صلاح عيسى يكتب: النسيان.. آفة حكومتنا وحارتنا!
لأن الناس – كما قال أمير الشعراء أحمد شوقى – صنفان، موتى فى حياتهم، وآخرون بباطن الأرض أحياء، فلايزال جمال عبدالناصر، بعد 46 عاماً من رحيله عن الدنيا، حياً فى ذاكرة الناس وفى وجدانهم، على الرغم من حملات التشويه والمسخ والتآمر التى تعرض لها فى حياته، وحملات التشهير والثأر التى استهدفت محو اسمه وتاريخه من الذاكرة الجمعية للمصريين والعرب والإنسانية كلها، على امتداد السنوات التى تلت غيابه.
وكان الكاتب الكبير الراحل توفيق الحكيم هو أول من طالب – فى اليوم الثالث لرحيل عبدالناصر المفاجئ ووسط طوفان الأحزان التى أغرقت الناس جميعاً – بتنظيم اكتتاب لحملة تبرعات شعبية، تخصص حصيلتها لصنع تمثال لـ«عبدالناصر» يقام فوق قاعدة خالية كانت لاتزال قائمة آنذاك فى ميدان التحرير، افتتحها بالتبرع بخمسين جنيهاً.. وهو مبلغ كان كبيراً آنذاك وكبيراً للغاية بالنسبة لتوفيق الحكيم الذى كان حرصه مضرب الأمثال، وموضوع تندره.. وتندر الجميع.
ولكن الحكومة أبت إلا أن تثبت أن فى السويداء رجالاً أكثر كرماً من حاتم الطائى، فأعفته من هذه المشقة، وأعلنت أنها سوف تقيم التمثال على نفقتها، وسوف تجرى مسابقة بين كبار النحاتين لاختيار التصميم الأفضل للتمثال.. وأبى مجلس الأمة إلا أن ينافس الحكومة فى كرمها، فأصدر قانوناً لتخليد ذكرى عبدالناصر، يقضى بتخصيص المنزل الذى كان يقيم فيه ويدير منه شؤون الدولة خلال فترة رئاسته «1956 – 1970» بحى منشية البكرى – وهو مملوك للدولة – لإقامة أسرته طوال حياتها، على أن يتحول بعد ذلك إلى متحف يحمل اسمه ويضم مقتنياته، كما نص القانون – كذلك – على إطلاق اسمه على المؤسسات التى أقيمت فى عهده.
ولأن الإنسان – كما يقول شاعر مجهول – ما سُـمى كذلك إلا لنسبه، ولا القلب إلا لأنه يتقلب، ولأن آفة حارتنا – كما يقول نجيب محفوظ – هى النسيان، فقد تحولت هذه القرارات وغيرها، إلى حبر على ورق خلال أقل من عام، فلم تحمل «بحيرة ناصر» هذا الاسم إلا لشهور، استردت بعدها اسمها القديم وهو «بحيرة السد العالى» وعادت «قاعة ناصر» لتحمل اسم «قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة» واختفت الأعمدة المعدنية التى كانت قد أقيمت أمام مبانى الصروح الكبرى التى أنشئت فى عهد عبدالناصر، وهى تحمل لافتات تشير إلى هذه الحقيقة فى ظروف غامضة، وهُدمت القاعدة التى كان مقرراً أن يقام عليها تمثال عبدالناصر فى ميدان التحرير لاعتراضها مسار الحفر لإنشاء مترو الأنفاق.. ولم يفكر أحد – منذ ذلك الحين – فى إعادتها إلى مكانها.. أو يتذكر أنها كانت قد خصصت يوماً لكى يعتليها تمثال للرجل الذى ساهم فى صنع تاريخ مصر والعرب والعالم خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وشارك فى تخليص الإنسانية من الاحتلال الغاشم والقواعد والأحلاف الأجنبية، والذى لم يكن يستطيع أن يأوى إلى فراشه، قبل أن يطمئن على أن أسعار الجبنة البيضاء والحلاوة الطحينية والفول المدمس لاتزال فى متناول الفقراء من شعبه.
وبعد عشرين عاماً من رحيل عبدالناصر رحلت قرينته «تحية كاظم» ولم توص إلا بأن تدفن إلى جواره، ولأن كل واحد من أبنائه كان قد انتقل إلى مسكن مستقل، فقد أعادوا بيت منشية البكرى إلى الحكومة، لكى يتحول البيت إلى متحف كما ينص على ذلك القانون الذى أصدره مجلس الأمة عام 1970، لكن الحكومة أغلقته بالضبة والمفتاح، ليس فقط لأن المجلس كان قد غير اسمه إلى «مجلس الشعب»، ولكن كذلك لأن آفة حكومتنا – كآفة حارتنا – هى النسيان.. ولسبب لايزال مجهولاً حتى الآن فشلت محاولات وزارة الثقافة، فى عهد الوزير فاروق حسنى، لكى يتسلم البيت أو أن تحصل على موافقة لتحويله إلى متحف.. ولما يئست د. هدى – أكبر أبناء عبدالناصر – من معرفة السبب الذى يحول دون ذلك، وخشيت من أن تتبدد المقتنيات التى تحمل رائحة الرجل الذى لم يحب المصريون زعيماً كما أحبوه، نقلتها إلى مكان تحتمى فيه من غدر الزمان.. ومن آفة النسيان.
فى صباح الأربعاء الماضى – 28 سبتمبر – وفى الذكرى السادسة والأربعين لرحيل عبدالناصر، وبينما كنت أتابع أخبار الصباح، فوجئت بالرئيس عبدالفتاح السيسى يطل علىَّ من شاشة التليفزيون، وهو يفتتح متحف جمال عبدالناصر فى منزله بمنشية البكرى.. ومعه رئيس الوزراء ووزراء الدفاع والداخلية والثقافة ومحافظ العاصمة ورئيس جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، فأسعدنى أن حكومتنا بدأت تتعافى من آفة النسيان، وأن حارتنا بدأت تعى أن من فات قديمه تاه.. ومن توقف عنده ضاع.
كل ما أتمناه، هو أن يضيف وزير الثقافة حلمى النمنم إلى أعبائه الكثيرة وميزانية وزارته المحدودة، عبئاً إضافياً، يشمل إنشاء مركز ثقافى فى حديقة المتحف، يضم مكتبة تحتوى على كل ما نشر عن ثورة 23 يوليو 1952، ومستنسخات من الوثائق الأجنبية والعربية التى تتعلق بها، تكون فى خدمة الباحثين فى تاريخ هذه الحقبة المهمة من تاريخ مصر، وتاريخ العالم.. وأن يحاول إنقاذ متحف مجلس قيادة الثورة بالجزيرة، الذى توقف العمل به منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً، من آفة النسيان، وأخيراً، أن يخفض رسم دخول المتحف من عشرين إلى عشرة جنيهات فقط، لأن الغلاء – قبل النسيان – هو آفة حكومتنا وحارتنا!