الدكتور محمد نور فرحات يكتب: هؤلاء أساتذتى الذين علمونى.. وهكذا تعلم جيلنا!
من علمنى علما نافعا صرت له ابنا ومريدا لأنى أحمل بعض فكره. ولا يمكن أن أكون عبدا لمعلمى فالمعرفة حرية ولا عبودية فى العلم.
وإذا كان أرسطو هو معلم الإنسانية الأول فقد كان أبى معلمى الأول. كان شيخا أزهريا حاصلا على عالمية الأزهر (يسمونها الدكتوراه الآن مع أن لقبى العالمية والشيخ أكثر وقارا). كان تعليمه لأولاده أكثر أهمية عنده من الطعام الطيب والملبس الفاخر والمسكن المريح. ومن حسن حظه أنه علمهم، وهم كثر، فى وقت طبقت فيه شعارات طه حسين عن مجانية التعليم كالماء والهواء. ولا أذكر أننى دفعت مصاريف للتعلم. حتى المصاريف الرمزية للجامعة ردت لى لتفوقى.
غرس أبى فى ضمائرنا الشعور الدينى المستقر. وكان يوصينا بتقوى الله وحسن الخلق، ولا أعرف مدى التزامى بوصيته. كان يوقظنا فجرا للوضوء وللصلاة وقراءة ما حفظناه من القرآن رغم برودة الشتاء. وكرد فعل لتربيته الصارمة نمت لدىّ نزعة ملحة للتساؤل عن كل ما أراه منافيا للعقل والحرية. كان يأمرنا أن نقرأ بصوت عالٍ صفحات من كتب الأقدمين ومعاجمهم ويناقشنا فيها. وكان يحيرنى دائما كيف بدأ كعب بن زهير قصيدته فى مدح الرسول وطلب عفوه بالغزل فى محبوبته (سعاد) ووصف عوارضها. وكنت أسأل أبى عن ذلك فيبتسم ولا يجيب. كنت أختلس من مكتبته سرا الطبعة الأصلية المهلهلة من كتاب ألف ليلة وأقرؤها مبهورا مسحورا. هذه كانت تسليتنا العقلية فى وقت لم تكن قد تسلطت فيه وسائط الإعلام على العقول. وكان دعاؤه لنا أن يجنبنا الله فى مستقبلنا خنوع الوظائف الحكومية ونفاقها، وأن نتعود قول الحق حتى ولو فى وجه السلطان. فهل أجاب الله دعاءه؟.
أحدثكم عن أساتذتى فى التوفيقية الثانوية. كنا نقضى وقتنا فى فصولها وملاعبها ومسبحها ومعاملها ومكتبتها أكثر مما نقضيه فى بيوتنا. ذاكرتى ما زالت تحتفظ بذكرى مدرس الفلسفة الماركسى ذى الشارب الكث الذى كان يقضى طورا بين تلاميذه يعلمهم الفلسفة وآخر فى السجن ثمنا لما يعتقد، ومدرس اللغة العربية الذى كان يعتبر الخطأ فى الإعراب اعتداء على كرامته الشخصية، وكان يفرد لى فى حصة التعبير الشفوى ربع ساعة أحدث فيها طلاب فصلى حديثا حرا كنت أبدؤه دائما بعبارة راقت لى (ربما قرأتها فى عبرات المنفلوطى) تقول: (يا لقسوة القدر ويا لرحمة الله). أذكر أيضا مدرس اللغة الإنجليزية الذى كان يشبه فى وسامته أمراء قصر باكينجهام وكان يدرس لنا رواية «العم سايلاس» ومقتطفات من شكسبير بحب غامر، ومدرس اللغة الفرنسية الذى علمنا الفرنسية من كتاب (مون ليفر) وحكاياته عن أسرة مسيو حسن. أما مدرس التاريخ فكان يقود مظاهراتنا منطلقين وراءه نردد الهتافات تعبيرا عن رؤيتنا السياسية للأحداث ومنها الاستقلال التام أو الموت الزؤام الذى لا أعرف معناه.
كنت مترددا بعد حصولى على الثانوية بين دراسة الصحافة أو الفلسفة أو الحقوق. واستقر الأمر فى الكلية الأخيرة وإن كانت التخصصات الثلاثة قد امتزجت فى عملى لاحقا.
فى هذه الكلية تتلمذت على أساتذة تعلمت منهم أن القانون علم عقلى واجتماعى وليس مجرد أوامر، علم دراسته فخر وعزّة. درست القانون الجنائى على محمود مصطفى. كان رجلا شديد الاعتزاز بعلمه والخيلاء بنفسه والشعور بالسمو. ورغم صعوبة مادته فلم تكن تسمع فى محاضرته همسا. تعلمنا منه أن القانون ليس مجرد تشريع يصدر كيفما اتفق بل علم له ركائز قوية من العدل والحرية والمواءمة وحسن الصنعة. وكان يسخر ممن يؤثرون كرسى الوزارة على العمل بالجامعة. استذكرت مادته من كتاب الدكتور السعيد مصطفى وكتاب الدكتور نجيب حسنى ونجحت بتفوق. لم تكن تجارة الكتب قد عرفت بعد. كان الأستاذ فى محاضرته الأولى يكتب على السبورة قائمة بالمراجع ومنها مؤلفه وللطالب حرية الاختيار. وكانت كل الكتب موجودة فى مكتبة الجامعة للقراءة والاستعارة. درست القانون المدنى على الأساتذة عبد الفتاح عبد الباقى الذى علمنا أن القانون كالكائن الحى يولد ويحيا ويمرض ويموت.علمنا أيضا سليمان مرقص وعبد المنعم البدراوى وعبد المنعم فرج الصدة ركائز القانون المدنى وهو أب القوانين. وهؤلاء جميعا تلاميذ السنهورى وريبير وبلانيول والرعيل الفرنسى الأول من أساتذة الحقوق. ودرست الاقتصاد لدى زكى شافعى وسعيد النجار ورفعت المحجوب ولبيب شقير. كان لسعيد النجار أسلوب محبب فى التدريس والكتابة يجعل من المادة الجافة سلسة مسلية (زاملته بعد عقود فى جمعية النداء الجديد). وكنا جميعا نتوقع لرفعت المحجوب ولبيب شقير مكانا فى العمل العام وقد أصبحا رئيسين للبرلمان. أما كبار رجال القضاء فكانوا يختبروننا شفويا ويشرحون لنا فى الأقسام أهم الأحكام القضائية ويحللونها. درست تنازع القوانين على جابر جاد عبد الرحمن الذى كانت له مجادلات مع عبد الناصر فى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية. ودرست القانون التجارى على رائده فى العالم العربى محسن شفيق.
كان للشيخ أبو زهرة أستاذ الشريعة مكانة فى قلوبنا رغم قسوته. كتابه فى فقه الزواج حبب لنا دراسة الشريعة. وكانت له مواقف محافظة فى القضايا العامة وحقوق المرأة. وله سجالات حادة مع الزعيمة النسائية درية شفيق مثل سجالاته مع أحمد بهاء الدين.
من أعظم ما قرأت كتاباته عن تاريخ المذاهب الفقهية الإسلامية، وكتاب الشيخ سلام مدكور عن مناهج الاجتهاد فى الفقه الاسلامى. وكان الشيخ أبو زهرة عندما يشرع فى شرح أمور تتعلق بفقه النساء يأمر طالبات الدفعة بالانصراف. فيتجمعن أمام المدرج مطالبات بالمساواة ويفرقهن بالتلويح بعصاه. أما أصول الفقه فقد درسناها على الشيخ زكريا البرديسى. ومن فرط حبنا لمحاضراته تفوقنا جميعا فى مادته. ودرسنا مادة قانون المرافعات وهى مادة جادة صارمة على العلامة رمزى سيف وتلميذه فتحى والى الذى كان شابا وسيما عائدا لتوه من بعثته متأثرا بالفقه الإيطالى. أما فؤاد رياض مدرس القانون الدولى الخاص فقد كان مثالا لنا بخلقه الراقى وأدبه الجم وعباراته الرشيقة ووسامته التى جعلته فتى أحلام زميلاتنا فى صمت.
كان حامد سلطان فى القانون الدولى العام أستاذا عالميا أرستقراطيا. له كتاب موسوعى هو (القانون الدولى العام وقت السلم). وحاضرتنا بدماثتها الراقية الدكتورة عائشة راتب فى مادة المنظمات الدولية. واشتهرت بالدعوى القضائية التى رفعتها حتى تُعين بالقضاء وصدر الحكم برفض دعواها رغم إقرار المحكمة بأحقيتها دستوريا ودينيا. قيل إن الظروف الاجتماعية وقتئذ لا تسمح، وما زال الحال على ما هو عليه.
كان عثمان خليل يحاضرنا فى هدوء وهمس فى القانون الإدارى ومبدأ المشروعية وخضوع الدولة للقانون. وكان طعيمة الجرف يحاضرنا فى الدستور والحريات. الأول سافر إلى الكويت وأرسى دعائم قضائها ووضع أغلب قوانينها الحديثة، والثانى ارتقى مدارجه فى الاتحاد الاشتراكى العربى.
وتتلمذت بالفرقة الرابعة على مدرس شاب للقانون التجارى عائد لتوه من الخارج ربطتنى به صداقة وطيدة فيما بعد هو الدكتور ثروت أنيس الأسيوطى. كان باحثا راهبا فريدا فى جلده وصبره على البحث، ويجيد أغلب اللغات الحية. ومنه تعلمت أن القانون يرتبط بالمصالح الراجحة فى المجتمع وأن القانون سياسة القوة والمصلحة وليس نصوصا مقدسة. كتب فى القانون التجارى وصراع الطبقات وفى نظام الأسرة بين الاقتصاد والدين وفى الملكية فى الإسلام وفى تطور فلسفة القانون والتجريم والعقاب. وتلقى لوما من إدارة الكلية يوما لأنه قام بتنظيف البالوعة فى بهوها بيديه بعد أن فاضت مياهها دون مغيث. وسافر إلى الخارج يجوب جامعات العالم واختفى كالإمام الغائب.
كانت علاقة الطلاب بالطالبات علاقة أخوة حقيقية. كانت فى دفعتنا طالبتان عضوتان فى اتحاد الطلاب. إحداهما من الصعيد شديدة الأناقة والجمال العربى، والأخرى من أسرة حضرية عريقة إغريقية الملامح. ومثلما ينقسم المشجعون اليوم بين الأهلى والزمالك كنا منقسمين فى الإعجاب المهذب بواحدة من الطالبتين الفاتنتين دون أن يتحول الإعجاب إلى ما يخدش الحياء.
كثير من أساتذتنا كان يستقل معنا المواصلات دون حرج. ولم يكن يملك سيارة من أساتذتنا إلا القليل.
كان يزاملنى الطالب محمد مصطفى البرادعى. سألته بعد التخرج عن وجهته رد فورا: إلى الخارجية مما أثار دهشتى لأن أباه كان نقيبا للمحامين. كان المتفوقون منا يحلمون بالمناصب القضائية. لم يكن أحد منا يبحث عن واسطة للتعيين. وأغلب جيلنا من رجال القضاء أو الجامعات من أبناء متوسطى الحال والفقراء. كانت نتيجة الليسانس ترسلها الجامعات إلى الهيئات القضائية وتقوم هذه بإرسال خطابات الترشيح إلى الخريجين حسب مجموعهم فى التخرج. وكان الاختبار الشخصى يعقد للمرشحين لا لتلقى الوساطات وإنما للتأكد من عدم وجود عيوب شخصية فى المرشح. وكان الأوائل يخيرون بين مناصب المعيدين بالجامعة والسفر فى بعثات دراسية للخارج وبين التعيين فى المناصب القضائية. أما الباقون فقد كان العمل بالوظيفة العامة عن طريق التقدم فى مسابقات مفتوحة بديوان الموظفين أمرا متاحا على قدم المساواة. وأكثرنا جرأة وثقة بالنفس كان يتقدم بخطى ثابتة نحو القيد بنقابة المحامين.
أما أنا فقد كان لى طريق آخر لم يخطر لى يوما على بال.