أمل دنقل يُحاكم رموز عصره.. ماذا قال عن العقاد وطه حسين والحكيم ونجيب محفوظ؟
من اللحظة التى طرح فيها الشاعر الكبير أمل دنقل (1940- 1983) أولى قصائده، عرف مُعاصروه أمرين، أولهما أى نوع من الأدباء ينتمى الرجل، والثانى إلى أي مكان ستقوده هذه الكلمات.
كان زمن يموج بالهتافات، زمن تفوح منه رائحة حلم يغنون فيه لأمجاد وانتصارات يروجها شعراء عظام وأسطوات كتابة كبار وصحفيون ومذيعون وقصاصون، ومطربون، وملحنون، كان حلم يسيطر على المناخ العام ويُسطر حواس الناس نحو التأييد.
وبينما كانت تلك الناس تسير مخدرة بالحلم، والمذياع يصدح بـ “صورة صورة صورة.. كلنا كده عايزين صورة.. صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة” كتب دنقل “أسأل يا زرقاءْ/ عن فمكِ الياقوتِ عن نبوءة العذراء/عن ساعدى المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة” كتب قصيدة توقعت هزيمة 1967 واختار لها عنوان البكاء بين يدى زرقاء اليمامة.
كان طبيعيا منذ ذلك الحين أن يدرج اسم دنقل على قوائم الممنوعين، وأن تغلق فى وجهه أبواب الصحف والمجلات ودور النشر وفرص العمل، وكان طبيعيا أن يحاربوه، وعلى غير المتوقع منه أن يصمد ويجود بأشعار بديعة تحاصر الحاضر وتنفذ من خلف الأبواب المؤصدة والحواجز والحوائط.
كان دنقل رغم ذلك لا يشعر بأنه يجود بشيء كبير، وكان يعتبر أن ذلك هو دورة كمثقف، متوقعا أن يكون كل المثقفين على نفس الرأى والموقف وأن يدفعوا أثمانا فادحة لكلماتهم وأن تمنع كتاباتهم وأن يشردوا ويعانوا مثله – ومن هنا كان خلافه مع معاصريه – خلافه الذى اتسم بشراسة لا لين فيها، وآراء صادمة اتسمت ببعض العداء وربما التجني.
واعتمادا على كتاب “حوارات أمل دنقل” إعداد أنس دنقل، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، نجد بعض آرائه في أبرز كتاب عصره:
أرفض أن أجالس نجيب محفوظ وأرفض حتى أن أحييه
يتجلى هذا العداء مثلا فى موقفه من الأديب الكبير نجيب محفوظ، إذ يقول عنه فى إحدى حواراته: عندما أصدرنا البيان الذى وقعه العشرات من كتاب مصر اللامعين، والذى يؤيد حركة الطلاب فى عام 1973 – لم يكن البيان إلا أدنى مساهمة يمكن أن يكفر بها هؤلاء عن مسيرتهم الطويلة فى الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، كانت فرصتهم الأخيرة للحاق بالوعى الزاحف بين شباب هذا الوطن.
ويضيف ولكن الإجراءات العصيبة التى واجهت هؤلاء الكتاب، جعلت كثيرا منهم يتراجع بعدما أضيرت مصالحهم المادية، ويتابع: إن دخل نجيب محفوظ المادى كبير، لكنه يطمع فى المزيد عن طريق السينما والتلفزيون والإذاعة، ومن هنا فإن قرارا مثل قرار منعه من التعامل مع الأجهزة هو الذى جعله يسارع بالركوع، هذا كعب أخيل فى نجيب محفوظ لكننى شخصيا أحترم الضعف البشرى ولا أحترم ضعفا من هذا النوع، وبصفة شخصية أيضا فإننى منذ كتابة نجيب محفوظ لوصاياه العشر أرفض أن أجالسه شخصيا وأرفض حتى أن أحييه، فهو فى نظرى لا يستحق حتى الرثاء.
طه حسين كل همه أن يكون فى الصورة
وعن الكتاب الرواد الآباء المؤسسين يصدمك دنقل فى رأيه فيهم إذ يقول: بعد مرحلة الاستقلال كان من واحبهم تركيز جهودهم فى قضية الثقافة بدلا من تركيز جهودهم فى تحقيق استمرار وقتى فى الصحف والمجلات، وأن يحاولوا بناء أساس استمرار حقيقى.
ويتابع لقد كان فشلهم فى ذلك، أن تحول كاتب وطنى مثل عباس محمود العقاد إلى مجرد كاتب يكتب لحساب السفارة الأمريكية، وكذلك تنقل طه حسين تنقلا غير مبدئى بين أحزاب متناقضة ومتطاحنة، فقد بدأ حليفا ومؤيدا لحزب الأحرار الدستوريين ثم أصبح وزيرا فى حكومة وفدية، وأصبح كل همه هو الاستمرار، وأن يكون دائما فى الصورة.
أما توفيق الحكيم، الذى بدأ كاتبا مسرحيا، فقد تحول فى منتصف الطريق إلى مجرد نجم من نجوم مؤسسة أخبار اليوم، التى أحاطته برعاية مستمرة تتسم بالابتذال مطلقة عليه ألقابا مثل “عدو المرأة” و”صاحب البرج العاجى” و”صاحب الحمار”، ما أريد أن أقوله باختصار هو أن هذا الجيل لم يحاول أن يطور من نفسه كى يتسق مع المرحلة الاجتماعية المختلفة التى نشأت بعد الاستقلال، وبعد الحرب العالمية الثانية بالذات، وحيث برز عالم يكاد يكون جديدا تماما، وبعد انهيار القيم والمفاهيم القديمة، وأصبحت هناك مفاهيم جديدة، ورؤية جديدة للعالم. وأظن أن عملية إفلاسهم قد بدأت منذ هذا الحين، وهذا لا ينفى دورهم كآباء ورواد وأساتذة وناقلين جيدين أيضا للثقافة الغربية.