حكم التباعد بين المصلين في صلاة الجماعة خوفا من عدوى كورونا
انتشرت مقاطع فيديو لصلوات الجماعة في المسجد الأقصى وبعض مساجد المسلمين في صفوف متباعدة، مع التباعد الكافي بين المصلين (متر فأكثر) من جميع الجهات، واستقلال كل مصل بسجادته الخاصة به، وذلك قبل أن تصدر القرارات بتأجيل إقامة الجُمَع والجماعات احترازًا من انتشار عدوى كورونا. فهل هذه الهيئة تنافي معنى تسوية الصفوف المأمور بها؟ وهل إذا تباعدت الصفوف واتسعت أثَّر ذلك في حصول الاقتداء؟ وما حكم صلاة الجماعة على هذا النحو؟ أفيدونا أفادكم الله.
الجواب: الأستاذ الدكتور/ شوقي إبراهيم علام
حفظ النفوس مقصد شرعي جليل من المقاصد الكلية العليا للشريعة الغراء، بل هو متفق عليه بين كل شرائع السماء، التي جاءت بها الرسل والأنبياء؛ فالله تعالى يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، ومن أهم مظاهر حفظ النفس: الصحة التي يستطيع بها الإنسان تحقيق مراد الله تعالى منه؛ إذ يجب عليه رعايتُها والمحافظةُ عليها من الأمراض المؤذية والأوبئة الفتاكة؛ إذ الأمراض والأسقام هي أشدُّ ما يعرِّض النفوسَ للتلف، فحمايتها منها إحياء وحفظ لها؛ وذلك: إما بالوقاية أو بالعلاج؛ فسبل الوقاية سابقة، ووسائل العلاج لاحقة.
قال الإمام ابن الجوزي في “كشف المشكل من حديث الصحيحين” (1/ 217، ط. دار الوطن): [والفرار من المَخُوفِ مشروعٌ، وكذلك الاحتراز منه؛ قال عز وجل: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]، وقد مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحائط مائل فأسرع، واستعمل الدواء، ولبس الدرع، فهذه الأشياء موضوعة على قانون الحكمة، فليس لقائل أن يعتمد على القدَرِ ويُعرِضَ عن الأسباب؛ فإن الرزق مقدر، والكسب مشروع، والوباء عند المتطببين أنه يعرض للهواء فيفسده] اهـ.
وقال الشيخ ابن القيم في “زاد المعاد” (4/ 196، ط. مؤسسة الرسالة): [لما كانت الصحة من أجل نعم الله على عبده وأجزل عطاياه وأوفر منحه، بل العافية المطلقة أجل النعم على الإطلاق، فحقيقٌ لمن رُزِقَ حظًّا مِن التوفيق مراعاتُها وحفظُها وحمايتُها عما يُضادُّها] اهـ.
وقال الإمام القسطلاني في “إرشاد الساري” (7/ 96، ط. الأميرية) في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 102]: [ودلّ ذلك على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة، ومن ثم علم أن العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء والتحرز عن الجلوس تحت الجدار المائل واجب] اهـ.
ووباء فيروس كورونا “كوفيد-19” (COVID-19) الذي تعاني منه بلدان العالم في هذه الآونة هو: نوع من الفيروسات التاجيَّة التي تسبب الأمراض للإنسان والحيوان، ينتشر بسرعة فائقة عن طريق العدوى بين الأشخاص، عن طريق الجهاز التنفسي والرذاذ المتناثر من الأنف أو الفم المحمَّل بالفيروس عند السعال والعطس، أو عن طريق المخالطة وملامسة المرضى والأسطح المحيطة بهم، ولذلك يجب الابتعاد عن الشخص المريض بمسافة تزيد على متر واحد (3 أقدام)؛ كما أفادته منظمة الصحة العالمية (WHO)، التي أعلنت حالة الطوارئ الصحية العامة، باعتبار هذا المرض وباءً عالميًّا، بعد أن أثَّرت العدوى في ارتفاع أعداد الإصابات وتضاعف حالات الوفيات، وأثبتت الدراسات الطبية إمكانية انتقال العدوى عن طريق أشخاص ظهرت عليهم أعراض الفيروس الخفيفة، أو لم تظهر عليهم أعراضه أصلًا.
والعَدْوَى -كما عرفها المختصون-: هي انتقال الكائن المسبب لها من مصدره إلى الشخص المعرض للإصابة، وإحداث إصابة بالأنسجة قد تظهر في صورة مرضية (أعراض) أو لا.
وهو ما عرف به العلماء كثيرًا من الأمراض الوبائية؛ كالجُذام، والجرَب، والجدري، ونحو ذلك:
قال الإمام الطيبي في “الكاشف عن حقائق السنن” (9/ 2979، ط. مكتبة نزار الباز): [العدوى: مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، يقال: أعدى فلانٌ فلانًا من خلقه أو من علة به، على ما يذهب إليه المتطببة في علل سبع: الجذام، والجرب، والجدري، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائية] اهـ.
وقد سبق الإسلام إلى نظم الوقاية من الأمراض المعدية، وشرع الاحترازَ من تفشيها وانتشارها؛ منعًا للضرر، ودفعًا للأذى، ورفعًا للحرج؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» أخرجه البخاري في “صحيحه”.
وعن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام: أن النبي صلَّى الله عَليْهِ وآله وسلَّم قال: «لا تُدِيُمواْ النَظَرَ إلى المُجَذَّمِينَ، وَإِذَا كَلَّمْتُمُوهُمْ فَلْيَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ قِيدُ رُمْحٍ»، أخرجه عبد الله بن أحمد في “زوائد المسند” وأبو يعلى في “مسنده”، وابن السُّنّي وأبي نعيم في “الطب النبوي” من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه مرفوعًا: «كَلِّمِ المَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ».
قال الإمام العيني في “عمدة القاري” (21/ 247، ط. دار إحياء التراث العربي): [وَفِي قَوْله: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ» أعْلَمَ أَن الله تعالى جعل ذَلِك سَببًا؛ فحذَّر من الضَّرَر الَّذِي يغلب وجودُه عِنْد وجوده بِفعل الله عز وجل] اهـ.
وقال الإمام المناوي في “فيض القدير” (1/ 138، ط. مكتبة التجارية الكبرى): [أي: احذروا مخالطته وتجنبوا قربه وفرُّوا منه كفراركم من الأسود الضارية والسباع العادية] اهـ.
والنهي عن مخالطة مريض الجذام آنذاك؛ لكون ذلك المرض “من العلل المعدية بحسب العادة الجارية”؛ كما قال العلامة الكماخي في “المهيأ في كشف أسرار الموطأ” (2/ 437، ط. دار الحديث)، فيدخل فيه ما كان في معناه من الأمراض المُعدية المستجدة، ويكون ذلك أصلًا في نفي كل ما يحصل به الأذى، أو تنتقل به العدوى.
ومن هنا جاز هذا التباعد بين المصلين في صلاة الجماعة؛ بحيث يترك المصلي مسافةً بينه وبين من يجاوره؛ وبينه وبين من يصلي أمامه وخلفه؛ تحرزًا من الوباء، وخوفًا من انتقال عدواه.
أما تسوية الصفوف: فقد اتفق الفقهاء على مطلوبيتها في صلاة الجماعة؛ عند الجمهور استحبابًا، وعند بعضهم إيجابًا؛ إظهارًا لشعيرة الصلاة التي توخَّت فيها الشريعة الترابطَ والتراصَّ بين المسلمين، مع اتفاق الجميع على عدم بطلان الجماعة بتركها؛ فعن أَنَسٍ رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «سَوُّوا صَفُوفَكمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ» وفي رواية: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي» متفقٌ عليه، وفي رواية لمسلم: «فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى مَا وَرَائِي كَمَا أَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيَّ؛ فَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ، وَأَحْسِنُوا رُكُوعَكُمْ وَسُجُودَكُمْ» رواه عبد الرزاق في “المصنف”، والإمام أحمد وابن الجعد والبزار في “مسانيدهم”.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أقيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ المَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الخَللَ، وَلِينُوا بِأيْدِي إخْوانِكُمْ، ولَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ للشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ» أخرجه أحمد في “مسنده”، وأبو داود وابن ماجه والنسائي في “سننهم”.
قال الإمام ابن عبد البر في “الاستذكار” (2/ 288، ط. دار الكتب العلمية): [وأما تسوية الصفوف في الصلاة: فالآثار فيها متواترة من طرق شتى صحاح كلها ثابتة في أمرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسويةَ الصفوف، وعملِ الخلفاء الراشدين بذلك بعده، وهذا ما لا خلاف فيما بين العلماء فيه] اهـ.
وقال الإمام ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (2/ 347، ط. مكتبة الرشد): [هذا الحديث يدل أن إقامة الصفوف سنة مندوب إليها، وليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضًا لم يقل عليه السلام: «فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاةِ»؛ لأن حسن الشيء زيادةٌ على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب] اهـ.
وتسوية الصفوف: تكون باعتدال القائمين فيها على سمتٍ واحدٍ؛ بحيث لا يتقدَّم بعضهم على بعض في الصف، وتكون بالتراصِّ وسَد الفُرَج والخلل بين المُصَلِّين.
والمعنى الأول مقصود بحقيقة لفظ التسوية اتفاقًا؛ إظهارًا لمعنى الاعتدال والانتظام، وقد يُراد بها المعنى الثاني أيضًا؛ من باب التسوية المعنوية؛ قال الإمام ابن دقيق العيد في “إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام” (1/ 217، ط. مطبعة السنة المحمدية): [تسوية الصفوف: اعتدال القائمين بها على سمتٍ واحدٍ، وقد تدل تسويتها أيضًا على سد الفرج فيها؛ بناء على التسوية المعنوية، والاتفاقُ على أن تسويتها بالمعنى الأول والثاني أمرٌ مطلوب، وإن كان الأظهرُ: أنَّ المرادَ بالحديثِ الأولُ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» يدل على أن ذلك مطلوب، وقد يؤخذ منه أيضا: أنه مستحب غير واجب؛ لقوله: «مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» ولم يقل: إنه من أركانها ولا واجباتها، وتمام الشيء: أمر زائد على وجود حقيقته التي لا يتحقق إلا بها في مشهور الاصطلاح، وقد ينطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به] اهـ.
وقال الإمام السيوطي في “التوشيح شرح الجامع الصحيح” (2/ 724، ط. مكتبة الرشد): [والمراد بتسوية الصفوف: اعتدال القائمين على سمت واحد، ويطلق أيضًا على سد الخلل الذي في الصف] اهـ.
فكمال تسوية الصفوف في صلاة الجماعة هو الجمع بين معنييها؛ الحقيقي والمعنوي؛ لتمام الهيئة وحُسن الإقامة وتمكن المُصلِّين من صلاتهم مع كثرة جمعهم وعددهم، غير أنه إذا تعذَّر الجمع لعارضٍ أو حاجة: اُقتُصِرَ على التسوية الحقيقية التي تُحقِّقُ مقصودَها ومعناها؛ قال الإمام المناوي في “فيض القدير” (4/ 115): [والسِّرُ في تسويتها: مبالغةُ المتابعة] اهـ.
وقال العلَّامة الكشميري الحنفي في “العرف الشذي شرح سنن الترمذي” (1/ 235 ط. مؤسسة ضحى): [ما في البخاري من إلزاق الكعب بالكعب فزَعَمَه بعض الناس أنه على الحقيقة، والحال أنه من مبالغة الراوي، والحق: عدم التوقيت في هذا؛ بل الأنسبُ ما يكون أقربَ إلى الخشوع] اهـ.
ومع اتفاق الفقهاء على مطلوبية التسوية، إلا أنهم متفقون على أنها ليست مما تبطل به صلاة الجماعة؛ خلافًا لابن حزم الظاهري، وهو قول بعيد؛ لا قائل به قبله، ولا مساعد عليه من عقل أو نقل.
والتباعد بين المصلين بهذه الهيئة المذكورة: لا يخرج عن معنى التسوية ومقصودها؛ فقد نص الفقهاء على التَّسَمُّح بالفرجة اليسيرة بين المصلين، ولم يروا في ذلك خروجًا عن اتحاد الصف عرفًا، ولا منافاة للتسوية، ولا مانعًا من الاقتداء:
قال الإمام السرخسي الحنفي في “المبسوط” (2/ 35، ط. دار المعرفة): [وتخلل الأسطوانة بين الصف كتخلل متاع موضوع أو كفرجة بين رجلين، وذلك لا يمنع صحة الاقتداء ولا يوجب الكراهة] اهـ.
وقال الإمام النووي في “المجموع” (4/ 306، ط. ار الفكر): [فلو كان بينهما عتبةً عريضة تسع واقفًا: اشترط وقوف مُصلٍّ فيها، فإن لم يمكن الوقوف فيها: فعلى الوجهين في الفرجة اليسيرة؛ الأصح لا تضر] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في “تحفة المحتاج” (2/ 316، ط. مكتبة التجارية الكبرى): [(ولا تضر فرجة) بين المتصلين المذكورين (لا تسع واقفًا)، أو تَسعْهُ ولا يمكنه الوقوف فيها (في الأصح)؛ لاتحاد الصف معها عرفًا] اهـ.
كما نص الفقهاء على أن تباعد الصفوف في الصلاة واتساعها لا يمنع الاقتداء ولا يقطع الجماعة؛ لأن المسجد على تباعد أطرافه جعل في الحكم كمكانٍ واحدٍ، وكل موضعٍ فيه هو موضع الجماعة، وكل من أحاط به المسجد من المُصلين فهو في جماعة، حتى نص بعضهم على أن تحديد المسافات بين المصلين يرجع فيها إلى العرف وما جرت به العادة:
قال العلامة الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع” (1/ 145 ط. دار الكتب العلمية): [ولو اقتدى بالإمام في أقصى المسجد والإمام في المحراب جاز؛ لأن المسجد على تباعد أطرافه جعل في الحكم كمكانٍ واحدٍ] اهـ، وقال أيضًا في (1/ 226): [المسجد كله بمنزلة بقعة واحدة حكًما، ولهذا حكم بجواز الاقتداء في المسجد وإن لم تتصل الصفوف] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في “الحاوي الكبير” (2/ 343، ط. دار الكتب العلمية): [فإن كان بصلاته عالمًا: صحت صلاته، سواء كان المسجد صغيرًا أو كبيرًا، قَرُبَ ما بينهما أو بَعُد، حال ما بينهما حائل أو لم يحل، اتصلت الصفوف إليه أو لم تتصل، وإنما صحت صلاته؛ لأن المسجد الواحد إنما يبنى لجماعة واحدة.. وكل من أحاط به المسجد فهو في جماعة] اهـ.
وقال إمام الحرمين الجويني في “نهاية المطلب” (2/ 403، ط. دار المنهاج): [فالمسجد إن كان جامعًا للإمام والمقتدي: لم يضر إفراط البعد؛ فإن المسجد لهذا الشأن] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في “المغني” (2/ 152، ط. مكتبة القاهرة): [ولا يعتبر اتصال الصفوف إذا كانا جميعًا في المسجد. قال الآمدي: لا خلاف في المذهب أنه إذا كان في أقصى المسجد، وليس بينه وبين الإمام ما يمنع الاستطراق والمشاهدة، أنه يصح اقتداؤه به، وإن لم تتصل الصفوف، وهذا مذهب الشافعي؛ وذلك لأن المسجد بني للجماعة، فكل من حصل فيه فقد حصل في محل الجماعة. وحكي عن الشافعي أنه حد الاتصال بما دون ثلاث مائة ذراع. والتحديدات بابها التوقيف، والمرجع فيها إلى النصوص والإجماع، ولا نعلم في هذا نصًا نرجع إليه ولا إجماعًا نعتمد عليه، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، كالتفرق والإحراز، والله أعلم] اهـ.
وهذا كله يقتضي أن التّباعد في صلاة الجماعة بين المصلين بهذا القدر المذكور -احترازًا من الوباء- مع انتظام صفوفهم لا يخرج عن معنى التسوية واتحاد الصف، ولا يمنع الجماعة، ولا يقطع الاقتداء.
بل لو ادُّعِيَت منافاة ذلك للتسوية لما كان مانعًا من الاقتداء أو قاطعًا للجماعة؛ فإن ترك التسوية عند جمهور الفقهاء مكروه، وقد تقرر في قواعد الشريعة: أن الكراهة تزول بأدنى حاجة؛ كما قرره العلامة السفاريني في “غذاء الألباب” (2/ 22، ط. مؤسسة قرطبة)، فلأن تزول الكراهة بالضرورة -المتعلقة بحفظ النفوس- من باب أولى وأحرى.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فلا مانع من التباعد بين المصلين في صلاة الجماعة بهذا القدر المذكور من جميع الجهات؛ تحرزًا من الوباء، ووقاية من العدوى، وصلاة الجماعة على هذا النحو صحيحة، ولا يخرج ذلك عن المقصود بتسوية الصفوف أصالةً؛ من اعتدال المصلين على سمتٍ واحدٍ، لا يتقدَّم بعضهم على بعض في الصف، أما التسوية في المعنى بسد الخلل: فقد نص الفقهاء على التسمُّح في الفرجة اليسيرة بين المُصَلِّين، وأنها لا تمنع اتِّحاد الصف عرفًا، ولا تنافي الاقتداء، ولا تقطع الجماعة، ولو قيل بمنافاة ذلك للتسوية: فذلك مكروه عند الجمهور، والمكروه يزول بأدنى حاجة، فكيف بما هو ضرورة لحفظ النفس، وكذلك الحال إذا تباعدت الصفوف واتسعت؛ فإن ذلك لا يمنع حصول الاقتداء؛ لأن كل موضعٍ في المسجد هو موضع الجماعة، وكل من أحاط به المسجد من المُصلين فهو في جماعة حتى وإن لم تتصل الصفوف، وتحديد المسافات بين المصلين يُرجع فيه للعرف وما جرت به العادة.
غير أنا ننبه على أن مجرد اجتماع الناس لصلاة الجماعة أو غيرها في زمن الوباء: هو مظنة انتشار العدوى واستفحال البلاء؛ كما قرره المتخصصون من الأطباء، وشهد به الواقع في كثير من البلدان التي زادت فيها حالات الإصابة، وأعداد الوفيات، ولذلك أُصدرت القرارات بإرجاء الجمع والجماعات، وصدرت فتوى دار الإفتاء المصرية بجواز منع ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم