التعليم المصرى فى نصف قرن .. كتاب جديد عن الهيئة العامة للكتاب
صدر حديثا كتاب “الشيخ أحمد محمد إسماعيل الأمير.. التعليم المصري في نصف قرن.. أفكار وآراء ومقترحات مدرس تعليم أوى” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهو من إعداد وتحقيق ودراسة شاعر سعد عبد الرحمن الرئيس الأسبق للهيئة العامة لقصور الثقافة، وبمقدمة للدكتور عماد أبوغازي.
وجاءت مقدمة الدكتور عماد أبو غازي: “هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والمُعَنوَن “التعليم المصري في نصف قرن- أفكار وآراء ومقترحات مدرس تعليم أَوَّليٍّ” يقف وراءه ثلاثة رجال؛ أولهم: الشيخ أحمد محمد إسماعيل الأمير (1877- 1962)، أحد رُوَّاد التعليم الحديث في أسيوط، بل وفي صعيد مصر، صاحب النصوص التي تجمعها دفَّتَا هذا الكتاب. وثانيهما: الأستاذ عثمان الأمير، وهو ابن الشيخ أحمد الأمير؛ الذي حافظ على تراث والده حتى وصل إلى أيدينا بفضل ثالث الثلاثة: الصديق سعد عبد الرحمن، الذي سَعِدتُ بزَمالَتِه في وزارة الثقافة لسنوات، وكان من خير من خرَجتُ بهم أصدقاء من عَمَلي بالوزارة بين عامَيْ 1999 و2011؛ فمنذ التقينا في أثناء عملي بالمجلس الأعلى للثقافة وعمله بهيئة قصور الثقافة توطَّدَت العلاقة بيننا، وعرفت فيه الشَّاعِرَ المُبدِع، والمُثقَّف المهموم بقضايا الوطن، والمُحرِّك الثقافي المتميز؛ وعرفت فيه -فضلًا عن ذلك- العاشق للتُّراث، الذي يرجع إلى الماضي البعيد، أو ذلك الذي يرجع إلى سنوات قريبة من ماضينا، ودَفَعَه عشقُه هذا إلى البحث دومًا عن النَّوادر من الكتب القديمة والمجهول منها، واقتنائها.
وعندما كان في موقع المسؤولية حرص على تعميم الفائدة ممَّا يقع تحت يده من هذه النوادر، بإعادة نشرها، مُقدِّمًا للأجيال تراثًا تَوارَى عن أعيُنِنا؛ في هذه المرة بذل الرجل جهدًا اضافيًا؛ إنه هنا لا يقوم بنشر كتابٍ نشرًا جديدًا، بل قام بجهد علميٍّ مميَّز، كان فيه صاحب أدوار عِدَّة؛ فقد قام بدَوْر الجامع المُحقِّق الدارس لنصوصٍ قادَتْه الأقدارُ وشَغَفُه بالتَّنقيب في تُراثِنا: قريبه وبعيده إليه”.
قدَّم سعد عبد الرحمن للكتاب بدراسةٍ وافية، لا يمكن فَهمُ الكتاب وسياقه بدونها؛ فالمقدِّمة في حَدِّ ذاتها دراسةٌ مُهمَّة عن الشيخ الأمير وإسهامه، كما قدَّم تحقيقًا علميًّا للنصوص، فأضاف إليها بشرحه وتعليقاته، وقام بتحليل مقالات الشيخ التي كان قد جَمَعَها بنفسه، وحَفظَها ابنُه من الضياع لسنوات طويلة.
وتضمُّ الموضوعات التي حفظها الشيخ مائتي موضوع وأربعة؛ من بينها مائة موضوع وثلاثة تتعلَّق بالتعليم وقضاياه تلك التي يضمُّها هذا الكتاب؛ أما باقي الموضوعات فتتناول قضايا أخرى، ننتظر أن ينشرها سعد عبد الرحمن قريبًا بدراسة تحليلية وافية مثل تلك التي قدَّم بها لهذا الكتاب، كما وعد بذلك.
وقد أضاف المُحقِّق إلى الكتاب سِتَّةَ ملاحق إلى جانب الملاحق الثلاثة التي كتبها الشيخ الأمير بنفسه، فَحَوَى الكتابُ بذلك تسعة ملاحق تساعد القارئ كما تساعد الباحث في تاريخ التعليم على فهم سياقات كتابة هذه المقالات؛ وتشكِّل الملاحق الستة المضافة إلى ملاحق الشيخ الأمير إضافة مهمَّةً.
ونتبيَّن من الدراسة التي تتضمَّنُها مقدِّمة الكتاب أن الشيخ الأمير نشر مقالاته في سبع عشرة جريدة، وثلاث مجلَّات، ومن استعراض أسمائها يتبيَّن مدى اختلاف الاتجاهات السياسية والفكريَّة لتلك الصحف والمجلَّات، فقد نشر في صحفٍ حزبيَّة، وأخرى غير حزبية؛ فنشر في صُحُف: الحزب الوطني، وحزب الأُمَّة، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، والوفد المصري، وحزب الأحرار الدستوريين، وجماعة الإخوان المسلمين، ونشر في صحف وطنية معارضة للاحتلال وسياسته، كما نشر في صُحُفٍ كانت مُوالِيَةً للاحتلال البريطاني، وأخرى محايدة؛ فنشر في: اللواء، والبلاغ، والجريدة، كما نشر في الأهرام، وفي المقطم والمقتطف؛ ويبدو أنه كان يسعى إلى نشر أفكاره ورؤيته في القضايا التي يهتمُّ بها، دون أن يضع في اعتباره تَحزُّبًا سياسيًّا؛ كذلك نجد من بين الصحف التي نشر فيها -بكثافةٍ- جريدةً محلِّيَّةً في أسيوط، هي جريدة “المنتظر”، التي كانت الأكثرَ نشرًا له؛ ربما بسبب اهتمامه ببيئته المحلية التي نشأ وعاش في وسطها.
وعاش الشيخ أحمد الأمير في فترة انتقال مُهمَّة في تاريخ مصر؛ فقد وُلِدَ الرَّجُل سنة 1877، وتُوفِّي سنة 1962؛ إذن عاش الرجل سنوات الاحتلال البريطاني لمصر كامِلَةً؛ وعاصر تحوُّلَ مصر سياسيًّا بين أربعة نُظُم؛ فقد وُلِدَ في ظِلِّ الخديوية، وعاش السَّلطَنَة، والمَلَكيَّة، والتحوُّل إلى النظام الجمهوري؛ وعاصر حربَيْن عالميَّتَيْن، وحربَيْن خاضتهما مصر في 1948 و1956.
وإذا كان قد عايَشَ أحداث الثورة العرابية وبداية الاحتلال البريطاني لمصر طفلًا صغيرًا، لا نعرف إن كان وَعيُه قد أدرك بعضًا من حوادثها أم لا؛ فلا شكَّ أنه كان واعيًا مدركًا للصَّحوَة الوطنية في بدايات القرن العشرين، ثم ثورة 1919 وما أعقبها من نهضة في مناحي الحياة كافَّة؛ وإعلان استقلال مصر بالتحفُّظات الأربعة في فبراير 1922، وصدور دستور 1923، ثم الانقلابات الدستورية التي قادها الملك أحمد فؤاد ليقضي على المكاسب الدستورية للثورة، كما عاصر النِّضالَ الشعبي لحماية الدستور والحياة الديمقراطية بين 1930 و1935، وعودة الدستور وتوقيع معاهدة 1936 وإنهاء الامتيازات الأجنبية، ثم الانتفاضة الشعبية في 1946، والكفاح المُسلَّح في منطقة القناة ضدَّ الوجود البريطاني، ووصول الضُّبَّاط الأحرار إلى السُّلطَة وقضائهم على النظام المَلَكيِّ وإنهاء حُكم أسرة محمد علي في يونيو 1953 وتحوُّل مصر إلى جمهورية، وتوقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954 .
عاش تحوُّلاتٍ اجتماعيَّةً واقتصادية وسياسية مُهمَّة في سنواته الأخيرة، بدءًا بأول قوانين الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952، ثم تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لقناة السويس وما أعقبه من عدوان على مصر، وشهد تمصير الاقتصاد ثم ما سُمِّي بالقرارات الاشتراكية، عاصر الوحدة المصرية السورية وإعلان الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1958، كما حضر انتهاء التجربة بالانفصال في سبتمبر1961 .
خُلاصَةُ القول: إن الرجل عاش عصرًا غنيًّا بالتحوُّلات على مختلف أصعدة الحياة المصرية، بل والإقليمية والعالمية؛ كان عصر انتصاراتٍ ونجاحاتٍ، مثلما كان عصرَ هزائِم وإخفاقات، ولا شكَّ في أن رَجُلًا بمثل ثقافته ووعيه واهتماماته قد تأثَّر بكل ما مَرَّ به المجتمع المصري خلال سنوات عمره التي جاوَزَت الثمانين، والتي يبدو من استمراره في الكتابة أنه كان واعيًا بها، مُدرِكًا لها، مُتفاعِلًامعها حتى اقتراب النهاية.
يضمُّ الكتابُ مقالات الشيخ أحمد الأمير حول التعليم، وتمتدُّ كتابات الشيخ بين 1901 و1960، ستون عامًا، كَتَبَ فيها مائة موضوع وثلاثة في التعليم، ما بين خَبَرٍ، ومقالٍ، وكلماتِ تلاميذه في المناسبات العامَّة التي كان هو كاتبها على الأرجح؛ بعض المقالات تندرج في مجال فلسفة التعليم وسياسات إصلاح منظومته في مصر، وبعضها يندرج تحت القضايا النقابية للمعلِّمين وشيوخ الكتاتيب وعَرِّيفيها، والبعض الثالث مجرَّد أخبار.
نُشِرَت هذه المقالات في فترةٍ شَهِدَت تطوُّرات مُهمَّة في تطوُّر منظومة التعليم في مصر، سواء على مستوى الإصلاحات المهمة التي حَدَثَت في اتجاه النهوض بالتعليم في مصر وما صَحِبَها من معارك سياسية وفكرية، أو على مستوى وعي المجتمع بأهمية التعليم وضرورته لتطوُّر البلاد ونهضتها، أو على مستوى المؤلَّفات التي تتناول التكوين المعرفي للإنسان المصري أو السياسات التعليمية.
وشَهِدَت السنواتُ الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين دعواتٍ جادَّةً لإصلاح منظومة التعليم وتطويرها في مصر لتُواكِبَ نظيرتها في دول العالم، ولتستأنف المشروع الذي بدأ في مطلع القرن التاسع عشر، وتتلافى جوانب القصور فيه، وتُصلِح من عيوبه؛ وقد اصطدمت هذه الدعوات برؤية سُلُطات الاحتلال البريطاني ومُمثِّلها في مجال التعليم المستشار البريطاني لنِظارة المعارف دوجلاس دنلوب؛ وكان تَوَلِّي سعد زغلول منصب ناظر المعارف العمومية في عام 1906 نُقطَةً فارِقَةً في هذا المسار، حيث بدأ في تَبَنِّي سياساتٍ للإصلاح التدريجي في مجال التعليم العام.
وخلال مسيرة حياة الشيخ الأمير شَهِدَت أحوال التعليم العام والجامعي في مصر تطوُّرات مُهِمَّة، فقد تبنَّى دستور 1923 مبدأ إلزامية التعليم في مراحله الأولى، وأدخل نجيب الهلالي باشا ومحمد حسين هيكل باشا إصلاحاتٍ مُهِمَّةً على منظومة التعليم في أثناء توليهما وزارة المعارف العمومية خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وتمَّ إقرارُ مجَّانيَّة التعليم العام على مراحِلَ، اكتَمَلَت على يد طه حسين عندما أصبح وزيرًا للمعارف في حكومة الوفد الأخيرة عام 1950، ثم امتدَّت المجَّانِيَّة لتشمل التعليم الجامعي في مطلع الستينيات في سياق ما سُمِّي بقرارات يوليو الاشتراكية.
وتميَّزَت تلك السنوات كذلك بوعيٍ مجتمعيٍّ كبير وإدراكٍ عالٍ لأهميَّة التعليم وضرورة النهوض به باعتباره مَدخَلًا لتحقيق نهضة الأمَّة واستقلال البلاد.