حكم توقيع الدولة غرامة على من لا يرتدي الكمامة.. دار الإفتاء تجيب
قامت كثير من دول العالم -ومنها الدول الإسلامية- بفرض غرامات مالية على مخالفي القرارات والتعليمات الرسمية التي تلزم المواطنين بارتداء الكمامات في المواصلات والمؤسسات الحكومية وغيرها والأسواق والمحلات والبنوك والأماكن المزدحمة، وذلك مع استمرار وباء كورونا في الانتشار واتجاه دول العالم لضرورة التعايش الحذِر معه؛ حفاظًا على المقدرات الاقتصادية وغيرها، فما حكم الشرع في تغريم من يخالف هذه القرارات؟
الجواب : الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
كلفت الشريعة الإسلامية ولاة الأمر برعاية المحكومين عن طريق الحفاظ على المقاصد الكلية العليا، وأولها وآكدها: حفظ النفس، وخولت لهم -في سبيل تحقيق ما كلفوا به من مسؤولية- أن يسنوا القوانين واللوائح الملزمة التي تكفل ذلك، كما خولت لهم أيضًا وضع العقوبات وتنفيذها على من يخرق هذه القوانين أو يخالف تلك القرارات؛ لما في ترك المخالف دون عقوبة من التجرئة على المخالفة، وفي ذلك ما لا يخفى من ضياع مصالح العباد وانتشار الفساد؛ ولذلك جاء في الأثر: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.
وحتى يحصل الانضباط والالتزام بوسائل الوقاية من الوباء في مواطنها المطلوبة فقد ألزمت دول العالم -ومنها مصر- مواطنيها بارتداء الكمامة في مواطن التجمعات والمواصلات والأسواق والمحلات وغيرها مما هو مَظنّةٌ لانتشار العدوى، وأَوقَعت -بالإضافة إلى ذلك- غراماتٍ مالية على المخالفين؛ حتى يحقق القانون الملزم غرضه وغايته في التزام المواطنين بوسائل الوقاية؛ للحفاظ على حياة الناس وسلامة المجتمع، وهذا من باب التعزيرات المالية؛ والتعزيرات هي: العقوبات التي لم يرد نص من الشارع ببيان مقدارها، وترك تقديرها لولاة الأمر، ووظيفتها: حماية الأموال والأخلاق والنظام العام، ويكون ترتيب العقوبات فيها على حسب مقدار الاعتداء على المصالح المعتبرة في الإسلام؛ كما يقرره العلامة محمد أبو زهرة في كتابه “الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي” (ص: 69، ط. دار الفكر العربي).
وعقوبة التغريم المالي من التعزيرات التي أقرها الشرع الشريف، وجاءت بها النصوص:
فعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «فِي كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ؛ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْهُ وَشَطْرَ إِبِلِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» أخرجه الإمام أحمد في “المسند”، وأبو داود والنسائي في “السنن”، وابن خزيمة في “الصحيح”، والحاكم في “المستدرك”، وقال: حديث صحيح الإسناد.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ» أخرجه الإمام أحمد في “المسند”، وأبو داود والنسائي وابن ماجه في “السنن”، والحاكم في “المستدرك”.
والخُبْنَة: مِعطَف الإزار وطَرَف الثوب، أي: من أكل ولم يأخذ في ثوبه.
وعلى ذلك جرى عمل الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم:
فعن يحي بن عبد الرحمن بن حاطب: أن أرقاء لحاطبٍ رضي الله عنه سرقوا ناقةً لرجلٍ من مزينةَ فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمر كثير بن الصلت رضي الله عنه أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: “إني أراك تُجيعُهم؛ والله لأغرمنَّك غُرْمًا يَشُقُّ عليك”، ثم قال للمزني: “كم ثمن ناقتك؟” قال: أربعمائة درهم، قال عمر: “أعطه ثمانمائة درهم” أخرجه الإمام مالك في “الموطأ” وعنه الإمام الشافعي في “المسند”.
وعن أبان بن عثمان: “أن عثمان رضي الله عنه أَغْرَمَ في ناقةِ مُحْرِمٍ أهلكها رجلٌ؛ فأغرمه الثلثَ زيادةً على ثمنها” أخرجه عبد الرزاق في “المصنف”.
قال الإمام ابن حزم في “المحلى” (12/ 307، ط. دار الفكر): [ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم] اهـ.
ومشروعية التعزيرات المالية هو قول المحققين من الفقهاء عبر الأعصار، وهو المعمول به في سائر الأمصار:
قال العلامة الكمال بن الهمام الحنفي في “فتح القدير” (5/ 345، ط. دار الفكر): [وعن أبي يوسف: يجوز التعزير للسلطان بأخذ المال، وعندهما وباقي الأئمة الثلاثة: لا يجوز. وما في “الخلاصة”: سمعت من ثقة أن التعزير بأخذ المال إن رأى القاضي ذلك أو الوالي جاز، ومن جملة ذلك: رجل لا يحضر الجماعة، يجوز تعزيره بأخذ ماله. مبني على اختيار من قال بذلك من المشايخ كقول أبي يوسف] اهـ.
وقال العلامة ابن فرحون المالكي في “تبصرة الحكام” (2/ 293، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [والتعزير بالمال: قال به المالكية فيه، ولهم تفصيل ذكرت منه في كتاب الحسبة طرفًا، فمن ذلك: سئل مالك عن اللبن المغشوش أيهراق؟ قال: لا، ولكن أرى أن يتصدق به إذا كان هو الذي غشه. وقال في الزعفران والمسك المغشوش مثل ذلك قليلًا أو كثيرًا، وخالفه ابن القاسم في الكثير. وقال: يباع المسك والزعفران على من لا يغش به ويتصدق بالثمن أدبًا للغاش. مسألة: وأفتى ابن القطان الأندلسي في الملاحف الرديئة النسج بأن تحرق، وأفتى عتاب بتقطيعها والصدقة بها خرقًا.. مسألة: والفاسق إذا آذى جاره ولم ينته، تباع عليه داره وهو عقوبة في المال والبدن] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في “المهذب” (3/ 373، ط. دار الكتب العلمية): [من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة.. عزر على حسب ما يراه السلطان] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في “كشاف القناع” (6/ 125، ط. دار الكتب العلمية): [(وقال التعزير بالمال سائغ إتلافًا وأخذًا، وقول) الموفق (أبي محمد المقدسي: “لا يجوز أخذ ماله”؛ إشارةٌ منه إلى ما يفعله الحكام الظلمة. والتعزير يكون على فعل المحرمات، و) على (ترك الواجبات)] اهـ.
وهذا هو الذي اعتمدته الدول الإسلامية في تشريعاتها وقوانينها؛ ومنها: قانون العقوبات المصري في مادته (22)، التي نصَّت على أن العقوبة بالغرامة إلزام للمحكوم عليه بأن يدفع إلى خزينة الحكومة المبلغ المقدَّر في الحكم، وبيَّن القانونُ حدودَ الغرامات المختلفة.
وأما من منع من الفقهاء التعزيرَ بالمال: فإنما منعوه سدًّا لذريعة الاستيلاء على أموال الناس بالباطل والمكوس الظالمة، أو خوفًا من تزيد بعض القضاة في مقادير التعزيرات، أو منعوه في مواطن الشبهة، أو في أزمنة ازدياد الظلم.
قال العلامة الشرنبلالي الحنفي في حاشيته على “درر الحكام” (2/ 75، ط. دار إحياء التراث): [ولا يفتى بهذا؛ لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في “الاختيارات الفقهية” (ص: 601، ط. دار المعرفة): [والتعزير بالمال سائغ إتلافًا وأخذًا، وهو جار على أصل أحمد؛ لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها، وقول الشيخ أبي محمد المقدسي: (ولا يجوز أخذ مال المعزَّر) فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة] اهـ.
وهذا كله إنما يظهر أثره في أنماط الحكم المركزي الفردي، وفي إناطة مقدار العقوبة باجتهاد القاضي دون نصوص قانونية أو قرارات ملزمة أو إرشادات معلومة مسبقًا، أما في الدولة المدنية الحديثة ذات المؤسسات المستقلة والسلطات المنفصلة المتكاملة وهيئات الرقابة: فالأمر يختلف؛ ذلك أن نظم الحكم في الدول الحديثة يرتبط فيها الدعم الحكومي بالضرائب والغرامات، وتُوفَّرُ فيها الخدمات والمرافق العامة والتأمين الصحي للمواطنين في مقابل ما يُستَقْطَعُ مِن دُخولهم المادية، وتستقل فيها السلطات: تشريعيةً، وقضائيةً، وتنفيذيةً؛ بما يؤدي إلى انتفاء هذه المخاوف أو تقليلها.
كما أن مخالفة القوانين والقرارات والتعليمات الحكومية تجرُّ على الدولة تكاليف مادية باهظة -بشكل مباشر أو غير مباشر-، وهذا يظهر هنا في تكاليف العلاج الكبيرة وتجهيزات مستشفيات العزل الباهظة التي تنتج عن إهمال وسائل الوقاية وتكاثر حالات المرض وازدياد المصابين بعدوى الوباء؛ مما يتناسب مع الغرامة المالية التي يُلزَم بها المخالفون بتسببهم المباشر وغير المباشر في ذلك، حيث جاءت تنبيهات منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة المصرية بضرورة ارتداء الكمامة في زمن انتشار الوباء، وأن التهاون في ذلك يزيد من فرص انتشار العدوى ويعرض حياة الكثيرين للخطر.
وإذا كانت حاجة الإنسان الضرورية في الحفاظ على حياته ومهجته تبيح له الأخذ من أموال الناس: شرعًا؛ كما يقتضيه قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173]، وترفع عنه العقاب قانونًا؛ كما جاء في المادة (61) من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937م من أنه: [لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره، ولم يكن لإرادته دخل في حلوله، ولا في قدرته منعُه بطريقةٍ أخرى]، فإن المصلحة العامة في الحفاظ على حياة المواطنين، تبيح -من باب أولى- تغريم المخالفين المتهاونين؛ لتفريطهم في الحفاظ على سلامة نفوسهم ونفوس الآخرين.
قال الإمام العز بن عبد السلام في كتابه “قواعد الأحكام” (2/ 188، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [المصلحة العامة كالضرورة الخاصة، ولو دعت ضرورة واحد إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد، وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء نفوس!] اهـ.
ولا يخفى ما في التعايش مع الوباء من ضرورة أن تصبح الإجراءات الوقائية ثقافة سائدة في مزاولة حياتنا في التجمعات، والأسواق والمواصلات، وفي التعامل مع الناس في كافة الجهات؛ فلا يرتبط تنفيذها بتوقع العقوبة القانونية على تركها، بل تكون أسلوبًا للحياة في هذه الظروف، بعد أن ثبت أنها تحقق سلامة الإنسان في نفسه وسلامة الناس من حوله، وكل ذلك مأمور به شرعًا، فصار الالتزام بذلك عبادة دينية وواجبًا شرعيًّا؛ لأنه يتوصل به إلى حفظ النفس، وهو مقصد شرعي مرعي، والوسائل لها أحكام الغايات، فإذا نوى الإنسان بها ذلك نال ثواب إحياء الناس جميعًا؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المـــائدة: 32].
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فكما جعل الشرع من سلطة الحكام وضع القوانين والقرارات والتعليمات الملزمة في سبيل تحقيق ما كُلِّفوا به من تحقيق المقاصد الشرعية العليا وضبط النظام العام، فقد خول لهم أيضًا وضع العقوبات الملائمة على مخالفة القوانين حسبما يترتب على خرقها من ضرر؛ حتى يضمن تنفيذها والتزام الناس بها، ويكفل تحقيق مسؤوليتهم في رعاية مصالح المحكومين، والغراماتُ المالية هي من باب التعازير التي لم يرد بها نص في الشرع، ومرجع تقديرها إلى السلطة التشريعية، وقد أقرها الشرع الشريف، وجاءت بها سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجرى عليها عمل الصحابة رضي الله عنهم بلا مخالف، وقال بها المحققون من الفقهاء، وهو الذي اعتمدته الدول الإسلامية في قوانينها قديما وحديثًا ومنها مصر، والذين منعوه من الفقهاء إنما أرادوا بمنعه سد ذريعة الاستيلاء على أموال الناس بالباطل، وهذا يظهر أثره في نظم الحكم القديمة وعند التقدير الفردي المطلق للغرامة دون نصوص قانونية موجهة، أما في نظام الحكم الحديث ودولة المؤسسات، التي ترتبط فيها الخدمات والدعم والتأمين الصحي بالضرائب والغرامات، وتستقل فيه السلطات: فالأمر مختلف؛ إذ لا يصبح التغريم مكسًا، ولا تعود أخذ المال ظلمًا.
هذا بالإضافة إلى أن مخالفة القوانين تؤدي عادةً إلى الأعباء المالية الهائلة على الدولة؛ كما يظهر هنا في ازدياد الأعباء، لازدياد الأعداد المصابة بالوباء، وفي التجهيزات المضاعفة لاستقبال المصابين، مما يسببه إهمال وسائل الوقاية وإجراءات الحماية، وهذا يجعل الغرامات المالية التي توقع على المخالفين مناسبة لتبعة مخالفتهم وآثار إهمالهم.
فالإلزام بدفع الغرامة لمن لم يرتد الكمامة في المواصلات والمصالح العامة والخاصة والأسواق والمحلات والبنوك نحوها هو أمر سائغ شرعًا، وعلى المواطنين أن ينووا بلبس الكمامة الحفاظ على نفوسهم ونفوس من حولهم؛ طاعة لله باتخاذ الأسباب، واحتسابًا للأجر والثواب، دون توقف على الغرامات والعقوبات.
والله سبحانه وتعالى أعلم