حكم المرور بين المصلين يوم الجمعة في زمن الوباء.. دار الإفتاء تجيب
في ظل الإجراءات الاحترازية من عدوى كورونا، والتزام المصلين بالتباعد بينهم في الصفوف؛ تحرزًا من الوباء، وخوفًا من انتقال عدواه؛ فهل والحالة هذه يجوز للمصلي المرور بين الجالسين يوم الجمعة في وقت الخطبة، إذا وجد مكانًا خاليًا في الأمام يريد أن يجلس فيه؟ وهل حكم الجمعة كغيرها من صلوات الجماعة؟
الجواب : الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
نهى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، وأن يُفرِّقَ الرجل بين الاثنين؛ لِما في ذلك من سوء الأدب وإيذاء الجالسين؛ فعن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب النّاس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اجْلِسْ؛ فَقَدْ آذَيْتَ، وَآنَيْتَ» أخرجه الإمام أحمد والبزار في “مسنديهما”، وأبو داود والنسائي في “سننيهما”، وابن خزيمة في “الصحيح”، والحاكم في “المستدرك”، والبيهقي في “السنن الكبرى”، و”معرفة السنن والآثار”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: “لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة، خير له من أن يقعد، حتى إذا قام الإمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة” أخرجه الإمام مالك في “الموطأ” وابن أبي شيبة في “المصنف”.
ومع اختلاف الفقهاء في النهي الوارد عن التخطي؛ هل هو قبل جلوس الإمام على المنبر أم بعده؟ إلَّا أنهم مجمعون على أنه لا يفسد شيئًا من الصلاة.
قال الإمام ابن عبد البر في “الاستذكار” (2/ 50، ط. دار الكتب العلمية):
[روى ابن القاسم عن مالك قال: أكره التخطي إذا قعد الإمام على المنبر، ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه فُرَجٌ. وقال ابن وهبٍ عنه مثل ذلك، وزاد: تخطَّ قبل خروج الإمام في رفق. وذكر الثوري التخطي مطلقًا. وقال الأوزاعي: التخطي الذي جاء فيه القول إنما هو والإمام يخطب؛ حينئذ كره أن يفرق بين اثنين. وقال الأوزاعي في الذي يجلس على طريق الناس في المسجد يوم الجمعة: تَخَطَّوْهم؛ فإنهم لا حرمة لهم. وقال الشافعي: أكره تخطيَ الرقاب يوم الجمعة قبل دخول الإمام وبعده؛ لما فيه من سوء الأدب.
وذكر محمد بن الحسن عن مالك أنه قال: لا بأس بالتخطي بعد خروج الإمام. قال محمد: أراه قبل خروج الإمام ولا أراه بعده؛ ولم يحك عن أصحابه خلافًا في ذلك.
وأجمعوا أن التخطي لا يفسد شيئًا من الصلاة] اهـ.
وقد نص العلماء على أن المقصود من النهي عن التخطي في هذه الأحاديث: هو حثُّ المسلم على التبكير للجمعة، وأن لا يتباطأ في حضورها فيأتي وقد جلس المصلين فيتخطى رقابهم ويسبب لهم الإيذاء، وأن لا يزاحم مُصليَيْنِ فيدخل بينهما فيُضيِّق عليهما.
قال الإمام الطيبي في “الكاشف عن حقائق السنن” (4/ 1273، ط. نزار الباز) في شرح معنى النهي عن التخطي: [كناية عن التبكير، أي: عليه أن يُبَكِّر، فلا يتخطى رقاب الناس، ويفرق بين اثنين، أو يكون عبارة عن الإبطاء، أي: لا يبطئ حتى لا يفرق] اهـ.
وقال الإمام البدر العيني في “عمدة القاري” (6/ 175، ط. دار إحياء التراث العربي): [ويقال: معناه لا يزاحم رجلين فيدخل بينهما، لأنه ربما ضيق عليهما، خصوصًا في شدة الحر واجتماع الأنفاس] اهـ.
وهذه العلة تشمل الجمعة وغيرها من الصلوات، والتقييد بالجمعة جريٌ على الغالب؛ لاختصاصها بالمكان وكثرة الناس؛ ففي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمتخطي يوم الجمعة: «آذَيْتَ، وَآنَيْتَ» بيان أن التخطي أذى، ولا يحل أذى مسلم بحال؛ في الجمعة وغير الجمعة؛ كما قال الإمام ابن عبد البر المالكي في “التمهيد” (1/ 316، ط. أوقاف المغرب).
وقال الإمام البدر العيني في “عمدة القاري” (6/ 208): [قلت: هذا التعليل يشمل يوم الجمعة وغيره من سائر الصلوات في المساجد وغيرها، وسائر المجامع من حلق العلم وسماع الحديث ومجالس الوعظ، وعلى هذا يحمل التقييد بيوم الجمعة، على أنه خرج مخرج الغالب؛ لاختصاص الجمعة بمكان الخطبة وكثرة الناس، بخلاف غيره] اهـ.
وقال الإمام القسطلاني الشافعي في “إرشاد الساري” (2/ 177، ط. المطبعة الأميرية): [قال ابن جريج: (قلت لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها) بالنصب في الثلاثة على نزع الخافض، أي في الجمعة وغيرها. ولأبي ذر: والجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها.. أي: الجمعة وغيرها متساويان في النهي عن التخطي في مواضع الصلوات] اهـ.
وقال العلامة الصنعاني في “التنوير شرح الجامع الصغير” (10/ 170، ط. دار السلام): [والظاهر أنه عامٌ في غير الجمعة من أوقات انتظار الجماعات] اهـ.
فالنهي عن التخطي يفيد الكراهة، وقد تقرر أن الكراهة تزول بأدنى حاجة؛ كما نص عليه الإمامُ ابن مازه الحنفي في “المحيط البرهاني” (2/ 192، 5/ 403، ط. دار الكتب العلمية)، والإمامُ النووي في “المجموع” (1/ 486، ط. دار الطباعة المنيرية)، والعلامةُ السفاريني الحنبلي في “غذاء الألباب” (2/ 22، ط. مؤسسة قرطبة).
ولذلك جاءت الأحاديث بما يفيد الجواز إذا كانت هناك حاجة للتخطي؛ فعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه، قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: «ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ» أخرجه البخاري في “الصحيح”.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: أتصلي للناس فأقيم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر رضي الله عنه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف.. الحديث، متفقٌ عليه.
وقد نص الفقهاء على جواز التخطي عند الحاجة، وبوَّبوا على هذه الأحاديث بذلك؛ كما فعل الإمام ابن تيمية الجد في “المنتقى” (ص: 296، ط. دار ابن الجوزي)، واستثنوا من الكراهة المذكورة صورًا يجوز عندها التخطي وشقِّ الصفوف.
قال الإمام الشهاب الرملي الشافعي في “حاشيته” المطبوعة مع “أسنى المطالب” (1/ 268، ط. المطبعة الميمنية):
[ويستثنى من كراهة التخطي صورٌ:
منها: الرجل العظيم في النفوس إذا ألف موضعًا فلا يكره له؛ لقصة عثمان المشهورة وتخطيه ولم ينكر عليه، قاله القفال والمتولي، قال الأذرعي: وهو ظاهر فيمن ظهر صلاحه وولايته.
ومنها: ما إذا أذن له القوم في التخطي، فلا يكره لهم الإذن والرضا بإدخالهم الضرر على أنفسهم، إلا أن يكره لهم من جهة أخرى، وهو أن الإيثار بالقرب مكروه، كذا قاله ابن العماد الأقفهسي] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في “فتح الباري” (8/ 205، ط. مكتبة الغرباء):
[ومتى احتاج إلى التخطي لحاجة لا بد منها من وضوء أو غيره، أو لكونه لا يجد موضعًا للصلاة بدونه، أو كان إمامًا لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطي: لم يكره، وقد سبق حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه في قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته مسرعًا، يتخطى رقاب الناسِ.
وكذا لو ضاق الموضع وآذتهم الشمسُ، فلهم -إذا أقيمت الصلاة- أن يشقوا الصفوف ويدخلوا لأذى الشمس، نص عليه أحمد في روايةٍ الأثرم] اهـ.
كما أن النهي عن التخطي مقيَّدٌ بحصول الإيذاء، فإذا انتفى الإيذاء انتفى النهي؛ لما تقرر في قواعد الفقه من أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ولذلك جوَّز العلماء التخطيَ في الحالات التي ينتفي عندها الإيذاء.
فعن الحسن قال: “لا بأس أن يتخطى رقاب الناس، إذا كان في المسجد سعة” أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”.
قال العلامة ابن مازه الحنفي في “المحيط البرهاني” (2/ 91، ط. دار الكتب العلمية): [إذا حضر الرجل يوم الجمعة والمسجد ملآن: إن كان تخطيه يؤذي الناس لم يتخطَّ، وإن كان لا يؤذي أحدًا بأن لا يطأ ثوبا ولا جسدًا: لا بأس بأن يتخطى ويدنو من الإمام] اهـ.
وقال الإمام ابن بطَّال في “شرح صحيح البخاري” (2/ 463، ط. مكتبة الرشد): [وقال المهلب: التخطي لا يكون مكروهًا إلا في موضع يشتغل الناس فيه عن الصلاة أو عن الخطبة؛ فحينئذ يكره التخطي من أجل شغل الناس بمن تخطاهم عما هم فيه من الذكر والاستماع، وقد تحضر الإنسان ضرورة حقن أو ذكر حاجة يخشى فوتها، فيستجاز التخطي في ذلك؛ كالراعف والمحدث يخرج من بين الصفوف] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في “فتح الباري” (8/ 205): [ومتى كان بين الجالسين فرجة، بحيث لا يتخطاهما، جاز له أن يمشي بينهما، فإن تماست ركبهما بحيث لا يمشي بينهما إلاّ بتخطي ركبهما: كره له ذلك، فإن كانا قائمين يصليان، فمشى بينهما ولم يدفع أحدًا، ولم يؤذه، ولم يضيق على أحدٍ: جاز، وإلَّا: فلا] اهـ.
والتباعد بين المصلين في الصفوف بسبب جائحة “كورونا” (19-COVID)؛ بحيث يترك المصلي مسافةً بينه وبين من يجاوره؛ وبينه وبين من يصلي أمامه وخلفه: يُسوِّغ المرور بين المُصلين على ما قيَّد به الفقهاء جواز التخطي، لانتفاء معنى الإيذاء؛ بحيث إنَّ المارَّ لا يؤذي أحدا، ولم يدفع أحدًا، ولم يضيق على أحدٍ، ولم يطأ ثوبًا ولا جسدًا، ولا يمر في موضعٍ يشغل الناس فيه عن الصلاة أو عن الخطبة.
غير أنه لا بد أن يكون ذلك بقدر الحاجة؛ حتى لا يشوِّش على المصلين، وأن يُراعي المار إجراءات التباعد؛ حفاظًا على نفسه وغيره، وأن لا يجعل من هذه الإجراءات تكأةً للمرور بين المصلين وجعلها كالطرقات.
وبناءً على ذلك: فيجوز للمصلي -في حالة تطبيق التباعد بين المصلين بسبب فيروس كورونا المستجد- المرور بين الجالسين يوم الجمعة في وقت الخطبة قدر الحاجة إذا وجد مكانًا خاليًا في الأمام يريد أن يجلس فيه، ولا يدخل ذلك ضمن النهي الوارد عن التخطي عن رقاب الناس؛ لانتفاء معنى الإيذاء.
على أنه ينبغي الاقتصار على قدر الحاجة في المرور؛ حتى لا يشوش المار على الجالسين إنصاتهم لخطبة الجمعة، وعلى الحاضرين أن يعملوا على إتمام الأماكن المخصصة للصلاة في الصفوف الأول ثم الأول؛ حتى لا يُلجِئوا المتأخرين إلى تخطي الرقاب وشق الصفوف.
ولا بد في ذلك كله من مراعاة إجراءات التباعد واتخاذ كافة الوسائل للحفاظ على نفوس الناس، واتباع تعليمات الجهات المسؤولة وأهل الاختصاص، والالتزام بما يوصون به من نُظُمٍ وقائية وتوجيهاتٍ حِمائية.
والله سبحانه وتعالى أعلم