ياسر حسني يكتب : صفحات من «الملفات السرية»
ليس تحيزًا له، أن نقول أن جهاز المخابرات العامة المصرية ولد عملاقا.. ونافس الأجهزة التي سبقته في عقر دارها وفاز عليهم.
هذه الكلمات ليست مبالغة ولكنها حقيقة ترصدها الملفات السرية لآلاف العمليات الناجحة التي نفذتها المخابرات المصرية، سواء في كشف جواسيس المخابرات المعادية او زرع العملاء أو القبض على الخونة حتى لو كانوا خارج حدود مصر الجغرافية.
إذ أن حدود “جهاز المخابرات العامة وأذرعه تحيط العالم كله من أقصاه إلى أدناه ولا تعوقها الحدود ولا السدود، فحيث يكون “الأمن القومي المصري” تجد أحد هؤلاء الرجال المخلصين يضحي بكل غال ونفيس في سبيل الوطن.
كنا نتمنى أن ننشر كل ما حققته المخابرات المصرية على مدار سنوات عمرها الـ 76 ولكن للأسف غير مسموح به لاعتبارات السرية والأمن القومي، لذا نكتفي بتلك الصفحات البسيطة والمحدودة من ملفات عمليات المخابرات المصرية الناجحة غير المحدودة
عملية سوزانا
إحدى أشهر عمليات المخابرات على المستوى المصرى – الإسرائيلى وربما على المستوى العالمى أيضا، جرت العملية في أوائل الخمسينيات في مصر، وتحديا في عام 1954 بعد أشهر قليلة من تأسيس المخابرات العامة المصرية ولذلك لها مكانة خاصة حيث تعد سببا رئيسيا في الكشف عن امتلاك مصر لذراع مخابراتي يجب أن يخشاه الجميع، حتى أن اسرائيل اضطرت بعدها لسحب جميع عملائها من الدول العربي ووقف النشاط مؤقتا لإعادة دراسة الوضع!!
يطلق عليها أيضا «فضيحة لافون» في إشارة إلى بنحاس لافون وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق، ولكن اسمها الكودي في المخابرات الاسرائيلية هو «سوزانا».
تم التخطيط للعملية بحيث يقوم مجموعة من الشباب الإسرائيلى المدرب بتخريب بعض المنشآت الأمريكية والبريطانية، الموجودة في مصر بهدف زعزعة الأمن المصرى وتوتير الأوضاع بين مصر وأمريكا وكذلك بينها وبين بريطانيا وافساد مباحثات الجلاء التي كانت تتم على قدم وساق.
كان بنحاس لافون قد تولى مهام منصبه وزيرا للدفاع الاسرائيلي خلفا لرئيس الوزراء ووزير الدفاع بن جوريون، وكانت الحكومة الاسرائيلية الجديدة برئاسة موشى شاريت تشعر بأن وضع امريكا وبريطانيا في المنطقة بشكل عام ومصر بشكل خاص لا يبشر بالخير وربما ينسحبون ويتركونها تواجه الدول العربية بمفردها
وبتكليف مباشر من “لافون” وضعت المخابرات العسكرية في الجيش الإسرائيلى، خطة للتخريب والتجسس في مصر تقوم باعتداءات على دور السينما والمؤسسات العامة، وبعض المؤسسات الأمريكية والبريطانية، وكان الأمل معقودا على أن تؤدى هذه الأعمال إلى توتر العلاقات المصرية الأمريكية، وعدول بريطانيا عن إجلاء قواتها من السويس.
وفى يوم الأربعاء الثانى من يوليو ١٩٥٤، انفجرت فجأة ثلاثة صناديق في مبنى البريد الرئيسى في الإسكندرية ملحقة أضرارًا طفيفة وعثرت السلطات المصرية على بعض الأدلة عبارة عن:
– علبة أسطوانية الشكل لنوع من المنظفات الصناعية كان شائعا في هذا الوقت اسمه «فيم».
– جراب نظارة يحمل اسم محل شهير في الإسكندرية يملكه أجنبى يدعى «مارون أياك».
وكان من تولى التحقيقات هو الصاغ ممدوح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة والذي كان يعلم بتأسيس جهاز أمني جديد تحت رئاسة زميله “زكريا محيي الدين”، فقام بابلاغه بما توصل إليه من تحريات.
وفى الرابع عشر من يوليو انفجرت قنبلة في المركز الثقافى الأمريكى (وكالة الاستعلامات الأمريكية) في الإسكندرية. وعثر في بقايا الحريق على جراب نظارة مماثل لذلك الذى عثر عليه في الحادث الأول، وبرغم أن السلطات المصرية أشارت إلى أن الحريق ناتج عن «ماس كهربائي»، إلا أن رجال جهاز المخابرات العامة “الوليد” نشطت في محاولة لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حتى تكشف من يقف وراء هذه العمليات التخريبية.
وفى مساء اليوم نفسه انفجرت قنبلة أخرى في المركز الثقافى الأمريكى بالقاهرة وعثر على جرابين من نفس النوع يحتويان على بقايا مواد كيميائية.
وانتشرت عناصر تابعة لأجهزة الأمن المصرية (المخابرات العامة – الداخلية) بشكل مكثف في القاهرة وفي محيط الأماكن التي حدثت بها التفجيرات أو يشتبه في تعرضها لعمليات مماثلة.
وفى الثالث والعشرين من يوليو (الذكرى السنوية الثانية للثورة) كان من المفترض وضع متفجرات في محطة القطارات ومسرح ريفولى بالقاهرة ودارى السينما (مترو وريو) في الإسكندرية، إلا أن العميل اليهودي المكلف بوضع المتفجرات بدار سينما ريو ارتبك بسبب الوجود الأمني الذي شعر بأنه غير طبيعي، فكادت العبوة أن تنفجر في ملابسه، بعدما حاول اخفائها، وأنقذه المارة
وبالطبع رصده رجال الشرطة والمخابرات المحيطين بالمكان، فاصطحبه أحدهم إلى المستشفى بدعوى إسعافه من آثار الحريق، وهناك قال الأطباء إن جسم الشاب ملطخ بمسحوق فضى لامع وأن ثمة مسحوقا مشابها في جراب نظارة يحمله في يده ورجح الأطباء أن يكون الاشتعال ناتجا عن تفاعل كيميائي.
وبتفتيش الشاب عثر معه على قنبلة أخرى عليها اسم «مارون أياك» صاحب محل النظارات. وتم اعتقاله.
وبمواصلة التحريات بالتنسيق بين المخابرات العامة والبوليس المصري، تم القبض على:
صمويل باخور عازار يهودى الديانة يبلغ من العمر ٢٤ عاما مهندس وهو مؤسس خلية الإسكندرية وزعيمها لبعض الوقت قبل أن يتنازل عن الزعامة لفيكتور ليفى الذى يفوقه تدريبا.
ومن اعترافات عازار وصلت السلطات إلى ماير موحاس ذى الأصل البولندى وهو يهودى الجنسية عمره ٢٢ عاما يعمل كوسيط تجارى (مندوب مبيعات).
وكان أخطر ما اعترف به موحاس هو إشارته إلى جون دارلينج أو أبراهام دار الذى اتضح فيما بعد أنه قائد الشبكة ومؤسس فرعيها بالقاهرة والإسكندرية وأحد أخطر رجال المخابرات الإسرائيلية في ذلك الوقت.
في أعقاب سقوط الشبكة في مصر وما صاحبها من دوى عالمى أصدر موشى ديان رئيس الأركان في ذلك الوقت قرارا بعزل مردخاى بن تسور من قيادة الوحدة ١٣١ وتعيين يوسى هارئيل بدلا منه
ونتيجة المهارة والسرعة التي أظهرها رجال الأمن المصري “المخابرات والبوليس”، واكتشاف اسرائيل أن مصر صار لديها جهاز مخابراتي أعلن عن ميلاده بقوة، سارع “هارئيل” باستدعاء جميع عملاء اسرائيل في البلاد العربية وأوقف جميع النشاطات، لحين دراسة الوضع الجديد بعد ظهور “المخابرات العامة المصرية”.
في الحادى عشر من ديسمبر عام ١٩٥٤ جرت محاكمة أفراد الشبكة في محكمة القاهرة العسكرية التى أصدرت أحكامها كالتالي:
الإعدام شنقا لموسى ليتو مرزوق وصمويل بخور عازار (تم تنفيذ الحكم في ٣١ يناير ١٩٥٥).
الأشغال الشاقة المؤبدة لفيكتور ليفى وفيليب هرمان ناتاسون.
الأشغال الشاقة لمدة ١٥ سنة لفيكتورين نينو وروبير نسيم داسا.
الأشغال الشاقة لمدة ٧ سنوات لماير يوسف زعفران وماير صمويل ميوحاس.
براءة إيلى جاكوب نعيم وسيزار يوسف كوهين.
وتجاهل الحكم ماكس بينت لأنه كان قد انتحر في السجن!، وأعيدت جثته لإسرائيل بعد ذلك بأعوام.
في أعقاب المحاكمة حاولت إسرائيل استرضاء مصر للإفراج عن التنظيم بعد أن وصل الشارع الإسرائيلى إلى مرحلة الغليان، والعجيب أن الولايات المتحدة وبريطانيا اشتركتا في هذا الطلب فقد بعث الرئيس الأمريكى ايزنهاور برسالة شخصية إلى الرئيس عبدالناصر يطلب الإفراج عن المحتجزين «لدوافع إنسانية» وبعث أنتونى إيدن وونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطانى ومسئولين فرنسيين بخطابات وطلبات مماثلة غير أنها جميعا قُوبلت بالرفض المطلق.
وفى ٣١ يناير ١٩٥٥ تم تنفيذ حكمى الإعدام في موسى ليتو مرزوق (دُفن بمقابر اليهود بالبساتين) وصمويل بخور عازار (دُفن بمقابر اليهود بالإسكندرية) وعلى الفور أعلنهما موشى شاريت «شهداء».. ووقف أعضاء الكنيست حدادا على وفاتهما وأعلن في اليوم التالى الحداد الرسمى ونكست الأعلام الإسرائيلية وخرجت الصحف بدون ألوان وأطلق اسما الجاسوسين على شوارع بئر سبع.
واستمرت الفضيحة في إسرائيل..
فقد اتضح أن موشى شاريت رئيس الوزراء لم يكن على علم بالعملية على الإطلاق!، وكان لا بد من كبش فداء واتجهت الأنظار إلى بنحاس لافون وزير الدفاع الذى أنكر معرفته بأى عملية تحمل اسم «سوزانا»!.. وتم التحقيق معه لكن التحقيق لم يسفر عن شيء.
واستقال بنحاس لافون من منصبه مجبرا وعاد بن جوريون من جديد لتسلم وزارة الدفاع، كما عزل بنيامين جيلبى مسئول شعبة المخابرات العسكرية ليحل محله نائبه هركافى.
وفى بداية عام ١٩٦٨ تم الإفراج عن سجناء القضية ضمن صفقة تبادل للأسرى مع مصر في أعقاب نكسة يونيو. واستقبلوا في إسرائيل «استقبال الأبطال» وحضرت رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير بنفسها حفل زفاف مارسيل نينو بصحبة وزير الدفاع موشى ديان ورئيس الأركان.
وتم تعيين معظم هؤلاء الجواسيس في الجيش الإسرائيلى كوسيلة مضمونة لمنعهم من التحدث بشأن القضية.
وبعد ٢٠ سنة من أحداث عملية سوزانا ظهرت مارسيل نينو وروبير داسا ويوسف زعفران للمرة الأولى على شاشة التليفزيون الإسرائيلى وهاجموا الحكومات الإسرائيلية التى لم تكلف نفسها عناء البحث عن طريقة للإفراج عنهم!!.
اعتصار “باروخ مزراحي”
ليس سهلا أن تقبض على ضابط مخابرات معاد وتحاكمه وتضعه في السجن لديك، فهذا مكسب كبير تحققه لأن بالتأكيد ضابط المخابرات لديه الكثير من الأأسرار التي ستساعدك في تحقيق الانتصارات وكشف اساليب المخابرات المعادية في تجنيد عملائها وقد تتمكن من خلاله في كشف شبكات تجسس مجهولة ربما يستغرق كشفك لها سنوات عدة.
ولهذا تسجل الملفات السرية للمخابرات العامة المصرية عملية القبض علي ظابط المخابرات الإسرائيلي “باروخ زكي مزراحي” والتي نفذها الثعلب المصري “رفعت جبريل، بكل فخر واعتزاز.
البداية باليمن
القصه بدأت عندما كلف الموساد “مزراحي” بالسفر إلى اليمن تحت غطاء دبلوماسي كويتى (بجواز سفر مزور) واشتبه فيه بعض ضباط الأمن فى اليمن وقاموا بإلقاء القبض عليه
وبتفتيش منزله عثر معه على أفلام وصور لبعض القطع الحربية التى تعبر من مضيق باب المندب، فتم إعادة استجوابه ولكنه قام باختلاق قصة أنه من دولة الكويت ويعمل فى جريدة كويتية وهذه الصور ضمن عملا صحفيا!
وقام رجال الأمن اليمنيين باجراء تحريات عن هذا الاسم ولم يجدوا له أي بيانات فبدأت الشكوك تساور رجال الأمن، وتم على الفور الاتصال بجهاز المخابرات المصرية للاستعانة به في فك ألغاز القضية واستجواب “مزراحي” بشكل محترف.
وتم تكليف ظابط المخابرات المصرى رفعت جبريل، بهذه المهمة مع نشاط آخر لعملاء المخابرات المصرية في اسرائيل، والذين توصلو لأن الموساد يخطط لتنفيذ عملية واسعة لتخليص رجل الموساد من السجن اليمني مهما كلفه الأمر.
احضار ضابط الموساد
وعلى الفور وصلت المعلومات لـ”الثعلب” الذي عرض على أجهزة الأمن اليمنية أن تسلمه “العميل الاسرائيلي” ليعود به إلى مصر واستجوابه بمعرفة المخابرات العامة المصرية على أن يتم تبادل المعلومات والتنسيق مع الأجهزة اليمنية، وهو العرض الذي لقي ترحيبا وتفهما من السلطات اليمنية.
وبالفعل بدأت رحلة احضار “ضابط الموساد” إلى مصر، في نفس الوقت الذي وصلت فيه وحدة اسرائيلية كاملة لإنقاذ رجلها لتدور واحدة من أروع عمليات المخابرات المصرية ورجالها ، ولكنها للأسف غير مصرح بنشر تفاصيلها حتى اليوم.
وانتهت المغامرة “السرية” بعبور الثعلب المصري والعميل الإسرائيلي طريق الصحراء والوديان وصولا إلى البحر الأحمر، وهناك تم إلتقاطه بغواصة مصرية، طاردتها هي الأاخرى المقاتلات الاسرئيلية وبالرغم من ذلك لم يستطعوا إنقاذ جاسوسهم (وهذه ايضا واحدة من المطاردات العسكرية المشوقة والمثيرة جدا والسرية أيضا غير المصرح بنشر تفاصيلها).
ولك أن تتخيل كم الفخر الذي شعرت مصر والحسرة التي طالت إسرائيل، حينما تعلم أنه على مدار تاريخ اجهزة الاستخبارات في العالم لم يتم القبض سوى على عدد محدود جدا من ضباط المخابرات وسقوطهم في أيدي مخابرات معادية.
وتأتي خطورة ذلك في أن الجاسوس مهما كانت أهميته لا يعلم إلا التفاصيل المكلف بها من قبل ضابط الحالة أو ضابط الاتصال المسئول عنه، أما رجل المخابرات فهو كنز متحرك من المعلومات والأسرار.
وصول مزراحي
كانت المخابرات المصرية، عند تسلم “جبريل” للعميل الاسرائيلي، لا تعلم شخصيته وأهميته ولكنها كانت مدركة لخطورة بسبب المعلومات والمطاردات التي تمت بسببه، فنشط رجالها في كل مكان بحثا عن طرف خيط يقودهم للحقيقة.
وعند وصول “مزراحي” إلى مصر كان فى ذلك الوقت يقوم بتجهيز خطة بديلة لنفسه، مثل اسم وحياة وهمية كما فعل فى اليمن، ولكن كانت هناك مفاجأة تنتظره خلال التحقيقات معه.
فمن خلال عملاء وجواسيس المخابرات المصرية في اسرائيل تم التوصل لحقيقة هذا العميل، ومعرفة أنه ضابط بالموساد الاسرائيلي واسمه الحقيقي “باروخ مزراحي”، وحتى يحسم رئيس فريق التحقيقات الأمر ويختصر الوقت الذي سيضيع في سرد عشرات القصص الوهمية التي يتدرب عليها اي ضابط مخابرات لالقائها في لحظات الخطر أو القبض عليه، قال له: “لقد قامت زوجتك بوضع مولودها الآن وهو بحالة جيدة جدا يا باروخ”!
وعندما استمع إلى هذه الكلمات، انهار “مزراحي” تماما واعترف بكل وأدق التفاصيل والأسرار التي ساعدت في تطوير خطة الخداع الاستراتيجي ومنظومة العمل داخل المخابرات المصرية وكذلك ساعدت في حسمها الكثير من العمليات لصالحها ضد الموساد الاسرائيلي.
الزنزانة ستة
وتم حبس “باروخ مزراحي” في الزنزانة رقم (ستة) بأحد السجون المصرية، بموافقة السلطات اليمنية، وكان “ضابط الموساد” يحاول إقناع نفسه بأنه سيخرج قريبا وأن دولته لن تتركه سوى لأيام قليلة.
ولكن بعد انتصار أكتوبر73 أدرك لحظتها أن عقوبته الرادعة التي يقضيها في السجون المصرية ستطول وتطول إلى ما لا نهاية.. وزاد اكتئابه بعد أن نما إلى علمه في 4 ديسمبر 73، أن المخابرات المصرية رفضت مقايضته بالعقيد السوفيتي، وضابط الكي جي بي الشهير “يوري لينوف” المعتقل في “إسرائيل” بتهمة التخابر، والتجسس لصالح المعسكر الأحمر.
وفي الرابع من مارس 74، ومع بزوغ أول ضوء تحركت من أمام بوابة السجن الضخمة قافلة سيارات تحمل لوحات دبلوماسية، زجاجها مغطى بستائر سوداء قاتمة. تقدمت الركب سيارة تحمل شعار الصليب الأحمر. واستغرقت الرحلة أربع ساعات كاملة، حتى أشرفت السيارات على شاطئ قناة السويس، وعبرت الممر المائي فوق أحد الجسور المتبقية منذ حرب أكتوبر، وسرعان ما دلفت إلى شبه جزيرة سيناء، وبدأت تنهب الطريق نهبا.
الطريق الأسفلتي يتلوى كالثعبان بين التلال الرملية المرتفعة، والسيارات العسكرية المتفحمة من مخلفات الجيش الاسرائيلي في حرب أكتوبر التي وضعت أوزارها منذ عدة أشهر فقط، تناثرت ذات اليمين وذات الشمال، وبين هذا الركام دبابات هالكة انخلع منها شعار صفيح مرسوم عليه نجمة داوود.
لكن جاسوس الموساد لم ير شيئا من كل ذلك فقد انكمش مثل القنفد خلف الستائر السوداء الثقيلة في انتظار مصيره المجهول..
واحة بالوظة
أخيرا توقفت السيارات في واحة بالوظة أمام القاعدة العسكرية المقامة على قارعة الطريق الرابط بين العريش والقنطرة وبورسعيد، وهناك تحت رعاية مسئولي “الصليب الأحمر” استلم رجال المخابرات المصرية 65 فدائيا فلسطينيا من سكان الضفة، وغزة، اعترف الناطق بلسان جيش الاحتلال في بيانه الصادر في ذات اليوم: “أنهم نفذوا عمليات فدائية، وأنشطة تجسس في غاية الخطورة لصالح المصريين”.
لكن ما لم يذكره البيان العسكري الصهيوني، وظل سرا لم يعلنه الجانب المصري الذي يفضل الكتمان وعدم التفاخر بإنجازاته، ويخدم وطنه في صمت، أن ضباط المخابرات العامة استلموا كذلك اثنين من أهم عملاء مصر في إسرائيل، وهما: عبد الرحمن قرمان، وتوفيق فايد البطاح.
كما لم يعلن البيان العسكري الاسرائيلي، أن “باروخ مزراحي” أحد كبار ضباط الموساد، ويعمل في وحدة “مسادا” – وحدة العمليات الخاصة – أرفع وحدات الموساد وأكثرها تدريبا وإطلاعا على الأسرار الدفينة.
نزيف معلومات
وفي مقر المخابرات العامة جرت عملية اعتصار “مزراحي”، حتى نزف بكل المعلومات التي في حوزته والتي اطلع عليها بحكم عمله. وتحت ضغط التحقيقات المهنية حصل المصريون على خريطة طريق تفصيلية توضح أساليب العمل والتجنيد التي تتبعها وحدة “مسادا”.. وكيف يزرعون جواسيسهم في الدولة الهدف.. وأسلوب تحرك العملاء لجمع المعلومات التي تهم تل أبيب.. وأنماط التأمين المتبعة بداية من تكوين أسرة، مرورا بالغطاء الاجتماعي، ثم تكوين الصداقات مع قيادات عسكرية وسياسية ومدنية!
وبعد الحصول على هذه المعلومات القيمة أصبح “باروخ مزراحي” اليهودي من أصل مصري المولود في حي الأزهر عام 1928، وأنهى دراسته في كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1948، قطعة أسفنج جافة، أو صدر نعجة ضامرة لا يروي ظمأ ولا يدر قطرة حليب واحدة. وكان المنطقي الإلقاء بكارت “مزراحي” المحروق لاستعادة اثنان من أبطال المخابرات العامة ساهما كثيرا في توفير معلومات في غاية الأهمية والحساسية ساعدت في وضع خطط حرب أكتوبر.
أخطر 20 جاسوسا في “تل أبيب”
عندما يعترف لك عدوك بالنصر، فأنت بالتأكيد حقق “نصرا مبهرًا وليس عاديا”.. وعندما يكون من بين أخطر 20 جاسوسا شهدته دولة أسرائيل في تاريخها يوجد 4 زرعتهم أو جندتهم المخابرات العامة المصرية، فهذا وسام يستحق أن نعلقه جميعا على صدورنا.
“الجواسيس – عشرون قضية تجسس على إسرائيل” واحد من أهم الكتب التي نشرت عن اختراقات أجهزة المخابرات للموساد الإسرائيلي وزرعها عملاء لها في قلب تل أبيب بعضهم كان قريبا جدا من قادة الدولة الصهيونية
تأتي أهمية هذا الكتاب لكون معداه متخصصين في شؤون الأمن، فـ “يوسي ملمان” عضو هيئة تحرير جريدة هارتس، باحث صحفي منذ عام 1975 خريج الجامعة العبرية وزميل باحث في جامعة هارفرد وعضو التجمع الدولي للصحفيين الباحثين في واشطن مؤلف أو شريك في تأليف ستة كتب منها جواسيس غير كاملين والإسرائليون الأوائل وكتب استخبارية أخرى.
أما شريكه في هذا الكتاب، فهو الصحفي “ايتان هابر” عضو هيئة تحرير جريدة يديعوت أحرنوت منذ عام 1960 وقام بتغطية الحروب الإسرائيلية وما تلاها من نشاطات أمنية، كما أنه عمل مديراً لمكتب رئيس الوزاء إسحاق رابين وألف العديد من الكتب منها: قاموس الأمن الإسرائيلي ومطاردة الأمير الأحمر والرحلة رقم (139) إلى عنتيبي.
إعتراف إسرائيلي
وتتضمن الكتاب اعتراف إسرائيل بـ4 عملاء زرعتهم المخابرات المصرية داخل دولة الاحتلال ضمن أهم 20 قضية تجسس ضدها، وهم: «كيبورل يعقوبيان، شموئيل باروخ، عبد الرحمن قرمان، ورأفت الهجان».
ويكفي لمعرفة أهمية وصدق المعلومات التي وردت به، أن كتاب “الجواسيس” ظل متنقلا لمدة 3 سنوات ما بين الرقابة العسكرية والشاباك والموساد والأمان، ثم نقل إلى دائرة الشئون الجنائية والأمنية في الادعاء العام الإسرائيلى لمراجعته وإقراره، ولم تتم الموافقة على نشره إلا بعد أن وافقت محكمة العدل العليا الإسرائيلية على نشره بحكم قضائي.
يعقوبيان.. «الحوت الضخم»
«كيبورك يعقوبيان أو يتسحاق كوتشـك» ولد في مصر عام 1938 لعائلة أرمينية، ودرس في المدارس المصرية وعند بلوغه سن العشرين عامًا توفى والده وأصبح العائل الوحيد للأسرة فتوقف عن الدراسة وعمل بالتصوير، رغم عدم إكمال تعليمه إلا أنه كان يتحدث 4 لغات بخلاف اللغة العربية وهى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والتركية
تم تجنيده بواسطة المخابرات العامة المصرية لزرعه داخل إسرائيل وتم تدريبه وإعداده لمدة عام كامل، وأعطى هوية جديدة باسم يتسحاق كوتشك يهودى من مواليد عام 1935 في اليونان.
سافر إلى البرازيل، ثم تقدم إلى مكتب الوكالة اليهودية بطلب هجرة إلى إسرائيل وتم قبول طلبه وأبحر من البرازيل إلى إسرائيل عن طريق إيطاليا ووصل ميناء حيفا في منتصف عام 1961.
تم تجنيده في سلاح النقل لجيش الدفاع الإسرائيلي، ثم عين سائقا لأحد الضباط الكبار في قيادة الدفاع المدني، وأرسل كما هائلا من المعلومات المهمة إلى المخابرات المصرية
ونظرا لخبرته السابقة كمصور قام بتصوير أهداف عسكرية مهمة، قبض على يتسحاق كوتشك بعد عدة سنوات من العمل مع المخابرات المصرية
وأثناء محاكمته وصفته صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأنه «حوت ضخم» لا يمكن لأجهزة الأمن الإسرائيلية القبض على العديد مثله، حكم عليه بـ18 عامًا سجنًا، وظل في السجن لمدة عامين فقط، وتم إطلاق سراحه في تبادل للأسرى، بضابط الموساد “مزراحي”.
باروخ.. الجاسوس الأرعن!
شموئيل سامى باروخ، رجل أعمال إسرائيلى، مولود في القدس لأب صيدلى والعائلة ثرية تعيش في الحى اليهودى بالقدس، بعد رحلة تنقلات استقرت في بريطانيا.
عاد في عام 1958 إلى إسرائيل مع زوجته وأولاده، وأقام في تل أبيب وأنشأ مصنعًا للنسيج في كريات جات باسم أرجدين للنسيج، ثم تعرض للإفلاس، وعلمت المخابرات العامة المصرية بوجود باروخ في جنيف وبتفاصيل حياته بالكامل ومنها حالته المالية المتدهورة
تم تجنيده للعمل لصالح مصر وتدريبه للعمل من داخل إسرائيل، وقدم معلومات اقتصادية وسياسية مهمة من خلال اتصالاته ومعارفه لعدة سنوات، إلا أن رعونته وثقته الزائدة بنفسه أدتا إلى القبض عليه ومحاكمته وحكم عليه بالسجن 18 عاما أمضى منها 10 سنوات ثم أفرج عنه خلال عفو لبعض السجناء.
عملية «جبرائيل»
عبد الرحيم قرمان، المولود 1938 لإحدى العائلات العربية الثرية والمحترمة في مدينة حيفا.
تعرف على أحد المصريين الذي قدمه إلى أحد ضباط المخابرات العامة، واستطاع بعد فترة أن يجنده ويدربه للعمل لصالح مصر، وكلف بمهام مهمة للغاية حسبما جاء بكتاب الجواسيس الإسرائيلى، منها تصوير سفن سلاح البحرية الإسرائيلى في حيفا وتصوير الصواريخ من طراز «جبرائيل»، وكانت من الأسرار العسكرية المهمة في جيش الدفاع الإسرائيلي.
في ربيع عام 1969، نجح قرمان في تجنيد عميل جديد للمخابرات المصرية، وتم القبض عليهما، وظلا بالسجن لمدة أربعة أعوام وقامت المخابرات العامة المصرية بتبادلهما ومعهما آخرين عام 1974 مقابل مبادلة الجاسوس الإسرائيلى “مزراحى” ثم قررا السفر إلى إحدى الدول الأوربية للإقامة بها.