التضخم الاقتصادي.. كتاب جديد يرصد أثر تدهور الاقتصاد في سقوط دولة المماليك
تظل التحولات الاقتصادية هي العامل الأبرز في قياس حضارات الأمم ومدى تقدمها على كافة الأصعدة، فمتى كان الاقتصاد قويا كانت الدول في أزهى فتراتها التاريخية، يدفعها غطاءها النقدي للتقدم والازدهار، أما إذا زارها شبح التضخم والتدهور النقدي فإنها تبدأ خطواتها القوية نحو التدهور والانهيار.
لقد مثل تاريخ الدول في مصر الإسلامية عدة نماذج لإثبات هذه القاعدة، ولاشك أن العصر المملوكي مثّل أقوى تلك النماذج، وهذا ما عبر عنه الدكتور أسامة السعدوني، مدير سلسلة التراث الحضاري بالهيئة المصرية العامة للكتاب في كتابه الجديد “ظاهرة التدهور التضخم الاقتصادي في العصر المملوكي 648ــ 923هـ/ 1250ـــ 1517م)، والذي صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
بداية يقول الدكتور السعدوني إن دراسته التى تنتمي لحقل التاريخ الاقتصادي، تمثل شيئا من الشق التجريبي والعملي في تاريخنا، وتبين كيف تعامل السابقون مع ظاهرة التضخم الاقتصادي في سياقهم الزمني؟، ويجمع الكتاب بين دفتيه أيضًا الشق التنظيري لعلمائنا القدامى عن هذه الظاهرة، وما رصده مؤرخونا من هذه الأسباب والمؤشرات والآثار، وفي مقدمة هؤلاء شيخ المؤرخين تقي الدين المقريزي (ت 845هـ) في رسالته “إغاثة الأمة بكشف الغمة”.
كان المقريزي قد وضع تنظيرًا لظاهرة التضخم – فتناول فيها الظاهرة، وحدد أسبابها، وكشف عن آثارها، وحلل مفرداتها ومؤشراتها، واتسع له المقام ففصل آثار التضخم في كتابه “الخطط”، حيث تتبع آثاره ليس فقط على صنوف المجتمع، وإنما على النشاط الزراعي، والنشاط الصناعي، والنشاط التجاري المتمثل في الأسواق، وعلى العمران، والمباني، وأماكن النُزهة، ومظاهر الترف الذي كان يَنْعَمُ فيها المجتمع المملوكي، وفصّل العلاج في كتابه “شذور العقود”، واتسع أيضا له المقام في كتابه الأشهر: “السلوك فى معرفة دول الملوك” ، حيث وجد المقريزي أن أسباب الظاهرة متجددة، كلما وُجِدَتْ تبعث فيها الروح من جديد؛ لتصبح أكثر شراسة.
وقال السعدوني:”ومعلوم إن الحدث التاريخي جاء محصلةً لأسباب كثيرة: سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وغيرها، ويعد الجانب الاقتصادي عاملا مهمًا في توجيه الحدث السياسي، والاجتماعي، ولقد كان العامل الاقتصادي من أهم العوامل وراء قوة دولة المماليك، كما يُعد هو نفسه سببًا من أسباب ضعفها وانهيارها، ممّا يدعو إلى التَّفكُّر والتَّدبُّر في هذا العامل”.
وأوضح أنه لما كانت ظاهرة “التضخم” من أهم الظواهر الاقتصادية – قديمًا وحديثًا – ، والتي أشارت كثير من الدراسات إلى بروزها خلال العصر المملوكي؛ مما يحتم دراستها دراسة تفصيلية؛ حتى لا يتوقف البحث العلمي عند مجرد رصد الظاهرة، وإنما يمتد إلى تحليلها تحليلا علميا دقيقا، فقد قدّم في هذا الكتاب توصيفًا للظاهرة في الفترات التي بدت فيها واضحة في العصر المملوكي؛ وذلك بالربط بين جمع النصوص المجملة في المصادر التي صرحت بالظاهرة والموافقة لصريح ما جاء به علم الاقتصاد الحديث.
وقال السعدوني:”قُمت بجمع وحصر وجدولة وتمثيل مادة أسعار السلع وأسعار الصرف، وإشارات انخفاض قيمة العملة وانخفاض قوتها الشرائية، وتوضيح وجوه الظاهرة المختلفة ومؤشراتها، ثم حللتُ هذه المادة، وهذه المخرجات، وقارنت بينها؛ ليصل البحثُ إلى نتيجة تاريخية علمية دقيقة، كما لم أًغفل المحاولات التي قامتْ بها الدولة لمواجهة ظاهرة التضخم، وذلك باستكتاب علماء العصر المملوكي ومتخصصيه، وتتبعتُ النصوص التنظيرية لهذه المحاولات الإصلاحية، وكذلك وقفتُ على الإجراءات العملية التي أنزلتْ هذا التنظير إلى حيز التطبيق، من خلال مواجهة أسباب الظاهرة، واتخاذ الدولة لحُزمة من الإجراءات الناجحة لمواجهة تفشي هذه الظاهرة، وقد تأكَّدَ هذا النجاح من المصادر التاريخية المملوكية، وقُمت بتحليل اقتصادي لمادة أسعار السلع وأسعار الصرف وغيرها.
بدوره يقول أ.د فياض عبدالمنعم حسانين أستاذ الاقتصاد، جامعة الأزهر، ووزير المالية الأسبق، أن الدراسة أرادت أن تكشف اللثام عن ثروة علمية وفكرية ذات قيمة عالية تؤكد اهتمام العلماء المسلمين منذ قرون بظاهرة التضخم أو الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، وذلك فيما نراه في إبداعات تقي الدين المقريزي، ت(845هـ/1441م) في كتبه الأربعة: “إغاثة الأمة، والخطط، وشذور العقود، وفي السلوك” واستطاع بمنهجية دقيقة أن يستخلص حقائق عن هذه الظاهرة فيما يشبه استخلاص القانون الاقتصادي الحاكم لظاهرة التضخم.
وبهذا الاستنتاج الذي توصل إليه المقريزي يكون قد غطى الدوائر الأساسية لوظائف علم الاقتصاد الحديث المقررة عند علماء منهج البحث في الاقتصاد، وهي: أولًا: الوصف والتشخيص للظاهرة، وتحديد أبعادها بكل دقة، ثمّ ثانيًا: التفسير للظاهرة الاقتصادية، بإثبات مختلف الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الظاهرة، بالإضافة إلى استخلاص تعميمات حول الظاهرة، بمعنى القدرة على إرجاع الظاهرة في أي مجتمع أو في أي زمن إلى أسبابها المؤثرة من خلال تحديد العلاقات السببية التي تحكم الظاهرة، وثالثًا: وظيفة أو هدف التنبؤ، وهنا يحدث الانتقال من مرحلة التفسير وتعميمها إلى مرحلة القدرة على استكشاف السلوك الاقتصادي في الأحوال المختلفة، ومن ثمّ الانتقال إلى الوظيفة أو الهدف الأخير لعلم الاقتصاد، وهو التحكم في الظواهر الاقتصادية، فطالما أن لدينا ثقة، ونتائج علمية موثقة عن العلاقة المفسرة للظاهرة الاقتصادية، وجرى صياغة العلاقة السببية بين الأسباب والنتائج، فإن ثمرة ذلك هو التحكم في الظاهرة الاقتصادية ومنع حدوثها أو التأثير في مستواها وآثارها، وذلك من خلال التحكم في متغيرات الظاهرة الاقتصادية، وهذا التحكم لا يتم إلا بعد أن نكون قد حددنا المتغيرات التي ستنتج الظاهرة وتكون سببًا لها.
ومن المعلوم أن المقريزي كان تلميذًا لابن خلدون (ت 808هـ) الذي رحل إلى مصر، وأقام فيها مدة من الزمن، فالتقى به المقريزي، ودرس على يديه واستفاد منه.
وابن خلدون يُعد بحق هو المؤسس الأول لعلم الاقتصاد الحديث، وليس كما يُشاع في الكتب الغربية أن مؤسس علم الاقتصاد هو “آدم سمث”، فابن خلدون هو أول من حدد بدقة وظائف الدولة الاقتصادية ودورها إلى غير ذلك من المبادئ والنظريات والمفاهيم الاقتصادية التي ابتكرها ابن خلدون، ونقلها عنه “آدم سمث” ثمّ أعاد صياغتها فيما بعد، بدون أن يرجع الفضل لصاحبه، وهكذا فإن المقريزي تلميذ مخلص لابن خلدون، أخذ منه وبنى على ما أخذه، وتعمق في أدواته التحليلية وطبق ذلك في قضية التضخم فأجاد وابتكر في دراسة شاملة ومتكاملة لأبعاد الظاهرة، ولكن الأبرز فيها هي القدرات التحليلية على الواقع الاقتصادي التطبيقي.
وأوضح أن الكتاب أبرز بشكل واضح ومفصّل كيف أن المقريزي استطاع بمهارة عالية بالإحاطة الدقيقة لجوانب وأبعاد مشكلة التضخم في عصره، وتفصيل علاقتها بالجوانب والأنشطة الاقتصادية الأخرى في المجتمع، ويلاحظ أنه قد قام بتجميع أكبر قدر من البيانات والمعلومات -كما هو موضح في الكتاب في الجداول والأشكال البيانية المتعددة الواردة فيها – حول الظاهرة؛ وذلك بفرض استخلاص الحقائق حول مشكلة التضخم، فتناول بشكل مفصل وبأسلوب يثير الإعجاب والدهشة تطورات أسعار الكثير من المحاصيل عبر فترة زمنية ممتدة.
وعرض المقريزي أيضا التطور في أنواع وأشكال النقود المختلفة والتغيرات في القيمة الشرائية لكل نوع منها، والعلاقات النسبية بينها…إلخ، ولقد تمتعت دراساته في كتبه الأربعة التي ذكرناها سابقًا باستخدام أدوات التحليل الاقتصادي، التي تطورت فيما بعد تحت عناوين التحليل الساكن، والتحليل المقارن، والتحليل الحركي، والتحليل الجزئي، والتحليل الكلي، وذلك بعد ما يزيد على خمسة قرون بعد عصر المقريزي، لنعرف إلى أي مدى كان المقريزي سابقًا في أدوات التحليل الاقتصادي لظاهرة التضخم، وهذه نقطة غاية في الأهمية من منظور التقرير العلمي لأدوات التحليل الاقتصادي التي تمكن فيها المقريزي –رحمه الله-، فيما لم يسبقه في ذلك أحد من علماء الاقتصاد، ونحتاج إلى دراسة مفصلة، على نحو خاص.
يذكر أن هذا الكتاب كان في أصله رسالة الدكتوراه التي حصل عليها السعدوني من قسم التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وقد جاءت بإشراف الأستاذ الدكتور/ يسري أحمد زيدان (رحمه الله) أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، والأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم حسانين أستاذ الاقتصاد، بجامعة الأزهر، ومناقشة الأستاذ الدكتور/ محمد علي دبور، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، والأستاذ الدكتور/ شلبي الجعيدي، أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب جامعة المنصورة.