ما حكم الاعتداء على الكنائس ودور العبادة لغير المسلمين؟.. دار الافتاء تجيب
ما حكم الاعتداء على الكنائس ودور العبادة أو استهدافها بالهدم والتفجير؟ وما حكم ذلك إذا كان فيها أناس يؤدون عبادتهم؟ وبعض الناس يدَّعي أنه لا يوجد عهد ذمة بينهم وبين المسلمين. فهل هذا صحيح؟
الجواب : أمانة الفتوى
الإسلام دين التعايش، ومبادئه لا تعرف الإكراه، ولا تُقِرُّ العنف، ولذلك لم يجبر أصحاب الديانات الأخرى على الدخول فيه، بل جعل ذلك باختيار الإنسان، في آيات كثيرة نص فيها الشرع على حرية الديانة؛ كقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقوله سبحانه: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، وقال جلَّ شأنه: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6].
ولَمَّا ترك الإسلام الناس على أديانِهم، فقد سمح لهم بممارسة طقوس أديانهم في دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأَوْلَى بها عناية خاصة؛ فحرَّم الاعتداء بكافة أشكاله عليها، بل إن القرآن الكريم جعل تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم في الأرض سببًا في حفظ دور العبادة من الهدم، وضمانًا لأمنها، وسلامة أصحابها، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ • الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 40-41].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “تفسيره، والبِيَع: مساجد اليهود، وصلوات: كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين”. أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم في “التفسير”.
وقال مقاتل بن سليمان في “تفسيره” (2/ 385، ط. دار الكتب العلمية): [كل هؤلاء الملل يذكرون الله كثيرًا في مساجدهم، فدفع الله عز وجل بالمسلمين عنها] اهـ.
قال الإمام القرطبي في “تفسيره” (12/ 70، ط. دار الكتب المصرية): [أي: لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بَنَتْهُ أربابُ الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون، ثم قوَّى هذا الأمر في القتال بقوله: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ﴾ الآية. أي: لولا القتال والجهاد لتُغُلِّبَ على الحق في كل أمة، فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهادَ فهو مناقضٌ لمذهبه؛ إذ لولا القتالُ لمَا بقي الدين الذي يَذُبُّ عنه. قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنعَ من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم] اهـ.
وبذلك جاءت السنة النبوية الشريفة، فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومَن تبعهم ورهبانهم أن: «لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بِيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ألَّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يُغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين» أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب “الأموال” (ص: 244، ط. دار الفكر)، وأبو عمر بن شبة النُّمَيْري في “تاريخ المدينة المنورة” (2/ 584، 586، ط. دار الفكر)، وابن زنجويه في “الأموال” (2/ 449، ط. مركز فيصل للبحوث)، وابن سعد في “الطبقات الكبرى” (1/ 266، ط. دار صادر)، والحافظ البيهقي في “دلائل النبوة” (5/ 389، ط. دار الكتب العلمية)، وذكره الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتاب “السير” (1/ 266، ط. الدار المتحدة للنشر).
وذهب الإسلام لِمَا هو أبعد من ذلك؛ حيث أمر بإظهار البر والرحمة والقسط في التعامل مع المخالفين في العقيدة، فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]. وعلى ذلك سار المسلمون سلفًا وخلفًا عبر تاريخهم المُشَرِّف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة التي دخلوا بها قلوب الناس قبل أن يدخلوا بلدانهم منذ عهود الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وهلم جرًّا.
فنص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده لأهل القدس على حريتهم الدينية، وأعطاهم الأمانَ لأنفسهم، والسلامةَ لكنائسهم، وكتب لهم بذلك كتابًا جاء فيه: [بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُ الله عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تُسكَنُ كنائسُهم، ولا تُهدَمُ، ولا يُنتَقَصُ منها ولا مِن حَيِّزها، ولا من صَلِيبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارَّ أحد منهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة] اهـ. وكتب لأهل لُدٍّ كتابًا مماثلًا جاء فيه: [بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُ الله عمر أمير المؤمنين أهلَ لُدٍّ ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصُلُبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم، أنه لا تُسكَن كنائسهم ولا تُهدَم ولا يُنتَقَص منها ولا مِن حيزها ولا مللها ولا مِن صُلُبهم ولا من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارَّ أحد منهم] اهـ. رواهما الإمام الطبري في “تاريخه” (2/ 449، ط. دار الكتب العلمية).
ولما دخل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بيتَ المقدس جاء كنيسة القيامة فجلس في صحنها، وحان وقت الصلاة فقال للبترك: “أريد الصلاة”، فقال له: صلِّ موضعَك، فامتنع وصلَّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردًا، فلما قضى صلاته قال للبترك: “لو صلَّيْتُ داخلَ الكنيسة أخذها المسلمون بعدي، وقالوا: هنا صلَّى عمر”. ذكره ابن خلدون في “تاريخه” (2/ 225، ط. دار إحياء التراث العربي).
ونقل المستشرقون هذه الحادثة بإعجاب كما صنع درمنغم في كتابه “The live of Mohamet” فقال: “وفاض القرآن والحديث بالتوجِيهات إلى التسامح، ولقد طبق الفاتحون المسلمون الأولون هذه التوجيهات بدقة عندما دخل عمر -رضي الله عنه- القدس أصدر أمره للمسلمين أن لا يسببوا أي إزعاج للمسيحيين أو لكنائسهم، وعندما دعاه البطريق للصلاة في كنيسة القيامة امتنع، وعلَّل امتناعه بخشيته أن يتخذ المسلمون من صلاته في الكنيسة سابقة، فيغلبوا النصارى على الكنيسة”، ومثله فعل ب. سميث في كتابه: “محمد والمحمدية”. اهـ. نقلًا عن “التسامح والعدوانية” لصالح الحصين (ص: 120، 121).
وبمثل ذلك أعطى خالد بن الوليد رضي الله عنه الأمان لأهل دمشق على كنائسهم، وكتب لهم به كتابًا كما ذكره البلاذري في “فتوح البلدان” (ص: 120، ط. لجنة البيان العربي).
وكذلك فعل شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه بأهل طبرية، فأعطاهم الأمان على أنفسهم وكنائسهم كما ذكره البلاذري في “فتوح البلدان” (ص: 115).
وطلب أهل بعلبك من أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الأمان على أنفسهم وكنائسهم، فأعطاهم بذلك كتابًا كما جاء في “فتوح البلدان” (ص: 129)، وكذلك فعل مع أهل حمص وأهل حلب كما جاء في “فتوح البلدان” (ص: 130، 146).
وأعطى عياض بن غنم رضي الله عنه لأهل الرقة الأمان على أنفسهم، والسلامة على كنائسهم، وكتب لهم بذلك كتابًا ذكره البلاذري في “فتوح البلدان” (ص: 172).
وكذلك فعل حبيب بن مسلمة رضي الله عنه بأهل دَبِيل، وهي مدينة بأرمينية، حيث أمَّنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وبِيَعِهم نصاراها ومجوسها ويهودها شاهدهم وغائبهم، وكتب لهم بذلك كتابًا، وكان ذلك في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه كما في “فتوح البلدان” (ص: 199).
وعن أُبَيِّ بن عبد الله النخعي قال: “أتانا كتاب عمر بن عبد العزيز: لا تهدموا بيعة، ولا كنيسة، ولا بيت نار صولحوا عليه”. أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”، وأبو عبيد القاسم بن سلام في “الأموال” (ص: 123، ط. دار الفكر).
وعن عطاء رحمه الله أنه سُئِل عن الكنائس تهدم؟ قال: لا، إلا ما كان منها في الحرم. رواه ابن أبي شيبة في “المصنف”.
وحين حصل شيء من الإخلال بهذه العهود رَدَّه الخلفاء العدول، وأرجعوا الحق لأصحابه؛ فروى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب “الأموال” (ص: 201) عن علي بن أبي حملة قال: “خاصمَنا عجمُ أهل دمشق إلى عمر بن عبد العزيز في كنيسة كان فلان قطعها لبني نصر بدمشق، فأخرجَنا عمرُ بن عبد العزيز منها وردها إلى النصارى”.
وبهذا يتضح أن هدم الكنائس أو تفجيرها أو قتل من فيها أو ترويع أهلها من الأمور المحرمة التي لم تأتِ بها الشريعة السمحة، بل ذلك يُعَدُّ تَعَدِّيًا على ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفاعل ذلك قد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خصمه يوم القيامة؛ فقد روى أبو داود في “سننه”، وابن زنجويه في “الأموال”، والبيهقي في “السنن الكبرى” عن صَفْوانَ بنِ سُليمٍ، عن عدةٍ وعند ابن زنجويه والبيهقي: عن ثلاثين مِنْ أبناءِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، عن آبائِهِم رضي الله عنهم دِنْيَةً؛ أي ملاصقي النسب، عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: «ألَا مَن ظلم مُعاهَدًا، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طِيبِ نفسٍ فأنا حجيجُه (أي: خصمُه) يوم القيامة»، زاد ابن زنجويه والبيهقي: وأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصبعه إلى صدره: «ألَا ومَن قتل مُعاهَدًا له ذمة الله وذمة رسوله، حرم الله عليه ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا». قال الحافظ العراقي في شرح “التبصرة والتذكرة” (ص: 191): وهذا إسنادٌ جَيِّدٌ، وإنْ كانَ فيهِ مَنْ لم يُسَمَّ؛ فإنَّهُم عِدَّةٌ مِنْ أبناءِ الصحابَةِ يبلغونَ حَدَّ التواترِ الذي لا يُشتَرطُ فيهِ العدالةُ. اهـ.
وأما ما يوجد في التراث الفقهي الإسلامي من بعض الأقوال بهدم الكنائس، فهي أقوال لها سياقاتها التاريخية وظروفها الاجتماعية المتعلقة بها، ولا يصحُّ جعل هذه الأقوال حاكمةً على الشريعة؛ فالأدلة الشرعية الواضحة، ومُجمَل التاريخ الإسلامي، وحضارة المسلمين، بل وبقاء الكنائس والمعابد نفسها في طول بلاد الإسلام وعرضها وشرقها وغربها في قديم الزمان وحديثه كل ذلك يشهد بجلاء كيف احترم الإسلام دور العبادة وأعطاها من الرعاية والحماية ما لم يتوافر لها في أي دين أو حضارة أخرى.
كما أن حكم الحاكم يرفع الخلاف؛ فإذا تخير الحاكم المسلم مذهبًا فقهيًّا رأى فيه المصلحةَ والأمن الاجتماعي، فقد صار مُلزِمًا لكل مَن كان في ولايته، ولا يجوز له مخالفته، وإلا عُدَّ ذلك افتياتًا على سلطان المسلمين وخروجًا على جماعتهم وكلمتهم، وفي ذلك من الفساد ما يضيع مصالح البلاد والعباد.
كما أن في الاعتداء على الكنائس والتعدي على المسيحيين من أهل مصر وغيرها من البلاد الإسلامية نقضًا لعقد المواطنة؛ حيث إنهم مواطنون لهم حق المواطنة، وقد تعاقدوا مع المسلمين وتعاهدوا على التعايش معًا في الوطن بسلام وأمان، فالتعدي عليهم أو إيذاؤهم أو ترويعهم فضلًا عن سفك دمائِهم أو هدم كنائسهم فيه نقضٌ لهذا العقد، وفيه إخفار لذمة المسلمين وتضييع لها، وهو الأمر الذي نهت عنه النصوص، بل وأمرت بخلافه. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1].
وروى البخاري في “صحيحه” عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». وروى ابن ماجه عن عمرو بن الحَمِقِ الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَمن رَجُلًا عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وفي رواية البيهقي والطيالسي في “مسنده”: «إِذَا أَمَّنَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا». وروى البخاري عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلًا»، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذمة المسلمين» أي: عهدهم، وأمانهم، وكفالتهم، وحفظهم، وقوله: «يسعى بها أدناهم» أي: يتولى ذمتهم أقلهم عددًا، فإذا أعطى أحد المسلمين عهدًا لم يكن لأحد نقضُه، فما بالنا بولي الأمر، وقوله: «من أخفر» أي: نقض العهد، وقوله: «صَرْفًا وَلا عَدْلًا» أي: لا فرضًا ولا نفلًا، والمعنى: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله.
ولا يخفى أيضًا ما في هذه الأعمال التخريبية من الغدر والفتك وإيذاء المدنيين؛ وقد روى أبو داود، والحاكم في “المستدرك” واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَفْتِكُ الْمُؤْمِنُ، الْإِيمَانُ قَيْدُ الْفَتْكِ». قَالَ ابن الأثير فِي “النِّهَايَة”: [الْفَتْك أَنْ يَأْتِي الرَّجُل صَاحِبه وَهُوَ غَارٌّ غَافِل فَيَشُدُّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلهُ] اهـ. ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يفتك المؤمن» هو خبر بمعنى النهي؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة، أو هو نهي.
وقد وصَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر وصيةً خاصةً؛ فروى الطبراني في “المعجم الكبير” عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند وفاته فقال: «الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله»، قال الحافظ الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وروى أبو يعلى في “مسنده”، وابن حبان في “صحيحه” أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «استوصوا بهم خيرًا؛ فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله»؛ يعني قبط مصر. قال الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وروى ابن سعد في “الطبقات الكبرى” كما في “كنز العمال” للمتقي الهندي (5/ 760، ط. مؤسسة الرسالة) عن موسى بن جبير، عن شيوخ من أهل المدينة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى واليه على مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه: “واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك، فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ يريد: أن يقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم وأوصى بالقبط فقال: «استَوْصوا بالقِبْطِ خيرًا؛ فإن لهم ذِمَّةً ورَحِمًا». ورَحِمُهم: أن أمَّ إسماعيل عليه السلام منهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن ظَلَمَ مُعاهَدًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا خصمُه يومَ القيامة»، احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك خصمًا؛ فإنه مَن خاصمه خَصَمَه”.
والناظر في التاريخ يرى مصداق خبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حيث رحب أقباط مصر بالمسلمين الفاتحين وفتحوا لهم صدورهم، وعاشوا معهم في أمان وسلام؛ لتصنع مصر بذلك أعمق تجربة تاريخية ناجحة من التعايش والمشاركة في الوطن الواحد بين أصحاب الأديان المختلفة.
كما أن في هذه الأعمال وهذه التهديدات مخالفةً لما أمر به الشرع على سبيل الوجوب من المحافظة على خمسة أشياء أجمعت كل الملل على وجوب المحافظة عليها، وهي: الأديان، والنفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، وهي المقاصد الشرعية الخمسة.
ومن الجليِّ أن الأعمال المسؤول عنها تَكرُّ على بعض هذه المقاصد الواجب صيانتها بالبطلان، ومنها مقصد حفظ النفوس؛ فالمقتول مواطن غافل لا جريرة له، وله نفس مصونة يَحرم التعدي عليها ويجب صيانتُها، وقد عظم الله تعالى من شأن النفس الإنسانية، فقال: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
ولهذه الأعمال من المفاسد ما لا يخفى، ففيه تشويه للصورة الذهنية عن الإسلام في الشرق والغرب، وتدعيم للصورة الباطلة التي يحاول أعداء الإسلام أن يثبتوها في نفوس العالم من أن الإسلام دين متعطش للدماء، وهي دعوى عارية من الصواب، وفي ذلك ذريعة لكثير من الأعداء الذين يتربصون للتدخل في شؤوننا الداخلية بغير حق.
وقد أمر تعالى بسدِّ الذريعة المؤدية لسبِّ الله تعالى حتى لو كان الفعل في نفسه جائزًا، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108]. قال الإمام الرازي في “تفسيره” (13/ 115، ط. دار الكتب العلمية): [دلَّت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعدًا عن الحق ونفورًا، إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به، وكان لا ينهى عما ذكرنا، وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء كقوله لموسى وهارون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾] اهـ. هذا إذا كان الفعل في نفسه جائزًا، فكيف إذا كان الفعل حرامًا في الأصل؟ واستعمال القتل والترويع في هذه الأعمال التخريبية يُسَمَّى بـ الحرابة، وهي إفساد في الأرض وفساد، وفاعلها يستحق عقوبةً أقسى من عقوبات القاتل والسارق والزاني؛ لأن جريمته منهج يتحرك فيه صاحبه ضدَّ المجتمع؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
أما قول بعضهم: إن العهد الذي كان بيننا وبينهم إنما هو عهد الذمة، وقد زال هذا العهد، ومِن ثَمَّ لا عهد لهم عندنا، فهو كلام باطل ينقصه كثير من الإدراك والفقه؛ فالمواطنة مبدأ إسلامي أقرَّته الشريعة الإسلامية، وهي في صورتها المتفق عليها معمول بها في دساتير العالم الإسلامي وقوانينه، ومنها الدستور المصري الذي ينص في المادة الثانية منه على مرجعية الشريعة الإسلامية، وقد رسخ الإسلام مبدأ المواطنة منذ أربعة عشر قرنًا، وهو ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وثيقة المدينة المنورة التي نصت على التعايش والمشاركة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد دون النظر إلى الانتماء الديني أو العرقي أو المذهبي أو أي اعتبارات أخرى، ومن ثَمَّ فهذا العقد من العقود والعهود المشروعة التي يجب الوفاء بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم