ما حكم الشهادة على زواج المنتقبة؟.. دار الإفتاء تجيب
طلب مني أحد أصدقائي أن أشهدَ على عقد زواجه، فإذا بزوجته منتقبة، فهل يصحّ أن أشهد على العقد دون رؤية وجهها، أم يجب أن أرى وجهها حتى تصحّ الشهادة ويصحّ العقد؟
الجواب : الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
الذي عليه الفتوى أن ارتداء النِّقاب إنما هو مِن قبيل العادات، وليس من قبيل التَّشَرُّع أو الزينة، وهذا هو ما عليه الفتوى؛ بناءً على أن عورة المرأة المسلمة الحرة جميعُ بدنها إلا الوجه والكفين، وكذلك القدمان عند الإمام أبي حنيفة والثوري والمُزَني، فيجوز لها كشف ذلك؛ لأنه ليس مِن العورة.
وهذا ما عليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة في الصحيح من مذهبهم؛ مستندين في ذلك لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عند “أبي داود” وغيره: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا» وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
وهو ما ذهب إليه كثير من الصحابة والتابعين؛ فهو مذهب سيدنا عمر بن الخطاب، وسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، والأوزاعي، وأبو ثور، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وغيرهم كثير من مجتهدي السلف.
كما أنَّ الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للتعامل وكذا لإتمام العقود والإشهاد عليها.
ومن المقرر شرعًا عند جمهور الفقهاء أن النكاح لا يصحّ إلا بحضرة شهود؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» رواه ابن حبان في “صحيحه”.
واشتراط الشهادة على النكاح فيه صيانة للأعراض؛ إذ الحاجة ماسة إلى دفع تهمة الزنا عن الزوجة بعد الدخول بها، ولا تندفع إلا بالشهود؛ لأن اشتهار النكاح لا يحصل إلا بقول الشهود، وأيضًا فهو عقدٌ يتعلق به حقّ غير المتعاقدين وهو الولد، فاشترطت الشهادة فيه حتى لا يجحده الأب فيضيع نسبه.
قال الإمام ابن قدامة في “المغني” (7/ 8، ط. مكتبة القاهرة): [النكاح لا ينعقدُ إلا بشاهدين. هذا المشهور عن أحمد. وروي ذلك عن عمر، وعلي رضي الله عنهما، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، والحسن، والنخعي، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي.. ووجه ذلك: أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».. ولأنه يتعلق به حق غير المتعاقدين وهو الولد، فاشترطت الشهادة فيه؛ لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه] اهـ.
ويشترطُ في الشهادة على النكاح: أن يكون الشاهدُ على علمٍ بالمشهود به والمشهود عليه، وأن يكون هذا العلم نافيًا للجهالة؛ قال العلامة الكاساني في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” (6/ 277، ط. دار الكتب العلمية): [وأما الذي يرجعُ إلى المشهود به -أي من الشروط-: فمنها.. أن يكون المشهود به معلومًا للشاهد عند أداء الشهادة، حتى لو ظنَّ -أي كان مجرّد ظنّ- لا تحلّ له الشهادة] اهـ.
وقال برهان الدين بن مازه في “المحيط البرهاني في الفقه النعماني” (5/ 335، ط. دار الكتب العلمية): [الشاهد لا يجدُ بُدًّا من النظر إلى المشهود عليه في أداء الشهادة؛ ليكون الأداءُ عن علمٍ] اهـ.
والنقابُ: هو غطاءٌ تضعه المرأةُ على طرف أنفها تستر به وجهها؛ فلا يظهر منه غير عينيها أو إحداهما. ينظر: “لسان العرب” لابن منظور (1/ 768، ط. صادر).
ولأن المرأة طرف في عقد النكاح؛ فالواجب عليها أن تكشف للشهود عن وجهها إن كانت منتقبة حتى يروها فيتحقَّق لهم معرفتُها صورةً وتمييزُها عن غيرها تمييزًا نافيًا للجهالة مانعًا من اشتباه غيرها بها، فإن تحقَّق لهم ذلك من غير أن تكشف لهم عن وجهها فلا يلزمها حينئذٍ وتصحّ شهادتهم على نكاحها، مع الأخذ في الاعتبار أن الاحتياطَ كشفُ وجهها.
وقد ذكر الفقهاء لذلك صورًا أوردوها على سبيل المثال لا الحصر كما هو المستفاد من سياق هذا الإيراد؛ فإنهم يوردون هذه الصور في سياق ذكرهم لزوم التمييز على النحو السابق بيانه، ومن هذه الصور: أن تكون المنتقبة معروفة للشهود باسمها ونسبها، أو يميزونها بصوتها، أو بالإشارة إليها ما دامت حاضرة المجلس، أو لا يكون في البيت غيرُها أو نحو ذلك؛ فكلُّ ما يحصل به تيقن معرفة الشهود للمرأة وتمييزهم لها عن غيرها يُعتَدُّ به كمسَوِّغ لصحة الشهادة على نكاحها من غير أن تكشف عن وجهها.
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في “البحر الرائق شرح كنز الدقائق” (3/ 95، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولا بدَّ من تمييز المنكوحة عند الشاهدين لتنتفي الجهالة، فإن كانت حاضرة منتقبة كفى الإشارة إليها، والاحتياط كشف وجهها] اهـ.
وقال العلامة الصاوي المالكي في “حاشيته على الشرح الصغير” (4/ 276، ط. دار الفكر): [والحاصل أنه لا يجوز الشهادة على المنتقبة تحمّلًا أو أداءً، بل لا بد من كشف وجهها فيهما لأجل الشهادة على عينها وصفتها، وهذا في غير معروفة النسب، وفي معروفته التي تختلط بغيرها، وأما معروفة النسب المنفردة أو المتميزة عند الشاهد عن المشاركة فله الشهادة عليها منتقبةً في التحمل والأداء] اهـ.
وقال العلامة الرملي الشافعي في “نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج” (8/ 318، ط. دار الفكر): [ولا ينعقد نكاح منتقبةٍ إلا إن عرفها الشاهدان اسمًا ونسبًا، أو صورة -أي برؤية وجهها-] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في “كشاف القناع عن متن الإقناع” (6/ 408، ط. دار الكتب العلمية): [(ويجوز أن يشهد على عينها إذا عرف عينها ونظر إلى وجهها، قال الإمام أحمد: لا يشهد على امرأة حتى ينظر إلى وجهها، وهذا محمول على الشهادة على من لم يتيقن معرفتها، فأما من تيقن معرفتها وعرف صوتها يقينًا فيجوز) له أن يشهد عليها؛ لحصول المعرفة بها] اهـ.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فيجوز للسائل أن يشهد على عقد زواج صاحبه حال كون المعقود عليها منتقبةً من غير أن يرى وجهها، بشرط أن تكون معروفة لديه، ومتميزةً عنده تميزًا نافيًا للجهالة، مانعًا من اشتباه غيرها بها، ويكفي الإشارةُ إليها ما دامت حاضرةً إذا كان يرى شخصها، أو سماعُ كلامها إذا لم ير شخصها، بشرط ألَّا يكون معها غيرها من النساء لكي تنتفي جهالته بها، وشهادته حينئذٍ صحيحة شرعًا، والزواج صحيح أيضًا، ويستحب أن ينظر إلى وجهها احتياطًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم