الدكتور مصطفى محمود يكتب: لا تطبيع مع سياسة ذات وجهين
سامح الله الإخوة الأوروبيين فهم لا يشعرون إلا بأنفسهم ولا يعترفون إلا بتاريخهم فالأجندة عندهم تبدأ من ميلاد المسيح والحضارة في حسابهم بطول ألفي سنة فقط.. وهذه الأيام هي بداية الألفية الثالثة في تقديرهم.. والاحتفالات بطول وعرض القارات الخمس وحول الكرة الأرضية تفتح ذراعيها لإستقبال الألفية الثالثة.. وما قبل ذلك كان في حسابهم ظلمة حضارية دامسة..
ورغم أن ميشيل جار أطلق صواريخه من علي هضبة الأهرامات ليدشن ألفي سنة من هذه الحضارة.. فإن الهرم الأكبر نفسه أخرج له لسانه مذكرا أنه قد بلغ من العمر أربعة آلاف سنة ومن الأهرامات الاخري حوله ومن مقابر الفراعين ما بلغ الخمسة آلاف سنة من العمر المجيد المديد.. والتحف الثمينة والبرديات والآثار في باطن تلك الأهرامات وفي جوف تلك المقابر تحكي بأبلغ عبارة أنه كانت هناك حضارة.. وكانت هناك علوم وفنون وعقائد ونظم ومجتمعات وحياة حافلة بكل جديد منذ ألوف السنين.
ومن قبل ذلك كان هناك امتداد حضاري بعمق سبعة آلاف سنة وثمانية آلاف سنة في الصين وفارس.. وكان هناك بوذا وزرادشت وشموس بازغة للحكمة والفن والفكر.. فكيف تخطى الإخوة الأوروبيون كل هذا بجرة قلم ولم يذكروا إلا ألفي سنة حكموا فيها وملأوا الأرض فسادا وحروبا وظلما ودمارا ودما واستعمارا ونهبا لثروات الشعوب.
هم لم يذكروا إلا سيادتهم وصدارتهم وتفوقهم وعلوهم وعلومهم التي نحتوا بها الصخر.
ولم تترك لنا دباباتهم ومدافعهم وقنابلهم وألغامهم وطائراتهم وصواريخهم النووية إلا تلوثا ودمارا أهلك الأخضر واليابس, وفي النهاية ختموا أمجادهم بالزراعات المهندسة وراثيا وباستنساخ النعجة دوللي وفتح الباب لاستنساخ البشر واللعب في الهوية الوراثية لأبناء آدم.. وحفظ البلايين من الحيوانات المنوية والبويضات المثلجة في خزائن وثلاجات تحت الصفر.. لحين الحاجة اليها لتخليق ما يشاؤون من أجناس بني آدم.
يقول عنهم ربهم أنهم فرحوا بما عندهم من العلم..
«فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ» (غافر : 83).
وهذا حديث ربنا عن علومهم التي سادوا بها الدنيا والتي حجبتهم عن العلم الأكبر وعن الحكمة الكبري من الحياة والموت.. تلك الحكمة التي أدركها القدماء فأقاموا من أجلها الأهرامات والمعابد ورسموا علي جدرانها الحياة الآخرة والبعث والميزان والثواب والعقاب.
لقد سبق علم أجدادنا الأوائل علوم المتحضرين فأورثهم الخشية ومحاسبة النفس.. وذلك هو العلم الحق الذي يورث الحكمة والتأمل.
لكن أصحابنا أسقطوا هذه الحضارة التي شغلت أهلها بالموت وما وراءه وشغلوا أنفسهم بالدنيا ولهوها وأفراحها.. وكان همهم أن يحصلوا علي أكبر قدر من هذه الحياة المرحة.
وجولة سريعة بين فضائيات التليفزيون في ليلة الألفية كشفت لنا هذا الكم الهائل من التفاريح والاحتفالات في كل بيت وكل شارع وكل بار وكل مطعم وكل متجر وكل مشرب إلى درجة السكر طينة والرقص والتهريج وفرقعة الصواريخ والبمب والرقص إلى درجة الإعتناق والإغماء لذة وجنونا. وكان نصيبنا من هذا الجنون هو ليلة من التهريج الفاضي اخرجها ميشيل جار بتكلفة أربعين مليون جنيه لاندري كيف؟!!
وهذا هو حال الغرب الذي اكتسح وسيطر وحكم وفرض ذوقه ونمط حياته وتهريجه حتي لغته فرضها علي الشارع المصري والعربي وكذلك فرض لبسه وعطوره وذوقه ومسرحه وأفلامه ورواياته وفلسفته وانحلاله إلى درجة الإغراق..
وكان طبيعيا الا يذكر هذا الغرب النشوان بنفسه الثمانية آلاف سنة من حضارة الصين ولا الخمسة آلاف سنة من حضارة مصر.. ولم يذكر إلا الألفي سنة من حكمه وسيطرته وما سيكون من الألف الثالثة المقبلة وما يخطط لها.
وكان طبيعيا أن تكون لنا وقفة.. فالنقل والتقليد عن هؤلاء الناس قد انحدر بنا إلى غور سحيق من فقدان الهوية وفقدان الروح وفقدان الشخصية وفقدان المستقبل
لقد أطربنا صوت أم كلثوم ومسلسل أم كلثوم في رمضان وأسكرنا وأخرجنا من البرامج المستنسخة من الفضائيات الغربية وأعادنا بسرعة خاطفة إلى هويتنا الشرقية والي مزاجنا العربي وإلى لغتنا الجميلة وانطفأت إلى جواره البرامج المقلدة وألوان العري والإثارة.. وكأنما أخرجنا رأسنا بعد غرق عميق وأخذنا شهيقا طويلا ورجعنا إلى وعينا.. وإلي.. وإلي نفوسنا وذواتنا.
نعم يا سادة.. هناك إغراق متعمد مقصود.. في هذه الفرنجة السطحية.. وفي ألوان من الفن الحسي الذي يدغدغ الغرائز ويثير الشهوات.. وفي التهريج المتواصل خفيف الدم ومسرح النكتة وكوميديا القفشات.. وهذه الموجة قادمة من أوروبا ومن أمريكا ومن فنون الإنحلال والإثارة التي تبثها فضائيات الغرب وأفلامه وصحفه ومجلاته ورواياته.
ولا يحدث هذا مصادفة بل هو ترويج متعمد وإغراق له سماسرته ووكالاته.
والحرب معلنة علي اللغة العربية.. في أساليب التدريس.. لإغراقنا في العامية السوقية بالأغاني والإذاعات ولغة الإعلام واللافتات الأجنبية التي تملأ الشوارع.. والإنجليزية والفرنسية أصبحت لغات بديلة جاهزة علي جميع الألسن وهي دائما لغة الذوات والطبقة الراقية ورجال الأعمال وهي الأسماء المفضلة لجميع محلات الملابس والسوبر ماركت والمقاهي والكوافير والماركات التجارية الرائجة.
وكل شيء في خدمة التجار ورجال الأعمال والشركات العملاقة نجوم العولمة القادمة وحكام المستقبل الجدد.. وعالمنا يتطور إلى الأسوأ بالنسبة إلى رموزنا القومية ولغتنا العربية وعاداتنا وأخلاقنا.
إنهم في أمريكا وأوروبا يعملون في دأب من سنين ليجعلوا من أنفسهم قبلة نتوجه إليها صباح مساء وكعبة ثقافية نحج إليها في صلواتنا ومزارا مقدسا نسجد أمامه ونخلغ أحذيتنا ونسبح لهم ولتقدمهم الليل والنهار.
وقد سبقونا إلى غزو الفضاء ومشوا علي القمر وأنزلوا مراكبهم علي المريخ واخترعوا الطائرة وصنعوا الدبابة وأطلقوا الصاروخ وحطموا الذرة وفكوا طلاسم الكروموزوم واكتشفوا الجينوم البشري الوراثي.
ونحن ننظر إلى كل هذا في انبهار..
ولا شيء يحمينا من هذا الانبهار والذوبان سوى تاريخنا وحضارتنا التي كانت المعلم والملهم للعالم كله في الزمن القديم.
إذا كانوا هم الآباء فنحن الأجداد الذين أخذوا منا وتعلموا منا.. نحن كنا أول من قرأ وكتب.. وعلينا نزلت الأديان ومنا جاء الأنبياء والحكماء.
ونحن الذين حملنا للعالم أمانة التوحيد وكلمات القرآن والإنجيل والتوراة وراية لا إله إلا الله.
واليوم يصحو المارد الياباني النائم في أقصى الشرق ويفرك أجفانه.. ويفيق التنين الصيني من سباته.. وتدخل كوريا وتايوان وسنغافورة وماليزيا وعفاريت آسيا الصغار في السباق ويحتدم الصراع وتتزاحم الرؤوس في سوق التكنولوجيا والانتاج.
وندخل نحن نحبو ونزحف في آخر الصف علي إستحياء..
ويختلط الحابل بالنابل في هذه المعمعة..
كل واحد يحمل بضاعته وينادي علي تجارته في سوق العولمة الذي تقوده أمريكا وأوروبا.
ولا يبدو التنافس شريفا ولا السباق عادلا فالسوق العالمية تحرسها الاحتكارات الضخمة وتحكمها موازين القوي ومعظمها في الأيدي الأمريكية ومن وراء ذلك.. القوي النووية.. يحتكرونها ويحرسون بها مكتسباتهم.
الدولار يحكم..
والقوة الأمريكية تمسك بالزمام..
وصاحب العلم الأكثر عنده الفرص الأكبر.. والباقون يقفون في مؤخرة الصف.
والجاسوسية والاستخبارات وسرقة الأسرار والعدوان علي الضعفاء هو القاعدة والعراق في الأسر.. والقدس تحت الاحتلال.. والعرب في الشتات.. والثروة البترولية في أيدي الأقوياء وتحت حراستهم وإن كانت في الظاهر ملكا للعرب.
والسلام معلن في الظاهر.. ولكن الحرب الخفية مستعرة علي جميع الجبهات. إسرائيل تتربص بنا الدوائر وقد أقامت ترسانات من الأسلحة الميكروبية والقنابل الكيميائية والصواريخ النووية والغواصات والبوارج والأساطيل حاملات الرؤوس الذرية والطائرات المقاتلة والمنقضة من كل الأنواع.. والفائض من الأسلحة الأمريكية مخزن عندها.. وهي تعلن أن العتاد الحربي المخزون عندها أوفر وأقوي من كل الموجود في الدول العربية مجتمعة.
وهي تفاوضنا من هذه القمة العالية المتعالية.. وكأنما تقول لنا من تحت مائدة المفاوضات.. أن الاستسلام أفضل.. وقبول الأمر الواقع أسلم وأكرم لكم.
والصورة علي اتساع العالم وخارج مائدة المفاوضات أكثر قتامة وسوادا.. فالحرب معلنة علي الإسلام والمسلمين في كل مكان.. من البوسنة إلى كوسوفا.. إلى فلسطين.. إلى جنوب السودان.. إلى الشيشان.. إلى الصومال.. إلى أعالي النيل.. إلى أواسط أفريقيا.. وأمريكا وأوروبا تأخذ جانب الخصوم في جميع الأحوال وتتهم الإسلام والمسلمين بأنهم حملة لواء الإرهاب وبأنهم رموز الفوضي والبدائية والرجعية والتخلف في هذا العالم المتمدن. وبأنهم أعداء السلام وأعداء التقدم.. سامحهم الله
ويعلم الله كم ظلمونا.. فلا توجد في الأسرة الدولية كلها.. مجموعة سلسلة منقادة طيعة مثل الأسرة العربية المسلمة.. أسلمت قيادها وأسلمت نفطها وثرواتها للأيدي الأمريكية وللشراكة الأمريكية وللمستثمر الأمريكي والأوروبي وارتضت نصيبها من الكعكة وضاعفت الأجر مقابل ضمانات الأمن والحراسة والدفاع حتي لو كان المعتدي عربيا طامعا مثل صدام حسين وقادما من طرفهم ومدفوعا من الأمريكان أنفسهم وبمشورتهم.. وقد تغاضت الأسرة العربية الطيبة عن كل هذه المؤامرات.
وقد كفرت أمريكا عن تورطها في مؤامرة حرب الخليج وضاعفت العقاب لصدام حسين وللعراق ولشعب العراق.. بدرجة وحشية أثارت التساؤل في العالم العربي كله.. لماذا ندفع نحن دائما الثمن.. ولماذا تدفع الشعوب العربية جريرة ذنوب لم ترتكبها.. ولماذا تبتز أمريكا هذه الشعوب وهي تعلم أنها بريئة وأنها مقهورة.. ولكنه الظلم العجيب الذي يأخذ صورة العدل والتنكيل الذي ياخذ صورة الجزاء.. والعدوان الذي يلبس جلباب الدبلوماسية والسياسة.
وفي جبال الشيشان تدور رحي حرب ظالمة مجرمة أخري.. وقد أختل ميزان العدالة فيها غاية الاختلال..
أحد الطرفين شرذمة قليلة فقيرة تقاتل بأسلحة بدائية وسط الزمهرير والجليد والثلوج وفي الطرف الآخر روسيا كلها بعتادها وأسلحتها ودباباتها وصواريخها ومن ورائها أمريكا تمدها بأموالها ودولاراتها لتحارب حرب إبادة وإستئصال لشعب فقير يناضل من أجل حريته..
اجتمع العماليق علي قهر ضحية تحتضر.
والصور تأتينا عبر الفضائيات مؤلمة مستفزة فظيعة تنضح بالظلم والجبروت. ولا يملك المسلم المقهور من الغم إلا أن يرفع يديه في ليلة القدر التي هي أعظم من ألف شهر داعيا الرب العادل الرحيم أن يشل الجبابرة الروس بزلزال يقلب أرضهم خرابا يبابا ويعيد الجبارين إلى صوابهم.. ويعيد كفة العدل إلى أعتدالها ولا يملك الضعيف إلى الدعاء.
وليس أضعف من المسلمين اليوم وقد اجتمع عليهم الأحمر والأصفر وتداعي الكل عليهم تداعي الجياع علي القصعة.
ولكن لا شيء يبقي علي حاله.. والأرض التي نسكنها تدور.. والأيام دول وللزمان دورات.. وربنا من أسمائه أنه الخافض الرافع وأنه لا يبقي علي علو العالين ولا علي جبروت الجبارين.
وغدا تنخفض رؤوس وترتفع رؤوس.. ويتغير كل شيء ماذا يبقي علينا أن نفعل الآن.. وماذا تبقي لنا من دورنا..؟!!
تبقي لنا الصمود.. وأن نكون في رباط
وأقوي رباط للأمة العربية.. هو دينها ولغتها وقوميتها وإسلامنا هو العصبة الجامعة الباقية لنا
ومسلمو ونصاري مصر يقفون في خندق واحد ورباطهم هو قدرهم المقدور وإسرائيل تتحدث عن السلام ولكنها تحتل الأرض وتباشر العدوان وتجهز آلة الحرب وتلقي القنابل علي مواطني الجنوب اللبناني
ولا تطبيع لنا مع هذه اللغة المزدوجة ولا مع هذه السياسة ذات الوجهين..
وأقل مايوصف به هذا الفعل أنه دجل سياسي.
واذا كانت إسرائيل تستعد.. فلا نملك إلا أن نستعد
والله معنا ما دمنا معه
والله لن يكون أبدا مع الكذابين شذاذ الآفاق.