الدكتور مصطفى محمود يكتب: قراءة فى كف التاريخ
ما أكثر ما نجد في كف التاريخ من خطوط وشقوق وندوب من آثار العجلات الحربية التي كان يركبها جنود أحمس من أكثر من خمسة آلاف عام حينما كان يطارد الهكسوس والي جوار هذه الآثار نجد الأهرامات والمعابد الفرعونية بطول النيل حتي الكرنك وأبوسنبل ونجد تماثيل رمسيس تقف في شموخ وعلي رأس الفرعون التاج وفي يده مفتاح الحياة..
وعلي الضفتين مقابر وبرديات وجداريات تحكي تاريخ المعارك والحروب وصراع الحضارات.. مصر وفارس والصين.. ثم يظهر الاسكندر المقدوني كالعاصفة ليغزو مصر ثم يأتي البطالمة والرومان..
ثم يرتدي الغزاة الرومان ثوب المسيحية لتكون لهم بابوية ورياسة وميراث في السماء ثم يطلع فجر الإسلام من قلب الجزيرة العربية ومن جبالها الجرداء.. وفي غار حراء تتنزل إلى الدنيا كلمات..
« اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)»..
أمر بطلب العلم لكل الدنيا.. وأمر بالقراءة والتفكر والتدبر..
ويكتسح نور الدعوة الجديدة الأقطار الأربعة بشكل غير مسبوق وتمتد الفتوحات الاسلامية من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي وشرقا إلى الهند والسند وشمالا إلى التبت والمغول والصين وغربا إلى الأندلس ثم تدق على أبواب أوروبا وتقف على عتبات فينا (مر الآن ألف وأربعمائة سنة بالتمام على دخول الاسلام مصر ولم نحتفل.. واحتفلنا بذكري الحملة الفرنسية على بلادنا وهي استعمار شائن. أين عقولنا.. ؟!!)
وجاء رد الغرب متأخرا في موجات من الحروب الصليبية تنكسر الواحدة بعد الأخري.. وآخرها ما رأينا في البوسنة وكوسوفو على يد الصرب وفي الشيشان على يد الروس وفي فلسطين على يد إسرائيل.
أما الصليبية الجديدة فهي الصهيونية اليهودية المتحالفة مع الإنجيليين الأمريكان.
إنها الآن رأس الحربة التي تطعن الإسلام والمسلمين في كل مكان من وراء ستار الأمم المتحدة والقطبية الأمريكية..
وهي التي تستعمل صدام حسين في العراق وتستعمل العصابات الإرهابية في أفغانستان وتستعمل الحقد الصربي في ألبانيا وتحاول أن تستميل الأقباط في مصر وتحاول أن تدمر البنية الاقتصادية في روسيا وتحاول أن تنسف البناء المالي في الدول الأسيوية وتضغط من وراء الكواليس على كل حكومة أوروبية لتحركها ضد المسلمين.
ودأبها دائما الفساد والإفساد
«كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله»
وما كانت الثورة الفرنسية في فرنسا والثورة الكمالية في تركيا والحرب العالمية الأولي في أوروبا والحرب العالمية الثانية بزعامة هتلر الا بمكرهم وتدبيرهم.. وهم دائما وراء كل الفتن والحروب.
وما كانت حروب أوروبا في القارة الإفريقية إلا صراعا على المستعمرات وتقاتل على الغنائم.. وما كان صراع حضارات.. إنها الدنيا وعواء الذئاب على الرمم.. كل ذئب يحاول أن يسبق الآخر إلى رمة أكبر والي ماتخبئه الأرض الأفريقية من معادن وخامات وذهب وماس ونيكل ونحاس.
وما كان بوكاسا وموبوتو وعيدي أمين إلا عملاء أفارقة ساعدوا بلجيكا وفرنسا وباقي فريق اللصوص على نهب بلادهم.. إنها حروب مصالح ويريد اليهود السيادة بأي ثمن.
وهم دائما حلفاء للأقوي.. ولهذا اختاروا لبس الدرع الأمريكية ليحاربوا بها العالم لأنها الدرع الأقوي.. وهم أصحاب البنوك وأصحاب البورصات وملوك الدولار وجهابذة الاقتصاد لأن الاقتصاد الآن هو القوة المحركة والصوت الآمر الحاكم على الملايين.
والصراع الآن ليس صراع حضارات وإنما صراع بين هذه الجبهة الصهيونية الأمريكية وبين كل العالم بهدف الرياسة والتسيد والتحكم وامتلاك مصائر الخلق وحصار الإسلام في كل مكان من الأرض.
هل يفرز العالم تكتلا قويا يواجه به هذا الحلف الصهيوني الأمريكي؟؟!!
لقد قرأنا أن روسيا أعادت نصب الصواريخ العابرة للقارات. واستأنفت تجاربها وأبحاثها لابتكار صواريخ أسرع وأقوي.
هل تستطيع روسيا أن تقف على قدميها وتنتصر على أزماتها وتعود كما كانت قوة مدوية.
هل تستطيع أن تتغلب على السوس الصهيوني الذي يأكل في بنيتها.
وماذا عن الصين.. المارد النائم..؟
إن زميلنا العزيز في الأهرام الدكتور أنور عبد الملك كان له مقال جميل حاول أن يقرأ فيه كف التاريخ ويتحسس المستقبل الرهيب الذي ينتظرنا.
وفي ختام مقاله كانت نبوءته أن سياسة هيمنة القطب الأمريكي الصهيوني الأوحد سوف تنتهي إلى الإفلاس وأن اسرائيل لن تستطيع أن تعيش بتوكيل من أمريكا..
لا أمة تعيش بالتوكيل..
وهو نظر صادق
ولكن المسألة لن تتوقف عند حد الإفلاس السياسي الأمريكي.. وإنما أمريكا ماضية في الإعداد لحرب عالمية قادمة في نظره.. ووزير الدفاع وليم كوهين أعلن أن بلاده قررت تمويل برنامج نظام الدفاع الصاروخي الباليستي القومي الشهير باسم حرب النجوم بتكلفة أولية مقدارها 6.6 مليار دولار للسنوات الخمس القادمة.. مما سوف يؤدي إلى نسف معاهدة1972 مع الاتحاد السوفيتي السابق المعروفة باسم المعاهدة المضادة لنظام التسليح الصاروخي الباليستي.
إننا نسير نحو حرب عالمية إذن.
هذه المرة حرب عالمية عظمى دمارها نووي وخرابها شامل.
والسؤال مع من تكون هذه الحرب وعلي من سوف تعلن.. وما هي الجبهه المواجهه في تقديره.
وهل روسيا في وضع يسمح بالدخول في مثل هذه الحرب.
وما هو تصوره لموقف الصين.
وهل تقوم هذه الحرب بطريق الخطأ.. أو بتعمد وتدبير.
أشك كثيرا في هذ الاحتمال.
وأقرب إلى ظني حرب محدودة تقوم بها إسرائيل بمساندة أمريكا وتنتهي بهزيمتها.. هزيمة غير متوقعة.. حرب مكانها المنطقة العربية وإيران.. تدخل فيها روسيا والصين كأطراف غير مباشرة ومعونات مستترة ومواقف مؤيدة في المحافل الدولية.
ولا أتصور أن الإنسان يمكن أن تبلغ به الحماقة أن يدمر بيئته ويهدم بيته بحرب كبرى تتبادل فيها الدول الكبرى القصف النووي.
وأسلحة اليوم تقتل مئات الألوف في لحظة وتسوي مدنا بالأرض.
والحرب الكونية جنون مطبق.
إنه كابوس.
ولا أجد مهربا من هذه الرؤي الكابوسية الا بأن أفتح كل نوافذ مخي على هواء متجدد.. على فن وشعر.. وحب.. وأمل.. وموسيقي.
علي روحانية.. وابتهال.. وصلوات..تعالوا معي نستروح من هذا البحر الشعري.
الله.. الله.. يا إلهي …………………… يا خير من خاطبت شفاهي
يا مالك الملك أنت ربي ………………… ووجهك الأكرم اتجاهي
فأنت حسبي وأنت جاهي
كلمات رقيقة للشاعر ابراهيم صبري في كتابه.. ديوان البراءة.. والناشر دار مصر للطباعة
يا واحدا ما له شريك ………………… وراحما لطفه وشيك
سألتك اللطف يا مليك …………… في غفلتي عنك وانتباهي
فأنت حسبي.. وأنت جاهي …….. يا فاطر الأرض والسماء
وممسك الطير في الفضاء ……… أمسك عن النفس كل داء
وصن فؤداي عن النواهي ……… فأنت حسبي وأنت جاهي
واسمعوا له يرد على تشاؤم المتنبي من نفس بحر قصيدته الدالية في حياء شديد وأدب:
ليس في ملتي ولا في اعتقادي ………… يستوي نائح وآخر شادي
وعجيب من قال أن صوت نعي ….. مثل صوت البشير في كل ناد
عجبا كيف يستقيم وجود ………………… يستوي الضد فيه بالأنداد
وإذا كل ما يعي غير مجد …………………. وهباء مبعثر في رماد
وسدي ما يقول غاو وهادي …………….. وإذا الكون إذ توهم لغود
بينما الكون لمحة من وجود ……………… سرمدي العماء والأبعاد
فتعجب لمنطق من سحاب…………….. حطه الوهم فوق سبع شداد
وفي نظم موسيقي جميل يقول من هذا البحر الراقص:
نعم جف الزمان وما جفوت ………. وأجدبت الحياة وما شكوت
ولكني زرعت الحب فيها ………………. نشيدا يانعا أني شدوت
وللشعراء أفئدة تغني ………………….. وأخيلة لها سمع وصوت
وبين جوانحي منهن وحي …………. إذا ما نمت وهنا أو صحوت
نعم ولي الرفاق رفاق عمري ………… وظنوا بي هلاكا إذ نجوت
وقد عبروا الحواجز فوق جسري …. وليس لمثل ما عجلوا صبوت
وقد عانيت منهم ما أعاني ……………. وما ودعت نهجي أو سلوت
وإن ولى زمان الحب فينا ……………… وصم الناس عما قد دعوت
وجفت روضة الدنيا جحودا ……………. ولم تدن المنى مهما دنوت
فقلبي لم يزل غضا يغني …………… وفي الأرجاء بالأصداء صوت
نعم ساد البرية مكيافيللي ……………………. فكل رهطه أني رنوت
إذا كنت المريد غدوت مرا …………… فإن كنت المراد فقد حلوت
وقد عمت أعاصير الخطايا ……………….. فليس لكائن منهن فوت
لزمت رحاب محرابي أصلي ………. فناداني من المحراب صوت
يحدث أن ما أبغي مواف ………………….. فإن الله غاية ما رجوت
وفي بكائية رقيقة عن أحوالنا يقول:
وقف الخلق ينظرون إلينا ………………….. كيف هنا وكل عز لدينا
كيف صرنا إلى الذي نحن فيه …………. وإلي أين يذهب الركب أين
قل أخي.. أين يذهب الركب أين ………….. وطن من محيطه لخليجه
كل آلاء ربنا في نسيجه ……………… أرضه.. عمقه.. سماه.. بروجه
خير ما في الوجود بعض أريجه ………… كم أضعنا خيراته من يدينا
وافترقنا في كل شرق وغرب ……………. واتبعنا العدو في كل درب
ثم صنعنا في تيه خوف وسلب …………… واختلفنا على سلام وحرب
وعلي ساحة الدمار التقينا ………….. في فلسطين.. في العراق وايران
ولبنان يأكل البعض بعضا …………………….. وانتهينا لكننا ما انتهينا
لا تقل كيف أستفيق وأين ………………….. عد إلى الله يا أخي وستغدو
فوق كل القوي وما قد أعدوا …………………… أنت بالله وحده تسترد
كل ما خلت أنه لا يرد ……………………………. فإلينا بنهج ربي إلينا
حتي شاعرنا الإلهي أصابته الكوابيس فراح يكلم نفسه ويسأل روحه ويلتمس المعونة من ربه ولم يستطع أن يهرب من نفسه ولا من عصره
أين يستطيع الواحد منا أن يهرب من نفسه ومن عصره؟
يبدو أن هذا قدرنا..
ويبدو أن أخانا عبد الملك على حق في مخاوفه.