ما حكم عدم المصافحة تجنبًا للعدوى في زمن الوباء؟.. دار الإفتاء تجيب
ما حكم الامتناع عن المصافحة خوفًا من الإصابة بعدوى فيروس “كورونا (كوفيد-19)”؟
الجواب : الأستاذ الدكتور/ شوقي إبراهيم علام
العدوى -كما عرفها المختصون- هي: انتقال الكائن المسبب لها من مصدره إلى الشخص المعرض للإصابة، وإحداث إصابة بالأنسجة قد تظهر في صورة مرضية (أعراض) أو لا.
وهو ما عرف به العلماء في كثير من الأمراض الوبائية؛ كالجُذام، والجرب، والجدري، ونحو ذلك:
قال العلامة أبو الخير العمراني في “البيان في مذهب الإمام الشافعي” (9/ 292، ط. دار المنهاج): [العدوى التي نريدها أن نقول: إن الله أجرى العادة بأن يخلق الداء عند ملاقاة الجسم الذي فيه الداء] اهـ.
وقال الإمام الطيبي في “الكاشف عن حقائق السنن” (9/ 2979، ط. مكتبة نزار الباز): [العدوى: مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، يقال: أعدى فلانٌ فلانًا من خلقه أو من علة به، على ما يذهب إليه المتطببة في علل سبع: الجذام، والجرب، والجدري، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائية] اهـ.
وقد سبق الإسلام إلى نظم الوقاية من الأمراض المعدية والاحتراز من تفشيها وانتشارها؛ منعًا للضرر، ودفعًا للأذى، ورفعًا للحرج؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» أخرجه البخاري في “صحيحه”.
وفي رواية: «اتَّقُوا الْمَجْذُومَ كَمَا يُتَّقَى الْأَسَدُ» أخرجه ابن وهب في “جامعه”، والفاكهي في “فوائده” وأبو نعيم في “الطب النبوي” وابن بشران في “أماليه”.
وعن الحسين بن علي عليهما السلام أن النبي صلَّى الله عَليْهِ وآله وسلَّم قال: «لا تُدِيُمواْ النَظَرَ إلى المَجَاذِيمِ، وَمَن كَلَّمهُ مِنْكُم فَليُكَلِّمه وَبَينهُ وَبَينَهُ قِيدُ رُمْحٍ»، وفي رواية من حديث عَبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: «أَوْ رُمْحَينِ»، أخرجهما أبو نعيم في “الطب النبوي، تحت باب “توقي كلام المجذوم”.
قال الإمام البدر العيني في “عمدة القاري شرح صحيح البخاري” (21/ 247، ط. دار إحياء التراث العربي): [وَفِي قَوْله: (فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ) أعْلَمَ أَن الله تعالى جعل ذَلِك سَببا، فحذَّر من الضَّرَر الَّذِي يغلب وجوده عِنْد وجوده بِفعل الله عز وَجل] اهـ.
وقال الإمام زين الدين المناوي في “فيض القدير” (1/ 138، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [أي: احذروا مخالطته -أي المجذوم- وتجنبوا قربه وفرُّوا منه كفراركم من الأسود الضارية والسباع العادية] اهـ.
والنهي عن المخالطة لمريض الجذام آنذاك؛ لأنه كان من العلل المعدية بحسب العادة الجارية عند بعض الناس؛ كما قال العلامة الكماخي الحنفي في “المهيأ في كشف أسرار الموطأ” (2/ 437، ط. دار الحديث)، فيدخل فيه ما كان في معناه من الأمراض المُعدية، ويكون ذلك أصلٌ في نفي كل ما يحصل به الأذى، أو تنتقل به العدوى.
ومن ذلك: النهي عن مصافحة المُصاب بمرضٍ معدٍ؛ كالمجذوم والأبرص ونحوهما؛ حتى لا تتسبب في انتقال العدوى من المريض إلى المُصحِّ، وقد نهت الشريعة الغراء عن ذلك الفعل؛ صيانة للأرواح، وأخذًا بأسباب النجاة؛ فعن عمرو بن الشريد، عن أبيه رضي الله عنه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجعْ» أخرجه مسلم في “صحيحه”.
قال العلامة أبو الخير العمراني في “البيان في مذهب الإمام الشافعي” (9/ 292): [وكان من عادته صلى الله عليه وآله وسلم مصافحة من بايعه، فامتنع عن مصافحته لأجل الجذام] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في “أسنى المطالب” (3/ 114، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ومن به عاهةٌ؛ كالأبرص والأجذم: فتكره مصافحته؛ كما قاله العبادي] اهـ.
ولا يتعارض ذلك مع الحثِّ على المصافحة باليد، وأنها من السنن المجمع عليها؛ إتمامًا للتحية وإظهارًا للمودة وسببًا في المغفرة؛ كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”، والإمام أحمد في “المسند”، وأبو داود وابن ماجه والترمذي في “سننهم”، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَتَمَامُ تَحِيَّاتِكُمُ الْمُصَافَحَةُ» أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”، والإمام أحمد والروياني في “مسنديهما”، والترمذي في “السنن”، والبيهقي في “شعب الإيمان” من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. لأنَّ ذلك كله إنما يحدث في الحالات الطبيعية التي يأمن فيها الإنسان الإصابة من الأمراض المعدية، أما عند وجود المرض فينبغي للإنسان أن يتجنبها، ويكتفي في التحية بإلقاء السلام بالقول المأمور به؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: 61]، وقوله سبحانه: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [الذاريات: 25]، وكما في الحديث القدسي الشريف: أن الله تعالى قال لسيدنا آدم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام: «اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ المَلائِكَةِ، فَاسْتَمعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ» متفقٌ عليه.
وهذا القدر من التحية هو الأصل في السلام المأمور به، والذي أراد الشرع إفشاءه بين العالمين؛ ليحصل به الأمان والمؤانسة، ويزداد به الإيمان، وتترسخ به معاني المحبة والوئام؛ فعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَضَعَهُ اللهُ فِي الْأَرْضِ، فَأَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه البخاري في “الأدب المفرد”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» أخرجه الإمام مسلم في “الصحيح”.
ويزداد النهي ويتأكد في حالات الوباء التي انتشر فيها المرض وتفشَّى؛ كفيروس “كورونا كوفيد-19” (COVID-19)؛ أحد فيروسات كورونا التاجيَّة، والذي أفادت منظمة الصحة العالمية (WHO) أنه ينتشر بسرعة فائقة عن طريق العدوى بين الأشخاص، سواء عن طريق الجهاز التنفسي والرذاذ المتناثر من الأنف أو الفم المحمَّل بالفيروس عند السعال والعطس، أو عن طريق المخالطة وملامسة المرضى والأسطح المحيطة بهم دون اتخاذ تدابير الوقاية والنظافة، ولذلك يجب الابتعاد عن المصاب مسافة تزيد على متر (3 أقدام)، وقد أثَّرت العدوى في ارتفاع أعداد الإصابات وتضاعف حالات الوفيات؛ حتى استوجب إعلان منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ الصحية العامة؛ باعتباره وباءً عالميًّا.
وذلك لأن دفع الضرر ودرء الخطر عن الأنفس واجب شرعي ومقصد مرعي؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]. وكل ما هو وسيلة لذلك: فهو واجبٌ شرعيٌّ أيضًا؛ لِما تقرر أن “الوسائل لها حكم المقاصد”.
وحفظ النفس من أهم المقاصد الكلية، وآكد الفروض الشرعية، وهي في مقدمة الكليات الخمسة الضرورية، التي جاءت بحفظها كل الشرائع السماوية.
قال حجة الإسلام الإمام الغزالي في “المستصفى” (ص: 174، ط. دار الكتب العلمية): [مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة] اهـ.
وقد سبق أن أفتت دار الإفتاء المصرية في عهد فضيلة مفتي الديار المصرية الأسبق؛ فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف في عام 1366هـ الموافق 1947م بوجوب ترك المصافحة أثناء تفشى الوباء في البلاد؛ وذلك عندما سُئل عن: حكم الشرع في ترك المصافحة باليد أثناء تفشي وباء الكوليرا في البلاد؟ فكان جواب فضيلته: “أنه يجب ترك المصافحة بالأيدي عند اللقاء وعقب التسليم من الصلاة عند تفشي الوباء؛ وذلك لأن دفع الضرر ودرء الخطر عن الأنفس واجب؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وكل ما كان وسيلة إلى ذلك فهو واجب شرعًا، ومن ذلك ترك المصافحة بالأيدي عند اللقاء وعقب التسليم من الصلاة كما يفعل كثير من المصلين؛ فقد تكون اليد ملوثة وقد تنقل العدوى وينتشر الوباء بواسطتها، فمن الواجب شرعًا اتقاء ذلك بترك المصافحة صيانة للأرواح وأخذًا بأسباب النجاة.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فاجتياح فيروس كورونا لأنحاء العالم يوجب شرعًا اتخاذَ الإجراءات الوقائية والاحترازية من الإصابة بعدواه، ومنها تركُ المصافحة باليد لمن يُخشَى انتشار العدوى منه أو إليه؛ حذرًا من الإصابة بعدوى الوباء القاتل، لِما ثبت من سرعة انتقاله بين الأشخاص عن طريق العدوى والمخالطة؛ حفاظًا على الأرواح، وأخذًا بأسباب النجاة، ويكتفي الإنسان حينئذ بالتحية قولًا، بما يُحصِّل القدرَ المأمورَ به شرعًا لإفشاء السلام.
والله سبحانه وتعالى أعلم