ما حكم تجسيد الأنبياء والصحابة وأمهات المؤمنين في الأعمال التليفزيونية؟
ما حكم تمثيل أو تجسيد الأنبياء والصحابة وأمهات المؤمنين في الأعمال التليفزيونية؟
الجواب : أمانة الفتوى
أصل التمثيل مِن: (مَثَّلَ) الشيء بالشيء تمثيلًا وتَمْثَالًا، أي: شَبَّهه به وقَدَّره على قَدره، والتشديد للمبالغة. والميم والثاء واللام أصلٌ صحيح يدلُّ على مناظرَة الشَّيءِ للشيء، فيقال: هذا مِثْل هذا، أي: نَظِيرُه، والمِثْل والمِثال في معنًى واحد. وربَّما قالوا: مَثِيلٌ كشبيه.
والتِّمْثال: اسم للشيء المصنوع مُشَبَّهًا بخلقٍ من خلق الله، وجمعه التَّماثيل، وأَصله مِن مَثَّلْت الشيء بالشيء إِذا قدَّرته على قَدره، ويكون تَمْثيل الشيء بالشيء تشبيهًا به، واسم ذلك الممثَّل تِمْثال.
وأَما التَّمْثال -بفتح التاء- فهو مصدر مَثَّلْت تمثيلًا وتَمْثالًا. ويقال: امْتَثَلْت مِثالَ فلان إذا احْتَذَيْتُ حَذْوَه وسَلَكتُ طريقته.
والتمثيل أسلوب تثقيفي ترفيهي يقوم على تقليد وحكاية لشخصيات وأحداث وقعت بالفعل في الماضي، أو أحداث يُتخيل حدوثها في الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
ويُعَرَّف بأنه: التصوير المجسد للصورة الذهنية، وهو إيصال محتوى الانفعال والعاطفة إلى الجمهور، وقيل: هو عرض حي لقصة وأصحابها واقعة أو متخيلة.
والأصل في التمثيل بهذا المعنى الجواز؛ إذ ليس ثَمَّ دليل ينهض على المنع، بل قد ورد في أدلة الشرع ما يدل على أصل مشروعية حكاية الأقوال والأفعال التي هي حقيقة التمثيل؛ من ذلك ما جاء في قصة النفر الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، ومجيء المَلَكِ لهم في صورة إنسان ابتلاءً من الله لهم، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم في “صحيحيهما” من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وكذلك ما جاء في حديثٍ في “صحيح مسلم” عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاثَةٌ… الحديث»، وفي آخره: «وَبَيْنَا صَبِىٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ -أي: نشيطة حادة قوية- وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ -أي: هيئة ولباس-، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِى مِثْلَ هَذَا. فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ». قال أبو هريرة: “فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ يَحْكِى ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا”. ففي هذا الحديث حاكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حالَ الصبي ومَثَّل رضاعه.
ومما يُستأنس به مِن سِيَرِ الصحابة رضي الله عنهم ما رواه الإمام مسلم في “صحيحه” من قصة السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مع الرجل الفقير وفيها تقول: فَجَاءَنِي رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ إِنِّي رَجُلٌ فَقِيرٌ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ فِي ظِلِّ دَارِكِ. قَالَتْ: إِنِّي إِنْ رَخَّصْتُ لَكَ أَبَى ذَاكَ الزُّبَيْرُ، فَتَعَالَ فَاطْلُبْ إِلَىَّ وَالزُّبَيْرُ شَاهِدٌ. فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ إِنِّي رَجُلٌ فَقِيرٌ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ فِي ظِلِّ دَارِكِ. فَقَالَتْ: مَا لَكَ بِالْمَدِينَةِ إِلا دَارِى؟ فَقَالَ لَهَا الزُّبَيْرُ: مَا لَكِ أَنْ تَمْنَعِي رَجُلاً فَقِيرًا يَبِيعُ؟ فَكَانَ يَبِيعُ إِلَى أَنْ كَسَبَ.
فحكاية الأفعال والأقوال ليس جديدة من حيث جنسها، وإنما الجديد هو جعلها فنًّا وعلمًا له أصول وقواعد باسم: التمثيل، والقاعدة الشرعية أنَّ “الوسائل لها حكم المقاصد”، فإذا كان التمثيل وسيلة توضيحية مجدية وفعالة لنشر القيم الأخلاقية والتربوية وبناء العقليات المستقيمة كان مشروعًا ومستحسنًا، وينبل بمقدار نبل غايته، بشرط انضباطه بالضوابط والقيود الشرعية، وخلوه من المخالفات والمحظورات الشرعية؛ كالإثارة والنظر واللمس والألفاظ المحرمة.
فإذا اقترن به أمور تتنافى مع هذه الضوابط وتُخَالِفُها فإنه يكون ممنوعًا بقدر المخالفة، فتارة يكره وتارة يحرم، لكن يكون حينئذٍ منشأ الكراهة أو الحرمة أمرًا خارجًا لا ذات التمثيل من حيث هو، وهذا ما يسميه الأصوليون بالمكروه لغيره والحرام لغيره؛ فالحرام نوعان: حرام لذاته، وحرام لغيره.
فالحرام لذاته: هو ما كان منشأ الحرمة فيه هو ذات الشيء؛ كشرب الخمر والزنا وأكل الميتة ونحو ذلك.
وأما الحرام لغيره: هو ما كان منشأ الحرمة فيه أمرًا خارجًا؛ كالوطء في الحيض؛ فإنَّ المُحَرَّم ليس الوطء في نفسه، بل المُحَرَّم إيقاعه في هذه الحال.
فإذا اقترن بالتمثيل أمر محرم كدعوة إلى ما يخالف الدين والخلق، أو تجميل وتحسين المعاصي، أو كشف للعورات التي يحرم إبداؤها، أو التلاصق المحرم بين الرجال والنساء، أو التخنث والتشبه من الرجال بالنساء، أو أدى الاشتغال به إلى تفويت واجب، كان ممنوعًا حينئذٍ؛ لما اقترن به لا لذاته، بخلافه إذا خلا عنها.
ومن نصوص الفقهاء التي يستأنس بها على تحريم التمثيل إذا اقترن به أمر محرم: ما ذكروه من صورة جماعة مجتمعين يجلس أحدهم على مكان رفيع تشبهًا بالوعاظ والمُذَكِّرِين؛ يسألونه المسائل وهم يضحكون ثم يضربونه، أو يتَشَبَّه بالمعلمين، فيأخذ خشبة، ويجلس القوم حوله كالصبيان، فيضحكون ويستهزئون، ويقول: قصعة ثريد خير من العلم. وهاتان الصورتان ذكرهما الإمام الرافعي من أئمة الشافعية في “شرح الوجيز” (11/ 104، ط. دار الكتب العلمية)، والفقيه داماد من الحنفية في “مجمع الأنهر” (1/ 695-696، ط. دار إحياء التراث العربي) على أنهما من المكفِّرات، يعني إذا قُصِدَ بذلك الاستهزاء بذات الدين أو العلم الشرعي؛ لذلك قال النووي في “الروضة” بعد أن نقلهما (7/ 287، ط. دار عالم الكتب): [قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبه] اهـ.
أما تمثيل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:
فالحكم الحق هو عدم الجواز؛ مراعاة لعصمتهم ومكانتهم؛ فهم أفضل البشر على الإطلاق، ومن كان بهذه المنزلة فهو أعز من أن يُمَثَّل أو يَتَمَثَّل به إنسان، بل إن الشرع نَزَّهَ صورهم أن يتمثل بها حتى الشيطان في المنام، يدلنا على هذا ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في “صحيحيهما” عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» واللفظ للبخاري، وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على صيانة الله تعالى لمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يظهر الشيطان في صورته لا في الحقيقة ولا في المنام؛ حفاظًا لمقام الرسول ومقام الرسالة. فإذا ثبت هذا فإنه ومن باب الحفاظ على هذا المقام أيضًا يُمنع أن يُمثِّل أحد شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أن يقوم بدوره في عمل درامي. وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر في كتابه “الاستيعاب في معرفة الأصحاب” (1/ 359-360، ط. دار الجيل) في ترجمة الحكم بن أبي العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه من المدينة وطرده عنها فنزل الطائف، وأنه قد قيل في السبب الموجب لنفيه إنه كان يحكيه في مشيته وبعض حركاته، قال ابن عبد البر: [ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا مشى يتكفأ وكان الحكم بن العاص رضي الله عنه يحكيه، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومًا فرآه يفعل ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «فَكَذَلكَ فَلْتَكُنْ». فكان الحكم رضي الله عنه مختلجًا يرتعش من يومئذٍ] اهـ.
وفي هذا دليل على المنع من محاكاته صلى الله عليه وآله وسلم في أفعاله وتمثيله لا على وجه التأَسِّي والاتباع. ويثبت هذا المنع أيضًا لباقي الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم أجمعين؛ لأنهم جميعًا مشتركون في العصمة والتكريم. كما أن تمثيل شخصيات الأنبياء ينطوي على مجموعة من المفاسد: ككونه ليس مطابقًا لواقعهم من أن أفعالهم تشريع، وأن التمثيل يعتمد على الحبكة الدرامية مما يُدخل في سيرتهم ما ليس منها، والمقرر أن درء المفاسد مُقَدَّم على جلب المصالح. وعلى أهل الاختصاص في مجال التمثيل البحث عن قوالب فنية جديدة تسمح بالاستفادة من سِيَر الأنبياء كما هي في الواقع، مع مراعاة عدم ظهور شخصيات تحاكيهم، مع الالتزام بما لهم من مكانة وإجلال.
وأما تمثيل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم:
فالمختار للفتوى أنه إذا روعيت السياقات التاريخية الصحيحة وعُرِفت لهم سابقتهم في الإسلام وأُظهِرُوا بشكل يناسب مقامهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم خيرة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين فإنه لا مانع من تمثيلهم؛ ووجه هذا الحكم هو عدم وجود ما يمنع من تمثيلهم ما دام الهدف نبيلًا؛ كتقديم صورة حسنة للمشاهد، واستحضار المعاني التي عاشوها، وتعميق مفهوم القدوة الحسنة من خلالهم. ويُستَثْنَى من هذا الحكم: العشرة المبشرون بالجنة، وأمهات المؤمنين وبنات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وآل البيت الكرام؛ كالسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وولديها سَيِّدَيْ شباب أهل الجنة الحسن والحسين عليهما السلام، وبنتها السيدة زينب عليها السلام، فلا يجوز تمثيلهم بحال؛ لما لهم من مكانة عظيمة وسابقة سامقة في الإسلام، فهم قادة الصحابة وأكابرهم، وخيرتهم وأفاضلهم.
وجواز تمثيل غير هؤلاء المستَثْنَيْن من الصحابة منوط بالضوابط والقيود المذكورة في حكم التمثيل بصفة عامة مع الضوابط الآتية:
أولًا: الالتزام باعتقاد أهل السنة فيهم؛ من حبهم جميعًا بلا إفراط في حب أحدهم أو تفريط في حب البعض الآخر؛ قال الإمام الطحاوي في “عقيدته المَرْضِيَّة” (ص: 133، بشرح الميداني الحنفي، ط. دار الفكر): [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان] اهـ.
ثانيًا: التأكيد على حرمة جميع الصحابة؛ لشرف صحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتوقير والاحترام لشخصياتهم وعدم إظهارهم في صورة ممتهنة أو الطعن فيهم والاستخفاف بهم والتقليل من شأنهم.
ثالثًا: نقل سيرتهم كما هي، وعدم التلاعب فيها من أجل تحقيق أرباح مادية، وألا يُنَصِّبَ الكاتبُ من نفسه حَكَمًا عليها ولا ناقدًا لها، بل ينبغي الحرص على بيان دورهم المشرف في نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظ الدين، ونقل الشريعة، ونشر الإسلام.
رابعًا: الاعتماد على الروايات الدقيقة وتجنب الروايات الموضوعة والمكذوبة.
خامسًا: تجنب إثارة الفتنة والفرقة بين الأمة الإسلامية.
ولم يسبق لدار الإفتاء المصرية أن أصدرت -في أي عهد من عهودها منذ نشأتها وإلى يوم الناس هذا- أي فتوى تبيح تمثيل الأنبياء أو الرسل أو العشرة المبشرين بالجنة أو آل البيت الكرام.
هذا، وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف في قراره رقم [100] بجلسته الرابعة عشرة في دورته الخامسة والثلاثين التي عقدت بتاريخ 16 من ربيع الأول 1420هـ الموافق 30 من يونيه 1999م، قرر أنه لا يجوز أن يشتمل عمل تمثيلي في المسرح أو السينما أو التلفاز -أو في أي جهاز آخر- على شخصيةٍ من الآتي تحديدهم: الأنبياء، والرسل، والعشرة المبشرون بالجنة، وآل البيت الكرام.
وقد سبقه القرار رقم [20] في الجلسة الرابعة الطارئة في دورته الثامنة التي عقدت بتاريـخ 7 من محرم 1392هـ الموافق 22 من فبراير 1972م، وفيه:
عدم جواز تمثيل الشخصيات الإسلامية ذات المكانة والإجلال والقدوة. وهذا كله يتسق مع كوننا نربأ بالشخصيات الدينية التي لها من الإجلال والاحترام أن تقع أسيرة رؤية فنية لشخصية الكاتب يفرضها فرضًا على المتلقي لها، بما يغير حتمًا من تخيل المتلقي لهذه الشخصيات والصورة الذهنية القائمة عنده حولها، ويستبدل بها الصورةَ الفنية المقدمة، مما يكون له أثره البالغ في تغيير صورة هذه الشخصيات، وفرض رؤية الكاتب فرضًا. وبينما يحاول كثيرون نزع القداسة عن الأنبياء والشخصيات الدينية الأخرى ذات الإجلال والتقدير؛ تقليدًا منهم لمسار الفكر الغربي الذي نزع القداسة عن كل شيء تقريبًا -بناءً على نموذجه المعرفي، ويرون بناءً على ذلك أن عدم نزع تلك القداسة يجعل الكاتب ناقص الرؤية ومجانبًا للحقيقة. وفكرة نزع القداسة هذه مرفوضة تمامًا في الإسلام؛ سواء في منطلقاتها الفكرية، أو في تطبيقاتها العملية، تلك الفكرة التي أدت بهم إلى نقد النص الديني المقدس، وانتهت بهم إلى نقد الأنبياء والإساءة إليهم، واعتبارهم مجرد نماذج بشرية قابلة للنقد والتقويم.
والله سبحانه وتعالى أعلم
المصدر: دار الإفتاء المصرية