أمينة شفيق تكتب: ذاقت أوروبا من نتائج الفوضى الخلاقة
وسط هذا الرحيل أو الخروج أو النزوح العربي العظيم الذي نتابعه على الشاشات أبحث عن سيدة استمرت في موقع السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الولاية الأولى لجورج بوش الابن وأطلقت عبارة لم نستوعبها في منطقتنا العربية حينذاك، عبارة «الفوضى الخلاقة». تلك العبارة التي تركتها لنا إدارة بوش الجمهورية لتنفذها إدارة أوباما الديمقراطية. العبارة التي فهمناها لاحقا ومازلنا نتابع نتائجها. هذه السيدة هي الأستاذة الجامعية ووزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السابقة كوندليزا رايس. ترى لماذا لم تظهر إعلاميا لتحلل نتائج مقولتها الشهيرة لتفيدنا، علنا نستفيد وتستفيد معنا الشعوب الأوروبية التي وقفت أعداد كبيرة منها تستقبل النزوح العربي بابتسامات وترحاب؟.
لقد عرف العالم على مدي تاريخه أحداث نزوح كثيرة كان منها ما حدث إبان الحرب العالمية الثانية ومنها النزوح الفلسطيني إلى الجوار العربي بعد عام 1948 ومنها النزوح الافريقي بسبب الجفاف في سبعينيات القرن الماضي. وباتت شخصيات معروفة تمثل رموزا لا يمكن إنكارها لهذا النزوح كأينشتاين على سبيل المثال الذي لجأ إلى المملكة المتحدة هروبا من النظام النازي ثم اتجه لاحقا إلى الولايات المتحدة. ولكن الذي شاهده آباؤنا من أحداث نزوح تتضاءل في أحجامه وظروفه عن ذلك النزوح الذي نتابعه الآن. نزوح شعوب كاملة تركب البحار وتعبر الجبال وتمشي آلاف الكيلومترات حاملة متاعها الخفيف وأولادها وكبار السن من أهلها يأسا من الحياة في أوطانها وهروبا من الموت. تحركت الملايين من البشر إلى الجوار الجغرافي في البداية تاركة أوطانا، ربما تكون مغادرتها لها هي الأولى في حياتها. ولما ضاق الجوار الجغرافي بدأت في مسيرتها القاسية إلى خارج الجوار تاركة وراءها هؤلاء غير القادرين على الاستمرار بسبب المرض أو الشيخوخة. إلى الآن لايمكن الحصول على الإحصاء الدقيق لعدد النازحين أو الذين تطلق عليهم الأمم المتحدة عبارة «طالبي اللجوء السياسي» والذين نسميهم نحن اللاجئين.في الجولة الأولى من هذا النزوح العربي تجمعت أولى المجموعات على الحدود السورية التركية ثم تجمعت المجموعة الثانية على الحدود السورية الأردنية ثم جاءت الثالثة لتشكل تجمعها على الحدود السورية اللبنانية. ثم ضاقت بهم دول الجوار فبدأت مسيرتهم المأسوية إلى أوروبا. فبدأت أوروبا تتذوق نتيجة «الفوضى الخلاقة» التي وعتها عند إطلاقها أمريكيا وربما تكون قد شاركت في صياغتها ولكنها بالتأكيد شاركت وبشدة في صنعها بدءا من أولى الضربات الأنجلوأمريكية على بغداد العاصمة العراقية عام 2003.
والمتابعة المستمرة لهذا لنزوح العربي توضح أنه يمثل النسيج الحقيقي للشعب السوري ولغيره من الشعوب، على سبيل المثال. لا تستطيع التمييز بين المسيحي والمسلم أو بين ساكن الريف أو ساكن الحضر. ضم النزوح كل هؤلاء وجرفهم إلى حيث لا يعرفون اللغة أو العادات أو التقاليد ولا المستقبل. فقط يريدون الأمن الذي يحمي أرواحهم.
نستطيع أن نقول إن سوريا قد أوشكت على فقدان جيل كامل من الشباب كان يمكن الاستفادة منه في الماضي كما كان من المؤكد أنه كان سيقدم لبلاده الكثير والكثير في مراحل بنائه المستقبلية.
ونعود إلى النظرية الأمريكية التي أعلنتها السيدة كوندليزا إبان إدارة الجمهوريين ونفذتها إدارة الديمقراطيين بزعامة رئيس جمهورية نصف ملون. لا نستطيع القول إن هذه النظرية هي التي بدأت الربيع العربي وثوراته الشبابية ولكننا نستطيع التأكيد أن هذه النظرية بتخطيطها هى التي سيرت مجريات الأحداث التي لحقت بأيام الثورة الأولى. تحرك الشباب ساعيا إلى تغيير بلاده حسب شعاراته التي رفعها فأسرع منفذو النظرية إلى توجيه نتائج حركة الشباب إلى حيث مصالحهم السياسية والاجتماعية. دسوا بأنوفهم ومخططاتهم في التركيبة الاجتماعية في بلادنا متصورين أنهم القادرون على قيادة التغيير والتطور الديمقراطي فيها. فكانت النتيجة في هذا الاضطراب اللانهائي الذي تعيشه الشعوب العربية سواء من نزح منها أو من استمر يعاني فيها.لقد بدأ تطبيق النظرية، إذا سميناها تجاوزا بالنظرية، أحداثها كما ذكرنا في العراق عام 2003 تحت شعار تصفية أسلحة الدمار وتحقيق الديمقراطية. وتجسدت أولى خطوات الفوضي في تصفية جهازي الدولة المهمين، الجيش والشرطة، تحت شعار تصفية البعثيين وفلولهم والقضاء على سواعدهم الأمنية. تلى ذلك الإعلان عن سياسة المحاصصة في بناء جهاز الدولة والجيش والشرطة والمجلس النيابي. وهي السياسة التي تتناقض مع مبدأ وقيمة المواطنة التي هي الأساس في بناء الأوطان الحديثة المدنية الحديثة.
ولكن الحقيقة كانت أن الغزو الأنجلو أمريكي كان يهدف من البداية إلى النهاية إلى تصفية جهاز الدولة نفسه بهدف تصفية الدولة ذاتها ككيان جامع للمواطنين حاملي الجنسية الواحدة بالرغم من تنوعهم الإثني والديني ثم إنشاء كيانات صغيرة عرفها التاريخ قديما بسياسة «البلقنة» أي تقسيم الدول الكبيرة إلى دويلات صغير يسهل حكمها وإدارتها والسيطرة على مقدراتها.ولا يمكن تصديق أن نشر قيم الديمقراطية وتأسيس دولة القانون ومجتمع المؤسسات وهى القيم التي بدأت الشعوب الأوروبية ترسخ دعائمها منذ منتصف القرن السابع عشر كانت الهدف الأساسي أو الخدمة العليا التي يريد الغزو الأنجلو أمريكي، في مارس 2003، تقديمها للشعب العراقي. بالقطع لم تكن الديمقراطية ورفاهية الشعب العراقي هي الهدف الأساسي للغزو وإنما وقفت المصالح الاقتصادية والسياسية الأساس والسبب وراء العملية العسكرية،تماما كما وقفت وراء الاختراق المتعمد لنسيج المجتمع العراقي وإغراقه في النزاعات الطائفية والإثنية التي لا ننكر أنها كانت كامنة ولكنها كانت ساكنة يعالحها الشعب العراقي بتطوره البطيء وسعيه إلى تطوير بلاده بالرغم من كل الضغوط السلطوية التي تمارس عليه.
لم يتركونا نطور بلادنا كما نريد وإنما أرادوا تغييرها كما تريد مصالحهم وأجهزة تخابرهم.
لايمكن تبرئة حكامنا من كل هذه النتائج التي وصلنا إليها. ولكننا نعترف بأن هؤلاء الحكام كانت لهم علاقات قوية مع ذلك الغرب الرسمي المتسببة سياساته وتدخلاته فى هذا النزوح الكبير. لقد كان الحكام في تعاون كامل مع الغرب الرسمي وأجهزته لحماية وجودهم على سدة الحكم التي يعتلونها. كما كان هذا الغرب الرسمي هو مصدر السلاح الذي يشتريه الحكام ليخزنوه ويوجهوه إلينا كشعوب. لقد اكتشفنا مثلا كيف حول الغرب الرسمي، بالتعاون مع معمر القذافي، ليبيا إلى مخزن للسلاح الذي لا تحتاجه البلاد ولا يحتاجه الشعب الليبي قدر احتياجه إلى برنامج تنموي حقيقي ينقله إلى مجتمع حديث تتمايز وتعلو فيه الثقافة والانتماءات الوطنية على كل الثقافات والانتماءات القبلية الفرعية التي باتت تمزقه الآن.
كما كان الغرب الرسمي، ولا يزال، هو المصدر الوحيد لكل أجهزة وأدوات التعذيب التي يستخدمها هؤلاء الحكام، وغيرهم من حكام الدول الصغيرة، في ممارسة وارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، في مخالفة لقواعدها الدولية. ليعود ذات الغرب الرسمي مرة أخرى بذاته، أو من خلال منظماته الدولية، ليتباكى علي هذه الانتهاكات ويستخدمها ذريعة لتدخله في شئون الدول الصغيرة. هذه الدول الصغيرة التي لا تنتج السلاح ولا تستطيع، كما أنها لا تنتج الادوات التي تستخدمها في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان. ولا تستطيع ماليا أو تقنيا.
فالمعروف أن نسبة 85% من الأسلحة التي تستخدمها النزاعات الصغيرة المتناثرة هنا أو هناك وخاصة في الجيل الرابع من الحروب تأتي في الأساس من بلدان عضوة في مجلس الأمن. لذا لا نتعجب من هذا الانخفاض غير العادي والملحوظ لمعدلات البطالة في الولايات المتحدة. لقد اشتعلت الحروب الاهلية في بلدان الشرق الأوسط فاستهلكت مخزون السلاح القديم الذي تمثل صناعته أسرع الصناعات في امتصاص البطالة وخفض معدلاتها لإنتاج مخزون جديد.