مساحة للاختلاف

الدكتور قدري حفني يكتب : الديانة والشخصية القومية

كثيرا ما يوجه إلي سؤال‏:‏ تري ما هي أهم خصائص الشخصية اليهودية؟

وتكون إجابتي دائما هي أنه استنادا لتراث علم النفس بفروعه المتعددة لا يمكن الحديث عن شخصية يهودية, ولقد قامت أطروحتي للدكتوراة التي كانت عن الشخصية الإسرائيلية: الأشكنازيم علي نفي مقولة إن لليهود شخصية قومية ثابتة رغم تباين التاريخ والمكان بالنسبة للجماعات اليهودية التي تتعدد انتماءاتها القومية لما يزيد علي المائة. ولا يقتصر الأمر بالنسبة للشخصية القومية علي ما يتعلق باليهود وحدهم, فبنفس المعيار يستحيل الحديث عن شخصية إسلامية أو شخصية مسيحية.

ونشهد اليوم في خطاباتنا السياسية تصاعدا ملحوظا لتعبير الشخصية اليهودية; و ربما ارتبط ذلك بما تشهده بلادنا من تصاعد الحديث عن هوية مصر الإسلامية السنية, وما نشهده في إسرائيل من تكريس لمفهوم الدولة اليهودية, بحيث يصبح الحديث في مجمله متسقا متكاملا لا يثير تعجبا.

وإذا تركنا جانبا قضية دين الدولة كقضية كانت وما زالت مثارا للجدل السياسي مما يخرج عن نطاق تخصصنا الدقيق; فإن الحديث عن شخصية الجماعة أمر يحتل مكانة محورية في تخصص علم النفس الاجتماعي والسياسي.

ورب من يتساءل: تري وماذا عن ذلك الكم الهائل من الكتابات عن شخصية يهودية أو مسيحية أو مسلمة؟ إنها في حقيقة الأمر- أحاديث عما ينبغي أن تكون عليه شخصية الفرد من خلال استقراء للنصوص المقدسة و استنباط الملامح السلوكية التي ينبغي أن تميز أتباع تلك الديانات. وبطبيعة الحال فإن القارئ المدقق لمثل تلك الكتابات سوف يكتشف بسهولة أنها تختلف بل تتناقض باختلاف انتماءات القائلين بها, فيتأرجح تصور شخصية النحن الدينية من غاية الاكتمال الحائز علي جميع الفضائل, إلي شخصية الآخر الدينية التي تحوي كل صفات الانحطاط والرذائل. بعبارة أخري فإن ملامح الشخصية اليهودية مثلا في خطابنا تختلف تماما إلي حد التناقض في الحديث عن ملامح تلك الشخصية من وجهة نظر من يروجون لفكرة تميز العرق اليهودي.

وليس من شك في أن مثل تلك الكتابات تلعب دورا لا ينكره أحد في تماسك الجماعات و تمايزها عن الآخرين الأشرار, و كذلك في طرح هدف سلوكي مثالي لأفراد الجماعة. وغني عن البيان أن هذه التصورات لا بد وأن تقوم علي التعميم أو بالتعبير العلمي علي ترسيخ ما يعرف بالصور النمطية.

وفي المقابل فإن العلوم الاجتماعية جميعا وليس علم النفس فقط تنفر كأشد ما يكون النفور من المثاليات والتصورات النمطية الجامدة, ولا تقيم معرفتها الموضوعية علي شيء من ذلك قط, بل تقوم أساسا علي الرصد العلمي الدقيق لسلوك البشر في عالم الحياة الواقعية.

إن نظرة متأنية إلي أي جماعة إنسانية ــ بالمعني العلمي لمصطلح الجماعة ــ تكشف عن خاصتين بارزتين:

أولا: إن بين أفراد تلك الجماعة قدر لا يمكن التغاضي عنه من الاختلاف في كل نواحي التكوين النفسي و الخلقي بحيث إننا لا يمكن أن نجد ــ في أي جماعة إنسانية- شخصين متماثلين تمام التماثل من حيث تلك التكوينات, حيث يختلف أفراد الجماعة عن بعضهم البعض في كل شيء تقريبا: القدرات العقلية, وخصائص الشخصية, والخصائص الجسمية والاتجاهات والقيم إلي آخره.

ثانيا: إن بين أفراد تلك الجماعة قدر لا يمكن التغاضي عنه من التشابه في كل نواحي التكوين النفسي أيضا, بمعني أننا لابد واجدون قدرا مشتركا بين كل أفراد تلك الجماعة فيما يتصل بقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وإن كان ذلك القدر يتفاوت من جماعة إلي أخري كما يتفاوت أيضا من فرد إلي آخر من بين أعضاء نفس الجماعة.

هاتان الخاصيتان تتوفران في كل الجماعات الإنسانية دون استثناء, ولعل الخاصية الثانية- أعني خاصية التشابه- هي الأجدر بالتوقف أمامها فيما يتصل بموضوعنا. و يكاد كافة علماء النفس أن يجمعوا علي أن ذلك التشابه في العادات والتقاليد والقيم واتجاهات الرأي العام وما إلي ذلك إنما هي جميعا أمور يكتسبها المرء من بيئته الاجتماعية عبر ما يعرف بعملية التنشئة الاجتماعية, بمعني أن المجتمع يعلم أبناءه عبر توالي الأجيال ما يود غرسه فيهم من عادات وتقاليد وقيم واتجاهات وما إلي ذلك, مما يعني مباشرة استحالة أن يكون ثمة تشابه في الخصائص النفسية بين أفراد جماعة بشرية معينة إلا بقدر تشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية المحيطة بتلك الجماعة.

اليهود إذن شأنهم شأن غيرهم من أصحاب العقائد الدينية- يتباينون في قراءتهم لعقيدتهم, ويتباينون في أنماط سلوكهم وأفكارهم وقيمهم وأخلاقهم بتباين انتماءاتهم القومية, و تباين تواريخهم الاجتماعية الثقافية السياسية بل الشخصية أيضا; فمنهم العلماني والمتدين; ومنهم المتطرف والمتشدد والوسطي; ومنهم المسالم والمحارب;

خلاصة القول إن أحدا لا يستطيع أن يضع جميع من ينتسبون لدين معين في سلة سلوكية واحدة, أو أن يتصور أن لهم شخصية قومية واحدة, حتي لو كان ذلك الدين هو الدين اليهودي.

اظهر المزيد

د. قدري حفني

(13 أغسطس 1938 – 6 مايو 2018) .. أستاذ علم النفس في جامعة عين شمس، وأحد أبرز المتخصصين في علم النفس السياسي بالعالم العربي. حصل على ليسانس الآداب، قسم علم النفس من جامعة عين شمس، والماجستير فى عام 1971، والدكتوراه فى عام 1974، وقد شغل عدة مناصب أكاديمية بجامعات ومعاهد مصر والعالم العربى. أسس وتولى رئاسة وحدة الدراسات الاستراتيجية بجامعة عين شمس، وعمل مستشارًا لعدة مؤسسات عربية ودولية متخصصة، ومثَّل مصر في الملتقى الأوروبي العربي بإسبانيا، وشارك في مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991م بجانب مشاركته في العديد من الفعاليات العربية والدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى