانى الاحتلال وكان احتلال البدو الرعاة المعروفين بالهكسوس وكانت ملحمة التحرير مليئة بالبطولات والتضحيات من أول ملوك طيبة وحتى نسائها اللاتى قيدن ووضعن على أسوار طيبة المحاصرة فكن يصرخن للجنود المصريين «اقتلونا وادخلوا»، وعند احتلال الإغريق خاف المصريون على ثقافتهم ولغتهم وديانتهم وقرروا بناء معبد من تبرعاتهم ودون أوامر من أحد وظلوا عشرين عاماً يكتبون على جدرانه كل ثقافتهم الدينية وأسطورة إيزيس وأوزوريس ومبادئ علومهم حتى رسموا أدوات الجراحة..
هذا هو معبد «إدفو» الذى صنع له شادى عبدالسلام فيلماً بعنوان «الحصن»، نعم فالثقافة حصن منيع ضد الاحتلال بقى محفوظاً حتى اليوم..
وتوالى الاحتلال من الرومان ثم الفتح العربى ثم عصر المماليك وكان أسوأها الغزو العثمانى المتخلف الفظ الذى ظهرت معه أولى محاولات شق الصف المسيحى المسلم وكانت أسود سنوات مصر إلى أن جاءت أيام محمد على، الذى لم يفرق بين دين ولا مذهب ولا عرق، وجنّد فى الجيش المصرى المسلم والمسيحى، حتى إن بعض الأتراك أطلقوا عليه «باشا النصارى» لأنه كان يستعين بمن ينفع مصر من الفرنسيين والأرمن ولا يخلط بين بناء الدولة والدين..
ثم جاء الاحتلال الإنجليزى الذى تبنى سياسة «فرق تسد» بين المسيحى والمسلم، حتى إنهم فى تصريح 28 فبراير 1922 وضعوا شروطاً لبقائهم فى مصر من أجل حماية الأقباط وقامت عليهم ثورة 1919 وخطب القمص سرجيوس فى الأزهر قائلاً: «إن كان وجود الإنجليز فى مصر من أجل حماية الأقباط فأنا أقول ليمت الاثنان مليون قبطى وليعش المصريون المسلمون أحراراً»، ورفرف علم الثورة حاملاً الهلال مع الصليب، واندحرت خطة الإنجليز تحت راية الوفد المصرى الذى احتضن القبطى والمسلم حتى فى قياداته..
ودفعت مصر من أبنائها الآلاف، ولم تفرق نيران الأعداء بين المسلم والقبطى لا فى أيام المظاهرات ضد الإنجليز ولا فى حرب الفدائيين فى خط القنال قبل 1952 ولا فى حرب 1956 ولا فى 1967 ولا فى العبور العظيم فى 1973 باءت كل المحاولات بالفشل..
ومنذ فتنة «الزاوية الحمراء» فى أيام السادات توالى الإرهاب يضرب فى قلب وحدة المصريين لتسقط.. ولكن نحن ما زلنا صامدين، وتجددت فى حادثة القديسين بالإسكندرية لتشتعل الفتنة مع 25 يناير، والذى فجر كنيسة القديسين موتورون فلسطينيون من جيش الإسلام دخلوا إلى أرضنا من أنفاق الموت والخراب وقتل فيها 23 قبطياً وثمانية من المسلمين المدنيين وضباط الشرطة، ثم أحرق الإخوان الملاعين خمساً وسبعين كنيسة بعد 30 يونيو وهجّروا أقباطاً من قراهم وأشعلوا الفتنة فى عدة قرى، وتخيلوا أنهم يدقون إسفين الفتنة والانشقاق وصمدت مصر.. وقال البابا: «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن»..
والآن اتسعت أركان المؤامرة ما بين الإخوان وبعض البلدان العربية التى تحلم بزعامة المنطقة على حساب جثث العرب فى العراق وسوريا واليمن وأيضاً مصر.. وكم من أحلام تتلاشى مع أولى ساعات الصباح، هم يغازلون رجل تركيا الأخرق الذى يلبس ثوب السلطان العثمانى ويبيع لهم سلطان الحريم ويأخذ أموالهم لداعش والإخوان بأمر المحرك الأكبر الذى أوشك على ترك البيت الأبيض إلى غير رجعة..
كل هؤلاء يلفظون أنفاسهم الأخيرة.. حاولوا محاولات المهزوم اليائس، أرسلوا الصبى المعتوه الذى فجّر نفسه ليذهب إلى الجنة والذى حوّل كنيسة الصلاة والعبادة إلى قاعة من الأشلاء والدماء والصرخات والأنقاض واهماً أن ذلك من أجل الجهاد والإسلام.. مولوا ودربوا ووجهوا.. وخرجت الجنازة يتقدمها الرئيس بجوار البابا بجوار رجال الدولة ورجال القوات المسلحة ونواب مصر.. جنازة من المصريين فقط ساروا خلف النعوش الملفوفة بعلم مصر..
نحن بمفردنا يا مصريين وسط نيران من الجيران والأجانب يسعون لنهش أجسادنا ليتمكنوا من المنطقة بأسرها.. ليس لنا الآن سوى أن نكون بمفردنا.. نتلاحم ونتكاتف.. نكون على وعى بما يدبر لنا وما يدفع من أجل إسقاط مصر وطننا الذى لا نمتلك غيره.. لن تكون هذه الحادثة هى الأخيرة، والمحاولات مستمرة والصمود ثم الصمود هو طريقنا الوحيد، نحن فى حالة حرب شرسة.. وما هى الحروب غير شهداء تتوالى وحصار اقتصادى وحرب بالبترول والإرهاب والدولار والتفجير والدماء والأشلاء..
قدرنا.. وقدرك يا مصر أن تدفعى دائماً من أجل البقاء..
وبإذن الله مصر باقية قوية إلى ما شاء الله.