أمينة شفيق تكتب: الثمن الذي تقدمه الشعوب
لم يحرز أي شعب في أي وطن تقدمه السياسي ليصل إلي ما وصل إليه من درجة تطور عام اجتماعي أو اقتصادي إلا بعد أن قدم تضحيات علي طول مسيرة كفاحه، سواء كانت هذه التضحيات مادية أو بشرية.
هكذا يقول لنا التاريخ علي امتداده منذ العبودية إلي الاقطاع إلي الرأسمالية إلي التحرر من التبعية والاستعمار حتي في مراحل بنائه لتنمية مستقلة تتجه بغالب نتائجها إلي اشباع حاجة الفقراء.
وربما في تاريخنا الحديث، يمكن التعرف علي جانب من هذه التضحيات إذا عدنا قليلا إلي مراحل التحرر الوطني لنتعرف ان بناء أي مرحلة يقابله تضحيات تقدمها الشعوب. فلكل خطوة تقدم لها ثمنها الذي تحتاجه.
ولا بد ان يدفع هذا الثمن اصحاب الحقوق الأصيلة لهذا التقدم، من كبيرهم إلي صغيرهم.
فالوطن بات وطن الجميع وليس وطن الخاصة.
أو هكذا يجب أن يكون.
وإلي لحظتنا التي نعيشها لاتزال الشعوب تجمع، في كل أركان المعمورة، أن الزعيمين الوطنيين الماهتما غاندي في الهند ونيلسون مانديلا في جنوب افريقيا، امتلكا جانبا كبيرا من مكونات النماذج الانسانية في التضحية الصلبة التي لم تلن.
تختلف أشكال نضالهما الوطني بين سلمية أو مسلحة أو مزيج من الاثنين، ولكن تستمر مسيرتهما الوطنية نموذجا للنضال من أجل الاستقلال الوطني الممزوج بقيم الديمقراطية والحرية والتقدم.
وأخص كلا من غاندي الهندي ومانديلا الجنوب إفريقي لأنهما الزعيمان الوطنيان اللذان، يحصلان علي إجماع ملحوظ يصعب تجاوزه، لأنهما لم يغفلا لحظة تحقيق الاستقلال، أهمية استمرار المشاركة الشعبية التي احتاجها شعباهمافي مرحلة التحرر من التبعية وتمسك الزعيمان بهذه المشاركة في مرحلة ما بعد تحقيق التحرر لضروريات الاحتفاظ باللحمة الوطنية وبالتماسك الاجتماعي اللذين لا يبنيهما إلا التطبيق الديمقراطي الداخلي، بالرغم من كل المشاكل الداخلية في بلديهما.
فالهند ودولة جنوب افريقيا بلدان يتمتعان بتنوع اثني وديني وحتي لغوي كبير للغاية، ومع ذلك فالصراع بين تلك المكونات الاجتماعية هي الاٌقل وسط بلدان كثيرة.
لا أنفي وجود الصراع ولكنه يستمر الاقل بالمقارنة ببلدان اقل تنوعا في الشرق الأوسط.واستمرت قيم الديمقراطية راسخة بعد خروج المستعمر في الهند كما استمرت بعد هزيمة المستبد العنصري في حالة جنوب افريقيا، مما ساعد الشعبين ـ بالرغم من كل المشاكل الداخلية ـ علي استمرار مسيرتهما التي بنيت في الأساس علي قيم ومبادئ الحرية والمساواة والمشاركة.
ومن هنا سميت الهند بأكبر الديمقراطيات ليس بسبب كبر عدد سكانها فحسب وإنما لقيمها الديمقراطية الراسخة منذ عام 1948، عام استقلالها.
ومع الزعيمين، كان شعباهما، الهندي والجنوب إفريقي، وبالرغم من الفارق الزمني بين حركة كل من الزعيمين التحرريتين، يتمتعان بذات حجم الديمقراطية التي تمتعا بها ابان فترة النضال الوطني.
لم يبخل الزعيمان علي شعبيهما بالحرية أو بالديمقراطية.
بات الشعبان واعيين بالمرحلة التي يمران بهاوشرحت لهما من خلال منظمات سياسية ونقابية وأخري شعبية متنوعة.
الفكرة الأساسية أنه بالرغم من الفقر في البلدين وبالرغم من الأمية المنتشرة بين مواطنيها سادت قيم المشاركة والمساواة والطموح التي تساعد الشعوب علي استيعاب صعوبة وخطورة ظروف المرحلة التي تمر بها البلاد، وبالتالي تحمل الشعبان بقناعة وبكل الرضاء كل تبعات التضحيات التي طلبت منهما.
وهي تضحيات متنوعة بين بشرية ومادية. تضحيات تختلف عن تلك الآثار والنتائج السيئة التي تقع يوميا في شكل حوادث ومشاحنات وأخطاء داخلية.
فالتضحيات الوطنية والاجتماعية العامة التي تقدمها الشعوب في مقابل تقدم أوطانها لها قيمتها الوطنية الخالدة التي لا تنسي ولا تغمض الأحداث اللاحقة حقها ولا تنكره. لها مكانها في التاريخ بسبب مكانها الانساني الرفيع في الضمير والوجدان الوطنيين.
وخاصة إذا قدمت من قبل الجميع ولم تفرق بين المواطنين بسبب العرق أو الدين أو المستوي الاجتماعي أو النوع الاجتماعي أو الانتماء السياسي. فالكل يقدم التضحيات الغالية التي لا تقدر بثمن.
وتسمي التضحيات في هذه الحالة بثمن الحرية.
هكذا أفهمها وأعيها.
كما فهمها الشعب المصري في معاركه الكبري الوطنية والاجتماعية.
واليوم، وكما نفهم ونعي جميعا،تمر بلادنا بمرحلة استكمال بناء دولتنا الوطنية المدنية الديمقراطية الحديثة. وهي مرحلة ليست بالمرحلة السهلة لأنها مرحلة مركبة. مركبة تماما كما كانت معركة عام 1956 ولكن مع تغير مكوناتها. في عام 56 كانت مصر تسعي للتنمية والآن تسعي مصر للتنمية وللبناء. في عام 56 كانت مصر مهددة بالتعدي عليها من قبل قاعدة عسكرية قوامها البشري يصل إلي 120 ألف جندي مدججين بالسلاح والعتاد والآن تهدد مصر بجحافل الإرهاب المدججة بالسلاح.
والدرس الذي تعلمناه من معركة 56 أننا احتفظنا بتحفظاتنا السياسية والاجتماعية ولكننا التففنا حول دولتنا وكانت تضحياتنا هائلة وخاصة تلك التضحيات البشرية والمادية التي قدمها سكان مدينة بور سعيد.
ولكن يستمر التشابه الواضح بين المرحلتين في قضايا أساسية. يظهر هذا التشابه وبوضوح في قضية مهمة وهي قضية وحالة حقوق الانسان في مصر «دون أن تستخدم العبارة في الخمسينات».
فحتي ذلك الزمان لم يكن العالم يملك وثيقة دولية واحدة تخص حقوق الإنسان إلا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. كما يستمر اختلاف بين بين ظروف العقد الخمسيني من القرن الماضي بكل ثوريته وبين العقد الثاني من الألفية الثالثة، ايضا بكل ثوريته. ولكنها ثورية بظروف عصرها وملابساته.
كنا في القديم نعيش في إطار التطور المستمر للثورة الصناعية وخاصة في إطار كل تقدمها المتسارع واختراعاتها في كل المجالات التي تبلورت بدرجة مذهلة خلال الحرب العالمية الثانية. أما الآن فنعيش في إطار من ثورة اتصالاتية ومعلوماتية سهلت نقل المعلومات والأخبار والأحداث والخبرات وجعلت من العالم قرية كبيرة تتحرك فيها السلع والاموال بكل يسر وسهولة. والأهم من السلع والأموال سهلت حركة انتقال الأفكار وتبادلها.
ثورة غيرت من المفاهيم والعلاقات وخاصة مفاهيم الشباب وعلاقاتهم.وهو ما يجعل حركة المجتمعات تختلف عن حركة المجتمعات القديمة ومما يجعل الأجيال المتقدمة في السن تقف أمام مسئوليات جديدة تجاه شبابها ومشاكلهم في التعليم والعمل والفكر والطموحات.
ويجعل الحكومات أمام مسئوليات كبيرة ومختلفة عن مسئوليات الحكومات السابقة تجاه أهم القضايا التي تحرك الشباب وهي قضية حقوق الأنسان ثم قضية الديمقراطية.
ويمكن القول إن قضايا حقوق الانسان والديمقراطية ليست من القضايا التي تخص الشباب فحسب ولكنها باتت الآن احتياجا مجتمعيا عاما. ذلك لأنها لم تعد تنحصر في حرية القول والتنظيم والحركة فحسب وإنما باتت تعني إتاحة فرص التفكير الحر والابداع التي يحتاجها الوطن من أجل اللحاق بتلك الثورة الاتصالاتية والمعلوماتية الجديدة والتي تتبلور أثارها ونتائجها مع صباح كل يوم جديد.
إنها الفرصة التي يستطيع في إطارها العقل، الزحف والتقدم تجاه الإبداع والتجديد واللحاق بالسباق العلمي العالمي الحاصل. تقودنا طموحاتنا الوطنية إلي حالة أو مرحلة نمتلك فيها عقولا مبدعة تقدم الجديد للعالم ولا نقف عند مجرد استهلاك أوإعادة إنتاج ما يخترعه الأخرون. وهي حالة تحتاج إلي تحرير الرأي والفكر والعقل..