ما حكم صلاة الجنازة في الشارع بالنعال في زمن الوباء؟.. دار الإفتاء تجيب
نظرًا لِما تمرُّ به بلدان العالم ومنها مصر جرَّاء فيروس كورونا المستجد، والقرارات التي اتخذتها السلطات للحدِّ من انتشار هذا الوباء من غلق المساجد ونحوها من دُور العبادات، يقومُ المسلمون بالصلاة على الجنائزِ في الشوارع أو في الأماكنِ الواسعة، والكثير منهم يصلي على الجنازة دون أن يخلع نعليه، بدعوى أن هذا ليس مسجدًا، فهل صلاتهم بالنعال على هذا النحو صحيحة؟
الجواب: الأستاذ الدكتور/ شوقي إبراهيم علام
نصَّ فقهاء المذاهبِ المتبوعة على أنه يشترط لصحَّة صلاة الجنازة ما يشترط لصحَّة الصلوات المفروضة من الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، وطهارة البدن والثوب والمكان من النجاسات، وستر العورة واستقبال القبلة، والنيَّة.
قال العلامة الحدَّادِي الحنفي في “الجوهرة النيرة” (1/ 107، ط. المطبعة الخيرية): [ومن شرط صحَّة صلاة الجنازة: الطهارة، والستر، واستقبال القبلة، والقيام] اهـ.
وقال العلامة ابن رشد المالكي في “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” (1/ 257، ط. دار الحديث) في ذكر شروط الصلاة على الجنازة: [واتفق الأكثر على أن من شرطها الطهارة، كما اتفق جميعهم على أن مِن شرطها القبلة] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في “المجموع شرح المهذب” (5/ 222، ط. دار الفكر): [ومن شرط صحَّة صلاة الجنازة: الطهارة، وستر العورة؛ لأنها صلاة، فشرط فيها الطهارة وستر العورة كسائر الصلوات، ومن شرطها القيام، واستقبال القبلة؛ لأنها صلاة مفروضة، فوجب فيها القيام واستقبال القبلة مع القدرة كسائر الفرائض] اهـ.
والصَّلاةُ في الشوارعِ جائزة شرعًا؛ فإن الأصل في الأرض أن الله تعالى جعلها للمسلمين مسجدًا وطهورًا، فيجوز لهم الصلاة في أي موضع أدركتهم فيه؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ» متفق عليه.
كما أن الصلاة بالنعلين إذا كانا خاليَيْنِ مِن الخبث والنجس لا تتنافى مع طهارة المسلم وصحة صلاته؛ حيث إنها من الرُّخص التي شُرعت تيسيرًا على العباد، فإذا خالطت النعال للنجاسات ونظر المكلف فيها فلم يجد لتلك النجاسات أثرًا، جازت له الصلاة بها؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بأصحابه إِذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته، قال: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟» قَالُوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا»، وقال: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا» أخرجه الإمام أحمد، وأبو يعلى في “المسند”، والدارمي، وأبو داود في “السنن”، وصححه الحاكم في “المستدرك”.
وأفرد الإمام البخاري في “صحيحه” بابًا في مشروعية الصلاة في النعال، روى فيه عن سعيد بن يزيد الأزدي قال: “سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: أكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم”.
قال الإمام القرافي المالكي (ت684هـ) في “الفروق” (4/ 105، ط. عالم الكتب): [النعال الغالب عليها مصادفة النجاسات، لا سيما نعلٌ مُشِي بها سَنَةً، وجُلس بها في مواضعِ قضاء الحاجة سنة ونحوها، فالغالب النجاسة، والنادر سلامتُها من النجاسة، ومع ذلك ألغى الشرع حكم الغالب وأثبت حكم النادر؛ فجاءت السُّنة بالصلاة في النعال حتى قال بعضهم: إن قلْع النعال في الصلاة بدعة، كل ذلك رحمة وتوسعة على العباد] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” (1/ 494، ط. دار المعرفة، بيروت): [قوله “يصلي في نعليه”، قال ابن بطال: هو محمولٌ على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة، ثم هي من الرُّخص، كما قال ابن دقيق العيد لا المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخلُ في المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابسِ الزينة إلا أن ملامسته الأرض التي تكثر فيها النجاسات تقصر عن هذه الرتبة] اهـ.
والترخُّص بالصلاة في النعلين إنما هو في غير المساجدِ المفروشة، كما كان الحال على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد كانوا يصلون على الرمال والحصى، وكان يشُقُّ عليهم في ذلك خلع النعال.
قال العلامة ابن مَازَه الحنفي في “المحيط البرهاني” (5/ 316، ط. دار الكتب العلمية): [إن مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة كان مسقفًا من جريدة النخل حيطانه من الحجر، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا نزيد لك؟ فقال: «لَا، بل عَرِيش كعريش مُوسَى صَلَوَات الله عَليه»، وكان يكف إذا حلّ به المطر، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: “رأيته يسجد في ماء وطين”] اهـ.
أما في عصرنا فقد فُرِشَت المساجد بالسجاد أو الحصير الذي يتَّسخ إذا دِيسَ عليه بالنعال، فتسوء رائحته؛ لِمَا يعلق به من التراب والأوساخ والنجاسات التي تتنافى مع قدسية المساجدِ وتعظيمها، وذلك مما يتأذَّى به المصلون، فكان حرامًا.
قال الحافظ ابن رجب في “فتح الباري” (3/ 130، ط. الغرباء الأثرية): [وقال بكر بن محمد: قلت لأبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد بن حنبل- ما ترى في الرجل يبزق في المسجد ثم يدلكه برجله؟ قال: هذا ليس هو في كل الحديث. قال: والمساجد قد طُرِحَ فيها بواري (أي: حُصْر) ليس كما كانت] اهـ.
ولم يكلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مريد الصلاة في نعليه إلا بالنظر أسفلهما قبل الصلاة بهما، فإذا وجد فيهما شيئًا من الخبث مسحهما بالتراب وصلى فيهما؛ لأن الغالب أن ما أصابهما من خبث أثناء المسير في الطرقات يطهره ما بعده من تراب الأرض، ولأن القدم حافية قد تصادفها القاذورات أيضًا، ولم يكلف الشرع المصلي حافيًا بغسل قدميه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلِهِ الأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ» أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة والحاكم.
قال محيي السُّنَّة الإمام البغوي في “شرح السنة” (2/ 93، ط. المكتب الإسلامي، دمشق): [ذهب بعضُ أهل العلم إلى ظاهرِ هذا الحديث منهم النخعي، كان يمسحُ النعل أو الخف يكون به السِّرْقين عند باب المسجد، فيصلي بالقوم، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور] اهـ.
وعن أُمِّ ولدٍ لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنَّها سألت أُمَّ سلمة رضي الله عنها زوجَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إنِّي امرأة أُطيلُ ذَيلي، وأمشي في المكانِ القَذِر؟ فقالت أمُّ سلمة رضي الله عنها: قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يُطَهّرُه ما بعدَه» رواه الأئمَّة: مالك في “الموطأ”، والشافعي وأحمد في “المسند”، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في “السنن”.
وسُئِل عروة بن الزبير رضي الله عنهما، عن الروث يصيب النعل؟ قال: “امْسَحْهُ وَصَلِّ فِيهِ” رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”.
وفي “المدونة” (1/ 127، ط. دار الكتب العلمية) عن الإمام مالك رحمه الله تعالى: [قال ابن القاسم: كان مالك يقول دهره في الرجل يطأ بخفه على أرواث الدواب ثم يأتي المسجد؛ أنه يغسله ولا يصلي فيه قبل أن يغسله، ثم كان آخر ما فارقناه عليه أن قال: أرجو أن يكون واسعًا، قال: وما كان الناس يتحفظون هذا التحفظ. وقال مالك فيمن وطئ بخفيه، أو بنعليه على دم، أو على عذرة؟ قال: لا يصلي فيه حتى يغسله، قال: وإذا وطئ على أرواث الدواب وأبوالها؟ قال: فهذا يدلكه ويصلي به، وهذا خفيف] اهـ.
وقال العلامة ابن بطال في “شرح صحيح البخاري”(2/ 50، ط. مكتبة الرشد): [واختلف العلماء في تطهير النعال والخفين من النجاسات؛ فقالت طائفة: إذا وطئ القذر الرطب يجزئه أن يمسحه بالتراب ويصلى فيه. هذا قول الأوزاعي وأبي ثور] اهـ.
وقال الإمام المازري المالكي في “شرح التلقين” (1/ 495، ط. دار الغرب الإسلامي): [من هذا الباب أيضًا ما سُئل عنه الإمام مالك رضي الله عنه، فقيل له: الرجل يطأ على موضع قذر جاف وقد غسل رجليه؟ فقال: لا بأسَ بذلك، قد وسَّع اللهُ على هذه الأُمة، وتلا قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا﴾ [البقرة: 286]، وقد اختلف في سبب توسعة مالك في هذا؟ فقال ابن اللباد: لأن الواطئ على موضع قذر يطأ بعده موضعًا طاهرًا يذهب عين النجاسة، فيكون تطهيرًا لهاٍ] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في “الفروق” (4/ 173): [الغالب مصادفة الحفاة النجاسة لا سيما في الطرقات ومواضعِ قضاء الحاجات، والنادر سلامتهم، ومع ذلك جوَّز الشرع صلاةَ الحافي من غير غسل رجليه كما جوَّز الصلاة بالنعل؛ فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمشي حافيًا، ولا يعيب ذلك في صلاته؛ لأنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بنعله، ومعلومٌ أن الحفاء أخفُّ من تحمُّل النجاسة من النعل، فقدَّم الشارعُ حكمَ النادرِ على حكم الغالب توسعةً على العباد] اهـ.
وما يقوم به المسلمون الآن من الصلاة على الجنازة في الشوارع بالنعال نظرًا لغلق المساجدِ بسبب فيروس كورونا المستجد، هو مما يجري على مقتضى الرُّخصة في الصلاة بالنعال؛ لأن الصلاة في الشوارعِ كحالها على الحصباء والتراب والرمل، بل هي أدْخَلُ في الرُّخصة وآكدُ، ولما في ذلك من الإعانة على أدائها؛ فإن صلاة الجنازة من الصلوات التي لا تُقضَى، ولذلك أجاز بعضُ الفقهاء من الحنفية وغيرهم التيمُّم لصلاتها مع وجود الماء إذا خِيف فوتها بالوضوء؛ وذلك حرصًا على أدائها.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “إذا خفت أن تفوتك الجنازة وأنت على غير وضوء؛ فتيمم وصلِّ” رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”، وابن المنذر في “الأوسط”.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: “أَنه أُتي بجنازة وهو على غير وضوء، فتيمَّم ثم صلَّى عليها” رواه ابن المنذر في “الأوسط”، والدارقطني في “السنن”، والبيهقي في “معرفة السنن والآثار”.
وهو مرويٌّ عن النخعي، والحسن، والزهري، والليث، وسعد بن إبراهيم، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وسفيان، وإسحاق، وأصحاب الرأي، كما ذكره ابن المنذر في “الأوسط”.
قال الإمام الزيلعي الحنفي في “تبيين الحقائق” (1/ 42، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [قال: (وخوف فوت صلاة جنازة) أي: يجوز التيمُّم لخوف فوت صلاة الجنازة؛ لأنها تفوت لا إلى خلف، فصار الماء معدومًا بالنسبة إليها] اهـ.
وبناءً على ذلك: فإنه يجوز أداء صلاة الجنازة بالنعال خارجَ المسجد، سواء أكان ذلك في الشوارعِ أم عند المقابر؛ لأن الصلاة بالنعال حينئذٍ من الرُّخَص التي أباحها الشرع تيسيرًا على العباد، ولأن ذلك أدْعَى لهم على أدائها في ظل هذه الظروف، ولِمَا قد يكون في التكليف بخلْعِ النعال من فوت للجنازة والمشقَّة على الناس.
والله سبحانه وتعالى أعلم