رجاء النقاش يكتب: بين طه حسين وتوفيق الحكيم وجبران
عندما مات جبران خليل جبران سنة 1931 عن ثمانية وأربعين عاما، كان توفيق الحكيم لا يزال مجهولا من الحياة الأدبية في مصر والعالم العربي، وكان الحكيم في الثالثة والثلاثين من عمره، ولم يسطع نجم توفيق الحكيم إلا بعد وفاة جبران بعامين، أي سنة 1933، وذلك عندما أصدر الحكيم مسرحيته “أهل الكهف” فتلقفها طه حسين في فرح وسعادة، ورحب بها ترحيبا واسعا، وأشاد بها إشادة كبيرة واعتبرها فتحا جديدا في الأدب العربي، ذلك أن الأدب العربي قبل ظهور “أهل الكهف” لم يكن قد عرف “فن الحوار” أو الفن الذي يمكن أن نسميه بالأدب المسرحي.
كان هناك مسرح عربي، ولكنه كان في معظمه قائما على الترجمة والاقتباس.
ولم تكن لنصوص المسرح العربي قيمة أدبية خارج التمثيل فوق خشبة المسرح، ولكن توفيق الحكيم بمسرحيته “أهل الكهف” كان يقدم نصا كاملا قائما على حوار أدبي سليم ودقيق.
ومقال طه حسين عن “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم تعتبر من المقالات النقدية المهمة في الأدب العربي المعاصر، لأن هذا المقال أحدث هزة كبيرة في الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي، وكان هو السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم التي بدأت قوية ساطعة منذ اللحظة الأولى، فتوفيق الحكيم لم يكدح طويلا في سبيل النجاح الأدبي كما حدث مع نجيب محفوظ..
فقد قضى نجيب محفوظ ما يقرب من عشرين سنة يكتب وينشر رواياته المختلفة، وهو يكاد يكون في الظل طيلة هذه السنوات العشرين، حيث لم يلمع اسمه إلا في أواخر الخمسينيات، وهو يكتب وينشر قصصه ورواياته منذ أواخر الثلاثينيات.
أما توفيق الحكيم فقد ظهر منذ اللحظة الأولى نجما ساطعا، وأصبحت له شهرة واسعة بعد أن أصدر مسرحيته الأولى “أهل الكهف” والفضل في ذلك يعود إلى طه حسين وإلى نفوذه الأدبي لدى جماهير المثقفين، فعندما كتب طه حسين عن توفيق الحكيم بحماس شديد، أصبح توفيق الحكيم نجما، وأصبح واحدا من كتاب الصف الأول في الأدب العربي المعاصر منذ بدايته، ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم هو نموذج حي على تأثير “الناقد” في الحياة الأدبية وأذواق الناس، فعندما يكون الناقد صاحب كلمة مسموعة وموثوق بها، فإنه يستطيع أن يبني ويهدم، ويستطيع أن يخلق نجوما ويطفئ نجوما أخرى.
وقد كان طه حسين عند أول ظهور لتوفيق الحكيم سنة 1933، هو هذا الناقد القوي، صاحب التأثير الواسع على الناس، وصاحب الكلمة المسموعة بينهم، ولعل هذه الحادثو الأدبية التاريخية تلفت النظر إلى أهمية “النقد” القوي المؤثر في حياتنا الأدبية، وفي حياة أي أدب آخر من آداب العالم، وبدون “الناقد” القوي الواعي الشجاع فإن الحياة الأدبية تفقد القيادة السليمة وتضيع منها أية رؤية واضحة.
ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم منشور في كتابه “فصول في الأدب والنقد”، وأمامي منه طبعة “دار المعارف”، وليس للطبعة تاريخ مدون عليها، وهذا من أسوأ أخطاء الناشرين العرب، والتي لا يزال البعض يقع فيها حتى الآن، والسبب في ذلك هو سبب تجاري، فقد يكون توزيع الكتاب بطيئا، وقد يستغرق توزيعه عدة سنوات، والناشر لا يريد أن يشعر القارئ الذي يشتري الكتاب بعد سنوات من صدوره أنه يشتري كتابا قديما، وقد كان الناشرون في الجيل الماضي مثل أصحاب “دار المعارف” معذورين لأن سوق الثقافة كانت محدودة، وتوزيع الكتب كان بطيئا، أما الآن فقد اتسع سوق الثقافة، بالإضافة إلى أن تسجيل تاريخ صدور الكتب هو واجب علمي وأمانة مفروضة على أساليب النشر السليمة، فلا معنى لإصرار بعض الناشرين على تجاهل تاريخ صدور الكتاب والنص عليه في كل طبعة.
ونعود إلى مقال طه حسين الذي كشف الستار عن توفيق الحيكم وجعل منه نجما أدبيا بين يوم وليلة، لنجد طه حسين يتحدث عن مسرحية الحكيم الأولى “أهل الكهف” في فرح وحماس وتبشير بميلاد موهبة جديدة فيقول في أول مقاله “…
أما قصة “أهل الكهف” فحادث ذو خطر. لا أقول في الأدب المصري وحده، بل في الأدب العربي كله، وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطا به، مبتهجا له، وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول، إن فنا جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة، ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن؟.
نعم. هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصرا جديدا.
ولست أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر، ولكنني على ذلك لا أتردد في أن أقول إنها أول قصة وضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تسمى قصة تمثيلية، ويمكن ان يقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له، ويمكن أن يقال إنها رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة، ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرأونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة.
بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد الأدب الأجانب يستطيعون أن يقرأوها إن ترجمت لهم، فسيحدون فيها لذة قوية، وسيجدون فيها متاعا خصبا، وسيثنون عليها ثناء عذبا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب والأوروبيين”.
هذا هو ما كتبه طه حسين في مقدمة مقاله عن توفيق الحكيم ومسرحيته الأولى “أهل الكهف”، وقد ظهر هذا المقال بعد نشر الطبعة الأولى من المسرحية سنة 1933، ونشره طه حسين في مجلة “الرسالة” في عددها التاسع الصادر بتاريخ 15 مايو سنة 1933، أي بعد أسابيع قليلة من صدور مسرحية “أهل الكهف”، ثم أعاد طه حسن نشره في كتابه “فصول في الأدب والنقد”.
هذا المقال النقدي الذي كتبه طه حسين هو الذي جعل توفيق الحكيم نجما أدبيا من أول خطوة له، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن طه حسين قد وفر على توفيق الحكيم ما لايقل عن عشر سنوات من الجهد المتواصل لكي يصل إلى ما وصل إليه منذ بداية حياته الأدبية.
ولا شك أن توفيق الحكيم كان شديد الذكاء والمهارة والدهاء، وذلك إلى جانب موهبته التي لا شك فيها.
فتوفيق الحكيم لم يطبع مسرحته “أهل الكهف” طبعة شعبية عند صدورها لأول مرة، بل طبع منها ـ على نفقته ـ طبعة محدودة من ثلاثمائة نسخة فقط، وقام بإهدائها إلى طه حسين وغيره من كبار الأدباء والنقاد المعروفين في ذلك الوقت، أي أنه اتجه منذ البداية إلى أن يحصل على اعتراف النقاد به قبل أن يتوجه للجمهور العام، والطبعة الأولى من “أهل الكهف” مفقودة ولا يمكن العثور عليها حتى في “دار الكتب المصرية”، وكان من حسن الحظ أن وقعت في يدي نسخة من هذه الطبعة الأولى لـ”أهل الكهف”، أحتفظ بها وأعتبرها من الأشياء الثمينة التي أعتز بها.
وبعد هذه الطبعة الأولى المحدودة، أصدر توفيق الحكيم طبعة شعبية لقيت نجاحا واسعا بعد أن أشاد بها طه حسين ولفت الأنظار إليها، وإلى كاتبها الجديد.
من ناحية أخرى فإن توفيق الحكيم كان من عادته التي ملازمة له حتى وفاته سنة 1987 أن يكتب مؤلفاته ويحتفظ بها لنفسه، ثم ينشرها عندما يرى الأجواء مناسبة لنشرها. ولذلك فعندما أصدر “أهل الكهف” ولقيت النجاح الذي كان يرجوه، سارع بإصدار روايته الجميلة المعروفة “عودة الروح” في نفس العام، أي سنة 1933، ثم أصدر مسرحيته النثانية “شهر زاد” سنة 1934، وتوالت أعماله الأدبية بعد ذلك دون توقف.
وقد ساعد هذا كله على تدعيم نجاحه، وتوسيع قاعدة شهرته والاهتمام به من جانب القراء والنقاد.
وقد بقي توفيق الحكيم على عادته هذه حتى البنهاية، فكان يكتب أولا ويحتفظ بكتاباته ولا ينشرها بعد الانتهاء منها مباشرة، بل يختار التوقيت المناسب لنشرها وتقديمها إلى الناس، فقد كان يحرص دائما على أن تكون له “مدخرات أدبية” كثيرة ويحرص أن ينفق هذه المدخرات، أي ينشرها بحساب شديد للذوق السائد واللحظة المناسبة والفرصة الصحيحة لخلق التأثير الذي يريده لأعماله.
ولم يكن توفيق الحكيم مثل غيره من الأدباء والكتاب الذين يعتبرون تعود معظمهم على نشر ما يكتبونه فور الانتهاء منه.
ولا أريد أن أترك الحديث عن مقال طه حسين الذي كان السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم السريعة، دون أن أتوقف أمام ملاحظتين هامتين أثارهما طه حسين في مقاله عن توفيق الحكيم حيث قال:
“… ولكن! وما أكثر أسفي للكن هذه! وما أشد ما أحببت ألا أحتاج إلى إملائها. ولكن في القصة، أي “أهل الكهف”، عيبان: أحدهما سوءني حقا، ومهما ألوم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة، هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب ما، فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم قد فتح في الأدب العربي فتحا جديدا لا سبيل إلى الشك فيه، وأنا أكبر الأستاذ، وأكبر قصته عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة، ويمس بعضها النحو والصرف، ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل.
ولا أتردد في أن أكون قاسيا عنيفا، وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعته هذه الجميلة، وأن يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصلح ما فيها من أغلاط. وأنا سعيد أن اتولى عنه هذا الإصلاح إن أراد، ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعظه وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه على الناس.
أما العيب الثاني فله خطره ولكنه على ذلك يسير، لأن القصة هي الأولى من نوعها، كما يقولون.
هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه، فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة “أي المشاهدين” حقوقا يجب أن تراعى، فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز، وفصل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل، وتعمق في بعض المواضع وكان ينبغي أن أن يكتفي بالإشارة ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظارة “المشاهدين” أن يستمعوا في الملعب “أي المسرح” لهذه الاقصة الجميلة جدا، الطويلة جدا، التي تقصها “بريسكا” على “غالياس” وهي تودعه وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
هذا العيب خطير لأنه يجعل القصة خليقة أن قرأ لا أن تمثل، وأنا حريص أشد الحرص على أن تمثل هذه القصة، وأثق أشد الثقة بأن تمثيلها سيضع الأستاذ على ما فيها من عيب فني، وسيمكنه من اتقاء هذا العيب في قصصه الأخرى، ومن إصلاحه في هذه القصة”.
هذان العيبان اللذان أشار إليهما طه حسين في مقاله الهام عن توفيق الحكيم، أما العيب الأول، وهو الأخطاء اللغوية، فقد تخلص منه توفيق الحكيم في الطبعة الثانية الشعبية لمسرحية “أهل الكهف”، وتخلص منه نهائيا بعد ذلك في أعماله التالية، فقد أصبح توفيق الحكيم من كبار العارفين بأصول اللغة العربية، ومن الذين يحرصون على الصواب والدقة فيها، وقد ساعد ذلك على أن يحتل توفيق الحكيم مكانته الأدبية العالية، فهو صاحب أسلوب سهل ناعم ولعله عند دراسة أساليب أدباء الجيل الماضي يكون صاحب أجمل وأبسط الأساليب بين هؤلاء الأدباء جميعا بمن فيهم طه حسين، وعندما أضاف توفيق الحكيم إلى موهبته الرفيعة في الأسلوب البسيط الجميل الذي يتميز بالإيقاع السريع والذي لا يفرض على القارئ لحظة ملل واحدة.
عندما أضاف توفيق الحكيم إلى هذه الموهبة العالية في الأسلوب دقة لغته، أصبح الحكيم في المقدمة من أصحاب الأساليب الخاصة المتميزة في الأدب العربي المعاصر، بل في الأدب العربي كله منذ نشأته إلى اليوم.
أما العيب الثاني الذي أشار إليه طه حسين، وهو أن مسرحيات توفيق الحكيم يمكن أن تصبح قابلة للقراءة وغير قابلة للتمثيل، فهو عيب أساسي ظل يلاحق أعمال توفيق الحكيم المسرحية حتى نهاية حياته، وقد حاول توفيق الحكيم أن يجد لذلك العيب مخرجا في اصطلاح فني هو اصطلاح “المسرح الذهني”، وهو اصطلاح ذكي، ولكنه لم يستطع أن ينقذ أعمال توفيق الحكيم المسرحية من “المأزق” الذي نبهه إليه طه حسين منذ البداية.
فقد كانت أعمال مسرحية كثيرة لتوفيق الحكيم تستعصى على تقديمها فوق خشبة المسرح، لإفراطها في الحوار النظري، وعدم توفيرها للحداث الضرورية الجذابة المتماسكة التي يمكن أن تمسك بالمشاهدين من بداية العرض المسرحي حتى نهايته.
وفي بعض الأحيان تبدو مسرحيات توفيق نوعا من التفكير الخالص مثلها في ذلك مثل “محاورات أفلاطون”، وهي محاورات فلسفية ذهنية لا يمكن تقديمها على المسرح، وقد حاول توفيق الحكيم أن يتخلص من هذا العيب الأساسي في مسرحياته المختلفة، فنجح أحيانا مثلما نجد في مسرحية “السلطان الحائر” ومسرحية “الصفقة” ومسرحية “الأيدي الناعمة”، ولكنه في كثير من من مسرحياته الأخرى ظل محصورا في مجال “المسرح الذهني” الذي يمكن قراءته ويصعب تمثيله على المسرح كما هو الحال في مسرحية “شهرزاد” ومسرحية “سليمان الحكيم” ومسرحية “بجماليون” وغيرها من مسرحيات توفيق الحكيم.
ولا شك أن ملاحظة طه حسين حول مسرحية “أهل الكهف” كانت دقيقة وخطيرة، ولو التفت إليها توفيق الحكيم بدرجة كافية من العناية، كما التقت إلى أخطائه اللغوية، لتغير الوضع الراهن لمسرح توفيق الحكيم، ولأصبح هذا المسرح كله قابلا للتمثيل، لا القراءة فقط، وللأسف فإن النسبة الأكبر من مسرح توفيق الحكيم غير قابلة للتمثيل، أما ما هو قابل للتمثيل من مسرحياته فهو نسبة أقل من المسرحيات الفكرية التي تقوم على الحوار الفلسفي الجميل الممتع، وتخلو من الأحداث المتماسكة الجذابة، والتي هي شرط أساسي للنجاح فوق خشبة المسرح.
على أن توفيق الحكيم رغم ذلك كله يبقى واحدا من أكبر وأعظم الأدباء العرب في كل العصور، فهو لم يكن كاتبا مسرحيا فقط، بل كان روائيا، وناقدا، ومفكرا ساسيا، وكاتب مقال من الدرجة الأولى، وهو صاحب أسلوب متميز يبدو لي أفضل من أسلوب بين أدباء الجيل الماضي، بل وأرقاها وأبسطها وأجملها في الأدب العربي كله.
هذا بعض ما كان بين توفيق الحكيم وطه حسين، فماذا كان بين توفيق الحكيم وجبران؟
في 15 مايو سنة 1935 نشرت مجلة “مجلتي” التي كان يصدرها الأديب والصحفي المعروف أحمد الصاوي محمد مسرحية من فصل واحد لتوفيق الحكيم تحت عنوان “نهر الجنون”، وبعد أقل من شهر، وبالتحديد في 11 فيراير 1935، نشرت مجلة “الرسالة” مقالا عنوانه “إلى الأستاذ توفيق الحكيم ـ سياحة في نهر الجنون ـ هل هناك اقتباس..؟!”، وكاتب هذا المقال ذي العنوان الطويل هو أديب لم يصادفني اسمه بعد ذلك أبدا، ولم أقرأ له شيئا غير هذا المقال، وهو أديب اسمه “جورج وغريس” من الإسكندرية.
وربما كان هذا الاسم اسما مستعارا لأديب من أدباء الإسكندرية، وربما كان أديبا من الأدباء ذوي الأصل الشامي الذين كانوا يعيشون في الإسكندرية في ذلك الوقت ومنهم خليل شيبوب وشقيقه صديق شيبوب وفيلكس فارس وغيرهم، والذي يرجح عندي أنه أديب شامي هو أنه يقارن في مقاله بين عملين لتوفيق الحكيم وجبران خليل جبران، ولم يكن جبران معروفا في تلك الفترة على نطاق واسع بين الأدباء المصريين، رغم أن شهرته بين أدباء الشام كانت واسعة، أما لماذا أتصور أنه اسم مستعار فلأنني لم أقرأ لصاحب هذا الاسم شيئا سوى هذا المقال الجيد، وربما كان تصوري خاطئا.
يقول كاتب المقال:
“ليعذرني الأستاذ توفيق الحكيم إن أردت أن أقوم بسياحة قصيرة في “نهر الجنون”، ذلك النهر الرهيب الذي شاء الأستاذ أن يتدفق ماؤه من قطرات قلمه على صحائف إحدى عشرة من “مجلتي” الغراء في العدد الرابع منها الصادر في منتصف يناير الماضي 1935، والحق أنني لا أخشى أن أصاب بالجنون إن قمت بسياحة قصيرة في ذلك النهر أو انتهلت جرعة من مائه، فليس أحب إلى نفسي من أن ترشف من فيض ذلك القلم العذب الذي يذكرنا بصاحب “أهل الكهف” و”شهرزاد” و”عودة الروح”.
و”نهر الجنون” الذي خطر لي أن اكتب عنه هو عنوان لقصة تمثيلية طريفة من فصل واحد تناولها الأستاذ الحكيم في حوار لطيف، وتتلخص وقائع تلك القصة في أنه في قديم الزمان كان يجري في بلاد نائية نهر يشرب منه سكان تلك الجهة، ففي إحدى الليالي نقمت الطبيعة على ذلك النهر، فأرسلت أفاعيها تسكب سمومها في مائه فإذا به في لون الليل، ويرى الملك كل ذلك في رؤيا هائلة، ويسمع من يهتف به: “حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون…” فيمتنع الملك هو ووزيره عن الشرب من ماء النهر، فإذا بهما في تمام قواهما العقلية، أما الملكة وسائر أفراد الشعب فإنهم يتعافتون على الماء ويستقون منه فيصيب عقولهم مس من الجنون”.
ويستمر الكاتب في تلخيص مسرحية “نهر الجنون” لتوفيق الحكيم والتي تنتهي بأن يضطر الملك ووزيره للشرب من نهر الجنون ليكونا مثل بقية أفراد الشعب، بعد أن كان الشعب يتهمهما ـ وهما العاقلان الوحيدان في البلاد ـ بأنهما المجانين.
ومسرحية توفيق الحكيم تنتهي بهذا الحوار بين الملك ووزيره:
الوزير: أجل يا مولاي! وإنه لمن الخير أن تعيش الملكة والناس في تفاهم وصفاء ولو منحت عقلك من أجل هذا ثمنا.
الملك: (في تفكير) نعم. إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع الملكة والناس كما تقول. وأما العقل فماذا يعطيني..؟
الوزير: لا شيء.. إنه يحعلك منبوذا من الجميع، مجنونا في نظر الجميع.
الملك: إذن فمن الجنون ألا اختار الجنون؟
الوزير: هذا عين ما أقول.
الملك: بل إنه لمن العقل أن أؤثر الجنون.
الوزير: هذا لا ريب عندي فيه.
الملك: ما الفرق إذن بين العقل والجنون؟
الوزير: (وقد بوغت) انتظر.. (يفكر لحظة) لست أتبين فرقا.
الملك: (في عجلة) إليّ بكأس من ماء النهر.
وهكذا يشرب الملك ووزيره من “نهر الجنون” ويصبحان من المجانين مثل الملكة وسائر أبناء الشعب. ويقول كاتب المقال بعد أن لخص مسرحية توفيق الحكيم وقدم جزءا من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره:
“… هذا مجمل القصة، والجزء المهم من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره، وانتهيا منه بأن العقل لا يغنيهما شيئا في مملكة من المجانين، لذلك آثرا أن يكونا منهم. وموضوع القصة ـ كما نرى ـ طريف وليس في هذا مجال لشك أو موضع لغرابة، ولكن مما استرعى نظري أنني كنت أقرأ بدايتها قراءة الشاعر بما سيحدث في نهايتها، فما أتيت على آخرها ظللت أفكر فيمن سمعت أو قرأت عنه تلك القصة، حتى هداني التفكير إلى كتاب “المجنون” للمرحوم جبران خليل جبران، فعثرت فيه على قصة قصيرة تحت عنوان “الملك الحكيم”.. ثم يقدم الكاتب نص قصة جبران، وهي قصة قصيرة جدا، لذلك فلا بأس من أن نقدم نصها هنا.
يقول جبران في قصته:
“كان في إحدى القرى النائية ملك جبار حكيم، وكان مخوفا لجبروته، محبوبا لحكمته، وكان في وسط تلك المدينة بئر ماء نقي عذب يشرب منه جميع سكان المدينة، من الملك وأعوانه فما دون، لأنه لم يكن في المدينة سواه “أي البئر”، وفيما الناس نيام في إحدى الليالي جاءت ساحرة إلى المدينة خلسة، وألقت في البئر سبع نقاط من سائل غريب، وقالت: “كل من يشرب من هذا الماء فيما بعد يصير مجنونا، وفي الصباح شرب كل سكان المدينة من ماء البئر، وأصبحوا مجانين على نحو ما قالت الساحرة، ولكن الملك ووزيره لم يشربا من ذلك الماء. وعندما بلغ الخبر آذان المدينة طاف سكانها من حي إلى حي، ومن زقاق إلى زقاق قائلي:”قد جن ملكنا ووزيره، إم مكلنا ووزيره قد أضاعا رشدهما. وفي ذلك المساء سمع الملك بما جرى، فأمر على الفور بملء حق ذهبي، كان قد ورثه عن أجداده، من مياه البئر، فملأوه في الحال وأحضروه إليه، فأخذه الملك بيده وأداره على فمه، وبعد أن ارتوى من مائه، دفعه إلى وزيره فأتى الوزير على بقيته، فعرف سكان المدينة بذلك، وفرحوا فرحا عظيما جدا، لأن ملكهم ووزيره ثابا إلى رشدهما”.
وبعد أن أورد الكاتب نص قصة جبران القصيرة قال:
“فما رأي القارئ اللبيب في هذا؟.. أليس هناك تشابه تام بين القصتين في الفكرة والمعنى والأشخاص وفي بعض الألفاظ؟.. إني مع احترامي الشديد وتقديري العظيم للكاتب الفنان توفيق الحكيم أرى في ذلك أحد أمرين: إما أن تكون فكرت توفيق الحكيم ماخوذة مما كتبه المرحوم جبران خليل جبران، وليس في هذا حرج، ولكنه كان الأجدر بالكاتب توفيق الحكيم أن يذكر اسم المؤلف الذي أخذ عنه تلك الفكرة، وله بعد ذلك الفضل في تقريبها إلى الأذهان بصوغها في قالبه الخاص الرائع، وفي تحويرها من حكاية قصصية إلى قصة تمثيلية، وإما أن يكون ذلك من قبيل توارد الخواطر وتشابه الأفكار بين كاتبين مختلفين في زمنين متقاربين، وليس في هذا أيضا من حرج.. ولكن دعني ألا أعتقد به هنا قبل أن تأتيني بجرعة من ماء ذلك النهر في حق من ذهب أو إناء من خزف”.
ومعنى هذا التلميح الأخير في مقال الكاتب أن لا يعتقد في أن المسألة توارد خواطر، وأن القضية في حقيقتها هي اقتباس صريح، أو سرقة من جانب توفيق الحكيم لقصة جبران خليل جبران.. وإن كان من باب التهذيب والتعفف لم يذكر كلمة السرقة.
وقد علقت مجلة “الرسالة” على مقال الكاتب بعبارة قالت فيها “… هناك فرض ثالث وهو أن يكون مصدر الكاتبين واحدا”.
وبعد أسبوع من ظهور المقال في مجلة “الرسالة” كتب توفيق الحكيم تعليقا نشرته المجلة في عددها التالي رقم 85 والصادر بتاريخ 18 فبراير سنة 1935، وفي هذا التعليق يقول توفيق الحكيم:
“قرأت في العدد الأخير من مجلة “الرسالة” الغراء كلمة لأديب فاضل عن فكرة “نهر الجنون” وتماثلها مع فكرة قطعة نثرية لجبران خليل جبران. وقد حار الأديب علة هذا التشابه، وافترض بعض الفروض، وعقبت الرسالة بفرض قريب من الحقيقة. وردا على ذلك أقول إني سمعت عن هذه القصة لأول مرة منذ نيف وعشرين سنة، وقد وجدتها شائعة على الألسن كغيرها من الأساطير، ولا ريب عندي أن جبران خليل جبران لم يخترع هذه القصة اختراعا، وإنما كتبها كما سمعها من الناس. ومثل هذه الساطير ما ابتدعها كاتب، وإنما نبتت من قديم الزمان بين الشعوب والأجناس كأكثر النوادر والحكم والأمثال. وإني لم أكن أعلم قط قبل اطلاعي على عدد الرسالة الأخير أن أحدا من الكتاب والشعراء قد تناول من قبل هذه الأسطورة ولم يصل إليّ خبرها عن طريق شيء مكتوب، وإنما عن طريق أفواه الناس”.
ذلك ما كتبه توفيق الحكيم دفاعا عن نفسه ضد اتهامه بالاقتباس أو السرقة من جبران خليل جبرا، والحقيقة أن التشابه بين مسرحية “نهر الجنون” لتوفيق الحكيم وقصة جبران هو تشابه واضح لا يستطيع أن يجادل فيه أحد بالإضافة إلى أن جبران كتب قصته قبل أن يكتب الحكيم مسرحيته “نهر الجنون” بسنوات طويلة، مما جعل الشبهة في الاقتباس أو السرقة قائمة، ولكن دفاع توفيق الحكيم عن نفسه معقول، ويمكن الاقتناع به، فقصة “نهر الجنون” هي أسطورة شعبية قديمة تنتقل بين الناس من جيل إلى جيل، فالمادة القصصية موجودة قبل أن يكتبها جبران أو توفيق الحيكم، ويبدو لي أن توفيق الحكيم كان صادقا في حجته أو دفاعه عن نفسه، فأعمال جبران لم تكن منتشرة في مصر في تلك السنوات الأولى من الثلاثينيات، كما أشرت من قبل، والمصريون لم يعرفوا أعمال جبران معرفة واسعو إلا بعد ذلك بسنوات طويلةن كما أن أي بحث أدبي منصف يؤكد أن الأصل في القصة هو الأسطورة الشعبية المنتشرة بين الناس، والتي لا تختلف في تفاصيلها القصصية عما ورد في مسرحية الحكيم أو قصة جبران.
وهكذا نجا توفيق الحكيم من تهمة الاقتباس أو السرقة.
ولكن الطريف في الأمر أن توفيق الحكيم ظل طيلة حياته يعاني من تهمتين، أما التهمة الأولى فهي التي أشار إليها طه حسين في مقاله الذي كان سببا في أول أضواء يتم تسليطها على توفيق الحكيم وهي تهمة “المسرح الذهني” الذي يصلح للقراءة أكثر مما يصلح للتمثيل، أما التهمة الثانية فهي تلك التهمة التي وجهها إليه الأديب الإسكندراني المجهول “جورج وغريس”، والذي ما زلت أظن أنه اسم مستعار لأديب آخر من أدباء الشام المقيمين في الإسكندرية في تلك الفترة، والذين كانوا على معرفة واسعة بجبران وأدبه، وأقصد بهذه التهمة الثانية الموجهة إلى توفيق الحكيم: تهمة الاقتباس والتي حاول بعض النقاد أن يجعل منها نوعا من السرقة الأدبية الصريحة، فقد اتهمه بعض النقاد بأنه اقتبس روايته المعروفة الجميلة “الرباط المقدس” من رواية “أناتول فرانس”، وأنه اقتبس كتابيه “حمار الحكيم” و”حماري قال لي” من كتابات الكاتب الإسباني “خيمنيز”.. وهناك اتهامات أخرى عديدة من هذا النوع، ولا تزال هاتان التهمتان معلقتين على رقبة توفيق الحكيم إلى اليوم وهما موضع دراسات عديدة، بعضها ينفي وبعضها يثبت.
على أن ذلك كله لا يمنع من القول بأن توفيق الحكيم (1898ـ1987) كان صفحة جديدة مشرقة من صفحات الأدب العربي في القرن العشرين، وكان نموذجا لعبقرية أدبية متنوعة الجوانب، قادرة على أن تبقى حية ومؤثرة في هذا الجيل وفي كل الأجيال القادمة، ويكفي أن نعيد هنا ما قلناه في البداية من ان توفيق الحكيم صاحب أسلوب من أجمل الأساليب التي عرفها الأدب، إن لم يكن أجملها على الاطلاق.