الدكتور رفعت السعيد يكتب: كامل الشناوى وعبدالناصر واليسار
اختطفتنى الكتابة عن الانتخابات وهمومها وأخطائها وتلال أموالها من الكتابة عن شخص عزيز جداً إلى قلبى، وعن حكايات له مع عبدالناصر ومع اليسار، لعلها ليست معروفة. وقد أتت علاقتى بكامل الشناوى عبر مرحلتين، الأولى ما سمعته عنه فى السجن من أخبار ومعلومات لم ينطق بها أحد، والثانية عندما عشت ليالى عديدة فى موكبه الذى كان يتهادى فى شوارع القاهرة محاطاً بعديد من الصحفيين.
وأستأذن فى أن أبدأ بالجولات الليلية.
ففى نهايات عام 1964 وبعد الانطلاق من سجن طويل المدى كنت أعمل فى مؤسسة أخبار اليوم، وبالتحديد فى الطبعة الثانية، وكان مايسترو هذه الطبعة صحفياً ممتعاً صريحاً دوماً، واسع العلاقات بالفنانين وكبار الكتاب وصديقاً لهم جميعاً هو المرحوم سامى جوهر، ومهمتنا تبدأ ليس وفق موعد محدد وإنما كان الترتيب غير المعلن أن تطبع الجريدة ومع إفلات أول نسخ من الماكينة تعد ثلاث لفافات وتنطلق بها ثلاثة موتوسيكلات، الجميع ينطلقون إلى بيت عبدالناصر. أما لماذا ثلاثة؟ فلكى نتلافى أى حوادث قد تؤخر وصول النسخ وعادة ما كان عبدالناصر ينتظر بنفسه هذه النسخ أو يفوّض أحداً بذلك. وبعد ذلك نظل منتظرين وعلى رأسنا أستاذ الأساتذة فهمى عبداللطيف وسامى جوهر حتى تأتى ملاحظات الرئاسة أو تصحيحاتها وإذا لم تأت حتى الثانية تدور المطبعة ثانية.
وبعدها اعتدت أن أذهب صحبة سامى جوهر إلى «نايت آند داى» وكان منزوياً فى الدور الأرضى لـ«سميراميس» القديم، وهناك كامل بك وشلّته. فى أول لقاء تجهّم ومال على أذن سامى جوهر واستمع إلى همسته وابتسم وقال: طبعاً تعرف الواد صلاح حافظ، وقلت إنى كنت معه فى سجن جناح حيث جاءت رسالتك.. وارتفع أصبعه إلى فمه محذراً إياه، وتعلمت الصمت. ويقتادنا كامل بك ينادى الجميع بأسماء دلع، فسامى (سمسم)، أما أنا فينادينى وأنا الأصغر سناً «يا واد»، ونمشى فى شوارع القاهرة التى قال كامل بك «إنها مدينة ليلية»، ونصل إلى محبوبته حوارى الحسين والنحاسين والجمالية.. هو يختار ويأمر نأكل «أحسن نيفه» فى النحاسين وأحسن فول عند «الجحش» فى «السيدة». وفهمت أصل الحكاية؛ فقد كان كامل بك يخاف من النوم ليلاً ويتوهم أنه سيموت لو نام ليلاً فلا ينام إلا مع سطوع النهار، وعندما كنت أتململ راغباً فى الرجوع منفرداً كان يصرخ» «اقعد يا معارض. إنت يا ولد ضد الحكومة؟ نور الشوارع لسه والع».
وعندما طُردت من «أخبار اليوم» مع رحيل الأستاذ خالد محيى الدين كان العقاب الأكبر أننى فقدت عادة السهر اليومى فى رحاب كامل بك.
والآن أستأذن فى العودة إلى الحكايات، فصلاح حافظ فى خيمتنا المشتركة فى سجن جناح، كان لا يكف عن الحديث الهامس عن كامل بك، ومغرماً بالأغانى التى كتبها وكثير منها بعيد عن التداول، وكان «صلاح» يغنيها لنا بصوته الجميل. ويحكى «صلاح» عن بداية علاقته مع كامل بك فى جريدة القاهرة المسائية حيث تجمع عدد من الصحفيين اليساريين صلاح وحسن فؤاد أبوالعينين وجمال كامل وحسين فهمى (وكان يوقع مقالاته النارية ضد النظام الملكى «أبوالحُسن»)، وكامل بك يرحب ويشجع ويستحث على المزيد من السخونة حتى كان حريق القاهرة (يناير 1952) وإعلان الأحكام العرفية وحظر التجول، وفوجئنا نحن أعضاء منظمة «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى- حدتو» بجريدة «الانتصار» السرية وكان يحررها آنذاك الرفيق «دبوس» (صلاح حافظ) بقصيدة فى الصفحة الأولى ولم تعتد النشرات السرية على نشر قصائد، لكن القصيدة التى قال لى «صلاح» فى خيمة السجن إن كاتبها كان كامل الشناوى (وكان الكلام همساً وسراً فالشيوعيون فى السجون والنظام سيتشكك فى من كان يتعامل معهم حتى فى زمن فاروق. فقد أصابه كما قال «فيروس» اليسار).. أما القصيدة فتقول متهكمة على حظر التجول:
«قال لى الحارس قف من أنت فى صوت مدوى / قلت قل من أنت يا حارس قبلى
وسلاحك الفاسد المنهوك صوّبه إلى من أرسلوك / لا إلى السارى فقد ترمى بيمناك أخوك».
وفى العدد الثانى قصيدة أخرى اشتهرت دون معرفة كاتبها الذى تهكم فيها على نظام مهتز ويعرف توجها وفيها مخاطباً الحكام يقول:
«يا ترَسْمِلونا، يا تبلشِفونا / ينعل أبوكو على أبونا».
والآن تمتزج «همسات» صلاح مع ما سمعته من همسات كامل بك من فمه إلى أذنى وحدها، فقد استدعى عبدالناصر ذات يوم رؤساء تحرير الصحف وكانت جميعها حكومية وكامل بك رئيساً لتحرير الجمهورية وبعد عدد من التوجيهات سأل كامل بك وباحترام «إيه آخر نكته يا كامل بك؟»، (وكان كامل الشناوى مصنع نكت تتدفق باستمرار)، فرد كامل: معرفش يا سيادة الرئيس أنا مليش دعوة بالنكت. فأصر عبدالناصر، فقال كامل «إدينى يا ريس منديل الأمان»، (وهو تقليد قديم)، فأخرج الرئيس منديلاً من جيبه وأعطاه له، فقال «كامل» آخر نكته، وهى أن الرئيس منع مسّاحات السيارات لأنها مع حركتها تشير إلى حركة الأصابع بـ«لا». ابتسم عبدالناصر بقرف وقال بحسم: «خلاص، تبقى دى آخر نكتة»؛ وفهم كامل وقال «حاضر»، لكنه قال للرئيس: الواد صلاح حافظ فى السجن وواخد 8 سنين، وده ولد زى الفل، أرجوك يا ريس يخرج وأنا أضمنه. وسأل الرئيس: «تضمنه؟»، فقال «برقبتى». وقال الرئيس خلاص سيخرج. وتسلم صلاح حافظ رسالة بالبريد من كامل بك تقول إنه سيخرج سريعاً وأن الرئيس وعد. وظللنا ننتظر. أما «صلاح» فكان منهمكاً فى كتابة رواية جميلة عنوانها «الرحلة». ومضت أشهر ولم يخرج «صلاح». وبعدها استدعى الرئيس رؤساء التحرير، وفى الاجتماع قال كامل بك بتردد «يا ريس الواد صلاح مخرجش»، فرد عبدالناصر «خرج». وتشجع كامل وقال «يا فندم مخرجش»، فشخط عبدالناصر: «قلت خرج يعنى خرج». وصمت كامل بك لكنه أرسل لـ«صلاح» خطاباً وعلى المظروف «المسجون النزيل صلاح حافظ» وبالداخل «يا ولد يا حمار.. مش لما تخرج من السجن تقول لى». وبقى صلاح معنا حتى آخر أيام السجن.
سلام وتحية إلى المبدع الجميل كامل بك.