حدود ولاية الأب على ابنته.. فتاة تسأل ودار الافتاء تجيب
ما حدود ولاية الأب على ابنته؟ وهل له الحَق في منعها مِن التعليم أو العمل بمقتضى ولايته عليها؟ وما هو موقف الأب في شأن الزواج والعلاج ونحوهما؟
الجواب : فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد
الولاية في اللغة بالكسر: السُّلطان، وبالفتح والكسر: النُّصرة، ومنه قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ﴾ [الكهف: 44]؛ أي: النُّصرة له وحده لا يَقدِر عليها غيرُه سبحانه.
وقال سيبويه: إنّ الولاية بالفتح: المصدر، وبالكسر: الاسم؛ مثل: الأمارة والنقابة؛ لأنه اسم لِما توليتَه وقمت به، فإذا أرادوا المصدر فتحوا.
وأما في الاصطلاح: فمِن أحسنِ ما قيل في حَدِّها: إنها سُلطةٌ شرعية تُمَكِّن صاحبها مِن التصرف الصحيح النافذ لنفسه أو لغيره جبرًا أو اختيارًا.
والتناسب بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ظاهرٌ؛ لأنّ الولي قريبُ مَن تحت ولايته وناصرُه ومُتَولي النَّظَر في شؤونه.
والولاية تنقسم باعتبار موضوعها إلى: ولاية على النفس، وولاية على المال، فالولاية على النفس يقوم الولي بمقتضاها بالإشراف على الشؤون الشخصية لمن تحت ولايته؛ مثل: التأديب والتعليم والتطبيب والتزويج والعمل.
وأسباب قيام الولاية على النفس أربعة: الصغر، والجنون، والرق، والأنوثة.
وأما الولاية على المال فيقوم الولي بمقتضاها بالإشراف على الشؤون المالية لمن تحت ولايته؛ كالإنفاق، وإبرام العقود، وتنفيذ ما يتعلَّق بحقوقٍ للمُولى عليه قِبَل الغير وما يتعلق بحقوقٍ للغير عليه، مع العمل على حفظ ماله واستثماره وتنميته، وسلطة الولاية إما أن تكون أصلية، تَثبت بإثبات الشارع مِن غير حاجة إلى مُثبِتٍ مِن البشر، ولا يملك صاحبُها عزلَ نفسه منها؛ لأنها لم تثبت له بإرادته، وهي مُنحصرة في ولاية الأب على مال ولده القاصر، أو تكون سلطة نيابية، يستمدها صاحبُها من شخص آخر؛ كالوصيّ الذي يَستمد ولايته من الأب أو الجد أو القاضي، والوكيل الذي يستمد ولايته من موكله، ونحو ذلك. وتستمر هذه الولاية ما دام الوصف الموجِب لها قائمًا، فإن زال انقطعت.
وسبب مشروعية هذين النوعين مِن الولاية هو القيام بمصالح المولى عليه ورعايته.
وجَعلُ الأب أصيلًا في الولاية سببُه: أنّ الأبوةَ داعيةٌ إلى كمال النظر في حق المولى عليه؛ لوفور شفقته، وهو قادر على ذلك؛ لكمال رأيه وعقله، والصغير عاجزٌ عن النظر لنفسه بنفسه، وثبوتُ ولاية النظر للقادر على العاجز عن النظر أمرٌ معقول مشروع؛ لأنه من باب الإعانة على البر، ومن باب الإحسان، ومن باب نجدة الضعيف وإغاثة اللهفان، وكلُّ ذلك حَسَنٌ عَقلًا وشَرعًا؛ ولذلك فإن كان مَبنى تصرف الأب مع ابنته بموجَب ولايته يتنافى مع البر والشفقة والمصلحة الحاليَّة والمستقبلية، بحيث يضر بها ضررًا محضًا، أو كان يرمي إلى تحقيق مصالح مَوهومة أو قليلة الأهمية لا تتناسب مع ما يصيبها مِن ضَرَرٍ بسببها، فإنه بذلك يكون مُتَعَسِّفًا في استعمال حقه؛ لأن الحقوق في الشريعة الإسلامية ليست مُطلَقة شأنها في ذلك شأن الحريات، وليست مَحض استبداد وتسلط يستعمله صاحبه وقتما شاء وكيفما شاء، بل هي مُقَيَّدَةٌ بتحقيق غاياتها من جلب المصلحة ودفع المفسدة.
فللبنت حَقٌّ على أبيها في أن يُعَلِّمها؛ وقد روى البيهقي في “سننه الكبرى” عن أبي رافع رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، أللولد علينا حَقٌّ كحقنا عليهم؟ فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَمْ، حَقُّ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْكِتَابَةَ».
فإذا أراد الأب أن يمنع ابنته مِن مطلق التعليم وأرادت هي خلاف رغبته، فليس عليها أن تطيعه في ذلك، ولا تكون مخالفتها له في ترك التعلم عُقُوقًا؛ لأنّ طاعةَ الوالد وإن كانت واجبة إلا أنها مشروطة بألا تعود بالضرر على الولد؛ قال الشيخ ابن تيميّة في “الفتاوى الكبرى” (5/ 381، ط. دار الكتب العلمية): [ويَلزم الإنسانَ طاعةُ والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقَيْن. وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر، فإن شَقَّ عليه ولم يضره وَجَب، وإلا فلا] اهـ.
وقال أيضًا فيما نقله عنه العلامة ابن مُفلِح في كتابه “الآداب الشرعية” (1/ 436، ط. عالم الكتب): [والذي يَنتفعان به -أي الوالدان- ولا يَستضر هو -أي الولد- بطاعتهما فيه قسمان:
قِسمٌ يضرهما تركه، فهذا لا يُستراب في وجوب طاعتهما فيه، بل عندنا هذا يجب للجار.
وقِسمٌ ينتفعان به ولا يضره أيضًا طاعتُهما فيه على مقتضى كلامه. فأما ما كان يضره طاعتهما فيه لم تجب طاعتهما فيه، لكن إن شَقّ عليه ولم يضره وَجَب] اهـ.
وضَرَرُ تَرك التعليم بالنسبة للبنت معلومٌ ظاهرٌ غيرُ مَدفوع، فإنه إن كان تركًا له بالكلية فهو مما يُفَوِّت عليها كثيرًا مما يمكنها تحصيله في أمور دينها ودنياها، ويجعل إدراكها قاصرًا عن مثيلاتها مِن المتعلمات، ويؤثر سلبًا على فرصة زواجها كمًّا وكيفًا، ويحد مِن قدرتها فيما بعد على تنشئة أبنائها تنشئة جيدة سليمة، ولا شك أنّ وَعي المرأة المتعلمة يزداد وإدراكها يتسع بمقدار القسط التعليمي الذي تلقته، وينقص ذلك فيها بمقدار نقصان تعليمها.
ويؤكد ما قررناه ما ذكره العلماء مِن أنه يجوز مخالفةُ الوالد إذا مَنَع ولده مِن طَلَب العلم، حتى لو لم يكن هذا العلم مما يجب على الولد تحصيله، ما دام أنه لا يضر أباه بذلك؛ قال العلامة السفاريني في “شرحه لمنظومة الآداب” (1/ 382، ط: مؤسسة قرطبة) لابن عبد القوي الحنبلي: [أَوجب طاعة الوالدين (سوى في) معاطاة شيء (حرام) فلا طاعة لهما على الولد في ذلك؛ لأن الله الذي خلق الخلق أشدُّ طاعة، فلا يُعصى لأجل طاعتهما (أو) أي: وسِوى (لأمرٍ) مِن أمور الدين.. (مؤكَّد) عليه إتيانه ومعاطاته؛ كالراتبة.. يعني: أو لأمر. ومراده غير واجب، إذا نهياه عنه، فلا تجب طاعتهما, بل عليه أن يبادِر لفعل الأمر المؤكَّد عليه ولا يلتفت لنهيهما. نعم يأخذ بخاطرهما ولا يداريهما؛ كتطلاب علم لا يضرهما به وتطليق زوجات برأي مجرد (كـ) ما إذا نهياه عن (تطلاب علم) غير واجب عليه؛ حيث (لا يضرهما) أي: الوالدين (به) أي: بطلبه] اهـ.
وفي بعض الأحوال يكون تعلم دراسة معينة مِن حيث هو مِن النوافل وفروض الكفايات بحسب أصله لكنه يصير مُتَعَيِّنًا على من تَلَبَّس به؛ وذلك بناء على ما قرره جماعة من محققي الأصوليين مِن أنّ فرض الكفاية يَتَعَيَّن بالشروع؛ قال في “جمع الجوامع” وشرحه للعلامة المحلي -مع حاشية العطار- (1/ 240، ط. دار الكتب العلمية): [ويَتَعَيَّن فَرضُ الكفاية بالشروع فيه، أي يصير بذلك فرضَ عَين، يعني مثلَه في وجوب الإتمام على الأصح بجامع الفرضية] اهـ.
وقال العلامة ابن الشاط المالكي في “حاشيته على الفروق” للقرافي (1/ 163، مع الفروق ط. عالم الكتب): [فَرضُ الكِفاية يَصير فَرضَ عَينٍ بالشروع فيه على الأصح، حتى طلب العلم لمن ظهرت فيه قابليةٌ مِن نجابة] اهـ.
ومثلُ التعليم: العملُ، إذا قامت الحاجة الخاصة أو العامة إليه، وكان عملًا مشروعًا لا يلابسه شيء مِن الممنوعات الشرعية، وكانت المرأة تأمَن معه على نفسها وعِرضها ودينها، مع مناسبته لتكوينها الجسدي والنفسي، فلا يكون خروجُها حينئذٍ قادحًا في البر، ولا ناقضًا لولاية الولي عليها.
والشرع الشريف لم يَمنع عمل المرأة الذي تحققت فيه تلك الشرائط، ومِن شواهد هذا: ما رواه مسلم في “صحيحه” عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: طُلِّقَت خالتي، فأرادت أن تَجُدَّ نخلها، فَزَجَرها رجلٌ أن تَخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «بَلَى، فَجُدِّي نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا».
وروى الحاكم في “مستدركه” والشيخان في “صحيحيهما” -وأصل الحديث في “صحيح البخاري”- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه: «أَسْرَعُكُنَّ لُحُوقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا»، قالت عائشة: فكنّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نَمُد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذٍ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أراد بطول اليد: الصدقة. قالت: وكانت زينب امرأة صَنَّاعَةَ اليدِ؛ فكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله عز وجل. ومعنى صناعة اليد: أي حاذقة في صناعة يدها.
ويُمكِن للدولة أن تُلزِم أولياء الأمور بعدم التعرُّض لمن تحت ولايتهم مِن الأكفاء مِن النساء في عملهن الذي يُحقق المصلحة ويدرأ المفسدة الخاصة والعامة، ما دام ذلك محوطًا بالأمن والأمان، والقاعدة الفقهية أنّ الحاكم له سُلطة تقييد المباح لمصلحة معتبرة، وأن تصرفاته على الرَّعِيِّة مَنوطةٌ بالمصلحة، فمتى ما كانت هناك مصلحة عامة مَرجُوَّة فإنّ تصرف الإمام بناء عليها يكون تصرفًا شرعيًّا صحيحًا يلزم الناسَ إنفاذُه والعملُ به.
والمرأة مِن قديم لم تكن أجنبية عن المشاركة الفعالة في المجتمع المسلم، بل كانت لها مساهمتها الإيجابية في المجالات المختلفة؛ فكانت المجاهدة والممرضة والعالمة، وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها، فمِن مشاركاتها الجهادية: ما جاء في “صحيح مسلم” عن أنس رضي الله عنه: أن أم سُلَيم اتخذت يوم حُنَينٍ خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سُلَيم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا هَذَا الْخِنْجَرُ؟» قالت: اتخذتُه إن دنا مني أحدٌ مِن المشركين بَقَرتُ به بطنه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَضحَك.
وعنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بأم سُلَيم ونسوة مِن الأنصار معه إذا غزا، فيَسقين الماء ويُداوين الجرحى”.
وعنه قال: “لما كان يوم أُحُد انهزم ناس مِن الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُجَوِّبٌ عليه بحَجَفة -أي مترس عنه- ليقيه سلاح الكفار. قال: وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد النَّزع -أي رمي السهام-، وكَسَر يومئذ قوسين أو ثلاثًا. قال: فكان الرجل يمر معه الجَعْبَة من النَّبل فيقول: انثرها لأبي طلحة. قال: ويُشرِف نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَنظُر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، لا تُشرف، لا يُصِبك سَهم مِن سهام القوم، نحري دون نحرك. قال: ولقد رأيتُ عائشةَ بنت أبي بكر وأم سُلَيم، وإنهما لمشمرتان، أرى خَدَم سوقهما -أي الخلاخيل- تنقلان القِرَب على متونهما -أي ظهورهما-، ثم تُفرغانه في أفواههم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان تُفرغانه في أفواه القوم”.
وفيه أيضًا عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: “غَزَوتُ مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات أَخلُفُهُم في رِحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأَقُوم على المرضى”.
وروى ابن سعد في “طبقاته” (8/ 305، ط. دار الكتب العلمية): “أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في أم عمارة نسيبة بنت كعب: إنه في يوم أُحُد ما التفتَ يمينًا ولا شِمالًا إلا ورآها تقاتل دونه”.
وأما عن مشاركة المرأة في العلم: فقد كان النساء يَحضُرن مجالس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويَتَعَلَّمن منه، حتى إنه خصهنّ بمجلس وحدهن؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ” رواه الشيخان -واللفظ للبخاري-. وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تُفتي المسلمين بحضرة الصحابة، ويُرجَع إليها في المعضلات.
قال الإمام ابن القيِّم في “إعلام الموقعين” (1/ 17-18، ط. دار الكتب العلمية): [وأما عائشة رضي الله عنه فكانت مُقَدَّمَةً في العلم والفرائض والأحكام والحلال والحرام، وكان مِن الآخذين عنها الذين لا يكادون يتجاوزون قولَها المتفقهين بها: القاسمُ بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها، وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء.
قال مسروق: لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونها عن الفرائض.
وقال عروة بن الزبير: ما جالست أحدًا قط كان أعلم بقضاء ولا بحديث بالجاهلية ولا أروى للشعر ولا أعلم بفريضة ولا طب مِن عائشة رضي الله عنها] اهـ.
وقد سَجَّل التاريخ مِن بعدها عددًا كبيرًا مِن النساء اشتغلن بالعلم وصِرنَ مِن المبَرَّزات في الحديث والفقه وغيرهما مِن علوم الشريعة، حتى إن جمعًا مِن الحفاظ الكبار والمحدثين قديمًا وحديثًا ذكروا في مشيختهم عددًا من الشيخات النساء العالمات ممن تلقوا عنهم العلم ورواية الحديث، منهم: الإمام مالك بن أنس وأحمد بن حنبل والسمعاني وابن عساكر وابن الجوزي وابن حزم وابن القيم والذهبي والمنذري وابن حجر العسقلاني.
ومن هؤلاء النسوة مَن لُقِّبَت بمُسنِدة الوقت، ومنهن مَن لُقِّبَت بمُسنِدة الدنيا، ومنهن مَن لُقِّبَت بمُسنِدة أصبهان، ومنهن مَن لُقِّبَت بمُسنِدة العراق، ومنهن مَن لُقِّبَت بمُسنِدة القاهرة، ومنهن مَن لُقِّبَت بمُسنِدة الشام.
وأما عن مشاركة المرأة في الحياة السياسية؛ فقد روى الطبراني في “معجمه الكبير”: “أن سمراء بنت نهيك الأسدية كانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت تَخرج عليها دِرعٌ غليظٌ وخمارٌ غليظٌ، وبيدها سوط، تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر” اهـ. قال الهيثمي في “المَجمَع” (9/ 264، ط. دار الريان للتراث): رجاله ثقات.
وروى ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل الشفاء بنت عبد الله العدوية على السوق؛ قال الحافظ ابن عبد البر في “الاستيعاب” (4/ 1868-1869، ط. دار الجيل): [أَسلَمَت الشفاءُ قبل الهجرة، فهي مِن المهاجرات الأُوَل، وبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانت مِن عقلاء النساء وفضلائهن، وكان عمر يُقَدِّمها في الرأي ويرضاها ويفضلها، وربما ولَّاها شيئًا مِن أمر السوق] اهـ.
وقد سَجَّل لنا التاريخ تولي بعض النساء لشؤون الدولة وإدارتهن الحكم بنجاح، ومنهن: شجرة الدر أم خليل الصالحية في مصر، ورضية السلطانة بنت السلطان شمس الدين ألتمش من ملكات الهند وهي خامس ملوك دولة المماليك بالهند، وتولت “سكندر بيكم” -بنت نظر محمد بن وزير محمد خان إمارة بهوبال بالهند-، وبعد وفاتها تولت ابنتها “شاه جهان بيكم” إمارة البلد -وهي زوج السيد صديق حسن خان القِنَّوجي البخاري-، ثم تولت بعدها ابنتها “سلطان جهان بيكم”.
ولكن إن أبى الأب أن يزوجها مطلقًا ممن ترغب فيه مِن الأَكفاء سقطت ولايته عنها عند الجميع؛ لأن أصل شرع الولاية هو المصلحة لا الإضرار، وذلك هو ما يسمى بـ عَضْل الولي؛ قال الإمام الشافعي في “الأم” (5/ 14، ط. دار المعرفة): [العَضْل أن تدعوَ -أي المرأة- إلى مثلها أو فوقها، فيمتنع الولي] اهـ.
وقال العلامة ابن قُدامة في “المغني” (7/ 24، ط. دار إحياء التراث العربي): [ومعنى العَضْل: منع المرأة مِن التزويج بكُفئها إذا طَلَبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه] اهـ.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 232]، وهذا نهيٌ لأولياء المرأة عن أن يمنعوها مِن نكاح مَن ترضاه مِن الأَكفاء، فإن فعلوا كان هذا هو العَضْل المنهي عنه.
قال الإمام الشافعي “الأم” (5/ 178): [وفي هذه الآية الدلالةُ على أن النكاح يتم برضا الولي والمُنكَحَة والناكح، وعلى أن على الولي أن لا يَعضُل، فإذا كان عليه أن لا يعضل فعلى السلطان التزويج إذا عضل؛ لأن مَن منع حقًّا فأمْرُ السلطان جائز عليه أن يأخذه منه وإعطاؤه عليه] اهـ.
وقد روى البخاري في “صحيحه”: أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَخَطَبَهَا، فَأَبَى مَعْقِلٌ؛ فنزلت: ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة: 232].
وقد تَعَرَّض الفقهاء لذلك في كتبهم؛ فمنهم مَن قال: إن عَضْلَ الولي يجعل الولاية تنتقل إلى ولي الأمر، ومنهم من قال: إنها تنتقل إلى الأبعد من الأولياء.
قال العلامة الكاساني في “بدائع الصنائع” (8/ 252، ط. دار الكتب العلمية) -مِن كتب الحنفية-: [الحُرَّةُ البالغة العاقلة إذا طلبت الإنكاح مِن كُفء وَجَب عليه -أي وليها- التزويج منه؛ لأنه منهي عن العَضْل، والنهي عن الشيء أمر بضده، فإذا امتنع فقد أضر بها، والإمام نُصِب لدفع الضرر، فتنتقل الولاية إليه] اهـ.
وقال في “الإقناع” وشرحه “كشاف القناع” للعلامة البهوتي (5/ 54، ط. دار الكتب العلمية): [فإن كان الأقرب مِن الأولياء ليس أهلًا للولاية.. أو عَضَل الأقربُ زَوَّجَ الأبعدُ يعني: مَن يلي الأقرب مِن الأولياء؛ لأن الولاية لا تثبت للأقرب مع اتصافه بما تقدم، فوجوده كعدمه، ولتَعَذُّر التزويج مِن جهة الأقرب بالعَضْل جُعِل كالعدم؛ كما لو جُنّ. فإن عَضَل الأبعد أيضًا زَوَّجها الحاكم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَها»، والعَضْلُ: مَنعُها أن تتزوج بكُفءٍ إذا طلبت ذلك ورغب كلٌّ منهما في صاحبه بما صح مهرًا ولو كان بدون مَهرِ مِثلِها] اهـ.
وعليه: فتَشَدُّدُ الآباء في أمر زواج البنات عند توفر الخاطب المناسب بلا مبرِّر أو بمبررات تافهة مع رغبة البنت في الزواج حرامٌ مَنهيٌّ عنه؛ لما فيه مِن الظلم وفتح أبواب الفساد في المجتمع؛ وقد روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «يَا عَلِيُّ، ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاةُ إِذَا آنَتْ، وَالجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْئًا».
وروى الترمذي في “سننه” -بلفظه- وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»؛ قال العلامة المناوي في “فيض القدير” (1/ 243، ط. المكتبة التجارية الكبرى بمصر): [المراد: إن لم تزوجوا مَن ترضون ذلك منه، ونظرتم إلى ذي مال أو جاه، يبقى أكثر النساء بلا زوج والرجال بلا زوجة، فيكثر الزنا ويلحق العار، فيقع القتل ممن نسب إليه العار، فتهيج الفتن وتثور الِمحَن] اهـ.
وكذلك فإنه ليس للأب أن يَمنع ابنته مِن العلاج إن أرادت تحصيله؛ لما في ذلك المنع مِن خروجٍ عن مقتضيات ولايته ولوازمها مِن كمال الشفقة وتمام الرعاية، بل يجب عليه ما دام مستطيعًا أن يتكفل لها بالدواء والتطبيب، ما دامت البنت تحت رعايته وفي كفالته؛ لأنه يلزمه كفايتها من كل وجه، وقد نَصَّ العلماء على أن ذلك يدخل ضِمن النفقة الواجبة للولد على أبيه.
قال الإمام الرملي في “نهاية المحتاج” (7/ 218، ط. دار الفكر): [يَلزمه أي الفَرع الحر نفقةُ؛ أي: مؤنة حتى نحو: دواء وأجرة طبيب الوالد.. وإن علا، ويلزم الأصلَ الحرَّ.. مؤنةُ الوَلَد.. وإن سفل ولو أنثى كذلك] اهـ.
فعلى الآباء وأولياء الأمور أن يتقوا الله تعالى في بناتهم وأن يتصرفوا معهن بما تقتضيه مصالحهن العامة والخاصة، وبما يقتضيه وصف الأنوثة القائم فيهن من لزوم الرعاية الدائمة، وأن يستحضروا ما في ذلك مِن الثواب الجزيل عند تحققه، والوعيد الأكيد عند تخلفه؛ وقد روى الشيخان في “صحيحيهما” عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» الحديث. وروى البيهقي في “سننه الكبرى” عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ».
وروى البخاري في “صحيحه” عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ».
وروي عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: -وذكر منهم- رَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ». وبَوَّبَ عليه البخاري: (باب تعليم الرجل أمته وأهله).
قال الإمام ابن حجر في “الفتح” (1/ 190، ط. دار المعرفة بيروت): [قوله: باب تعليم الرجل أمته وأهله، مطابقةُ الحديث للترجمة في الأمة بالنَّص وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسُنَن رسوله آكد مِن الاعتناء بالإماء] اهـ.
وعلى البنات أيضًا أن يتلطفن في طلب حقوقهن مِن آبائهن، وأن يتوصلن إليها باستطابة أنفسهم ما أمكن؛ لأنه إن كان أداء الحقوق واجبًا على الآباء للأبناء لم يَلزم من وجوب الحق عليهم للأبناء جواز إذاية الآباء عند استيفاء ذلك الحق.
وقد قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۞ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23-24]، فبالغ سبحانه في التوصية بهما حيث شفع الإحسانَ إليهما بتوحيده، وأمر بإكرامهما والتلطف إليهما بالخطاب الجميل الليِّن الذي يقتضيه حُسن الأدب، وضيَّق الأمر في مراعاتهما حتى لم يُرَخِّص في أدنى كلمة تنفلت مِن المتضجر مع موجبات الضجر، ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها؛ وقال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: 8]، وقال تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]؛ أي: مصاحبة حسنة بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة.
وروى الترمذي في “سننه” -وصححه- عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ».
وروى ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما حق الوالدين على ولدهما؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ». وقال سفيان الثوري: ما بَرَّ والديه مَن شَدّ النظر إليهما.
وقد نَصّ فقهاء المالكية على أن الولد لا يحلف أبوه إذا وجب له قبله يمين؛ قال الشيخ عليش في “منح الجليل” (6/ 58، ط. دار الفكر): [قال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وسحنون: لا يقضي بتحليفه أباه، ولا يُمَكّن منه إن ادعى إليه، ولا أن يحده في حد يقع له عليه؛ لأنه من العقوق، وهو مذهب مالك رضي الله تعالى عنه] اهـ.
هذا كله لبيان عظيم حق الوالد على ولده، وأنه لا بد من سلوك المسلك الملائم معه في تحصيل الحقوق دون مساس بمنزلته أو كسر لخاطره.
والله سبحانه وتعالى أعلم
الرقم المسلسل : 4828
التاريخ : 14/04/2009