جمال الغيطاني يكتب: شذرات من إخوان الصفا
إخوان الصفا مجموعة من المفكرين عاشوا في القرن الرابع الهجري ذكر بعضاً منهم أبو حيان التوحيدي في كتابه الامتاع والمؤانسة. ونلاحظ أن معظمهم ينتمون إلي بلاد فارس – ما وراء النهر – هذه الشذرات من تأملاتهم حول الحياة والموت:
> أعلم بأن لكل كون ونشوء أولا وابتداء. وله غاية ونهاية إليها يرتقي الغاية ثمرة تجتني، فمسقط النطفة كون قد ابتدي، وغاية الولادة التي إليها المنتهي. والولادة أيضا كون ابتدئ. وغايته الولادة التي إليها المنتهي، والولادة أيضا كون قد ابتدئ، والموت غايته التي إليها المنتهي.
وكما أن ثمرة مسقط النطفة لا تكون إلا بعد الولادة. لأن الطفل لا يتمتع إلا بعدالولادة. فهكذا النفس لا تتمتع إلا بعد مفارقة الجسد لأن موت الجسد ولادة النفس وهي الروح. ذلك أن موت الجسد ليس شيئا سوي مفارقة النفس له.. كما أن ولادة الجنين ليست شيئا سوي مفارقة الرحم. فإذا الموت حكمة كما أن الولادة حكمة. وكما أن الجنين إذا تمت في الرحم صورته وكملت هناك خلقته، لم ينتفع في الرحم بل ينتفع بعد الولادة في الحياة الدنيا، كذلك النفس إذا كملت صورتها وتمت فضائلها بكونها مع الجسد، انتفعت بعد مفارقتها الجسد في الحياة الأخري. فإذا الموت حكمة، إذ البقاء الأبدي لا يتحقق إلا بعد حصول الموت. فالموت سبب لحياة الأبد. والحياة الدنيا سبب للموت في الحقيقة، إذ الإنسان ما لم يدخل هذا العالم فلا يمكن له أن يموت.
> واعلم يا أخي أن الجسد كالسفينة. والنفس كالملاح. والأعمال الصالحة كالبضاعة والأمتعة للتاجر. والدنيا كالبحر، وأيام الحياة كالمعبر، والموت كالساحل المتوجه إليه. والدار الآخرة كمدينة التاجر، والجنة هي الربح.
> واعلم أن الدنيا كالميدان، والأجساد خيل عتاق. والنفوس السابقة إلي الخيرات فرسان. والله تعالي الملك الجواد المجازي. وكما أن الفارس السابق إذا بلغ باب الملك إن لم ينزل عن فرسه. لا يمكنه الدخول إلي حضرة الملك فتفوته جائزته والخلع والكرامة.
> فإذا فني العمر وهرم الجسد وشاخ ونبت النفس وكملت. إن لم تفارقه. لا يمكنه الصعود إلي ملكوت السماء لأن هذا الجسد الثقيل المتغير الفارس لا يليق بذلك المكان العالي الشريف.
> وأيضا إن الدنيا مزرعة، وأرحام النساء كالحرث، والنطفة كالبذر، والولادة كالنبت، وأيام الشباب كالنشوء، وأيام الكهولة كالنضج، وأيام الشيخوخة كاليبس والجفاف، فبعد هذه الحالات لابد من الحصاد والصرام. وهو الموت والصراط والآخرة. كالبيدر. فكما ان البيدر يجمع الغلات من كل جنس ويدرس وينقي ويرسي القشور والورق والتبن والحب والتمر، ويجعل علفا للدواب وحطبا للنيران، فهكذا تجتمع في الآخرة اسم الأولين والآخرين من كل دين، وتنكشف الأسرار. ويميز الله الخبيث من الطيب فيجعل الخبيث بعضه علي بعض فيركمه جميعا، فيجعله في جهنم، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم، لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.