أمينة شفيق تكتب : مراحل التحول إلي الديمقراطية ومساراتها
تأخذنا البلدان, التي سبقتنا في تجاربها في مرحلة التحول من الاستبداد إلي الديمقراطية, إلي دراسة العديد من هذه التجارب وخطواتها التي مشتها والمسارات التي سارت فيها,
فمصر ليست أول هذه البلدان. منذ بدايات العقد الثمانيني من القرن الماضي مر عدد من الدول الصغيرة والكبيرة بهذا المسار, بدءا من دول أمريكا اللاتينية التي حطمت نظما عسكرية ظلت تحكمها لعقود إلي دول أوروبا الشرقية التي أخذت بنظام الحزب الواحد أو الجبهة الشكلية التي يقودها الحزب الأكبر مرورا ببلدان آسيوية عبرت مرحلة التحول وأخري لا تزال تعاني مشاكلها إلي بلدان الاتحاد السوفيتي ذاته بما في ذلك روسيا أكبر بلدانه وأكثرها سلطة علي عدد من بلدان وسط آسيا..
كما يأتي بلد إفريقي هو دولة جنوب إفريقيا كبلد صاحب تجربة مهمة في هذا المجال, بل يمكن وصفه كتجربة فريدة وسط البلدان الأخري, حيث إنه أجري تحوله السياسي بسلاسة وبسلامة بالرغم من العنف الذي مر به وبالرغم من عدم استقراره الاجتماعي إلي لحظتنا هذه.
فمصر ليس البلد الأول في العالم الذي يدخل بقوة في مرحلة التحول الديمقراطي. وإن كان البلد الثاني في المنطقة العربية, بعد الأولي التي تفجرت في تونس. وفي ظروفها الذاتية وكما في ظروف المنطقة العربية كلها المحيطة بها تظهر اختلافات كثيرة تجعل مرحلة تحولها إلي الديمقراطية ذات خصوصية وتمايز. وتحديدا أنها أكبر بلدان المنطقة عددا وتأثيرا.
بالإضافة إلي أنها البلد صاحب التاريخ القديم ـ الحديث في علاقاته الدولية بكل ما فيها من صراعات وتجاذبات وتقاربات. فهي في البداية وفي النهاية بلد محوري في موقعه وفي تاريخه وفي تكوينه وفي درجة تطوره وبالتالي في تأثيره في المنطقة وفي الظروف العالمية التي تجري فيه مرحلة تحوله من الاستبداد إلي الديمقراطية.
وبالرغم من الاختلافات التي وضحت في كل تجربة علي حدة فإن عددا من الملامح المشتركة جمعت بين العديد منها, في نفس الوقت نفسه التي فرقت بينها خصائص ذاتية أخري عدة حتي لو تقاربت التجارب جغرافيا, فالتغير في بلغاريا اتخذ مسارا ومساحة زمنية غير تلك التي سار عليها التحول في رومانيا بالرغم من تجاورهما. ولا شك أن البنيان الداخلي الاقتصادي الاجتماعي لكل بلد لعب دورا في سلاسة التحول أو صعوبته.
فبالنسبة لروسيا, علي سبيل المثال, لا يزال هذا البلد الكبير لم يستكمل بناءه الديمقراطي بعد, فلا تزال سدة الحكم تتحرك من رئيس الوزراء إلي الرئيس, وبالعكس, ولا يزال سكان الكرملين لا يتحملون معارضتهم السياسية ويتابعون عناصرها بتلفيق الاتهامات لها في حالة وجودها في الداخل أو بالاغتيال خارج حدود بلادهم إذا ما استطاع هؤلاء المعارضون الهروب إلي خارج البلاد, وهي حالة لا تشير إلي استقرار التقاليد الديمقراطية التي لابد أن تسود لتصبح جزءا من نسيج الحياة السياسية في البلد المعني.
ولكن يمكن تحديد أهم الملامح المشتركة التي تجمع بين كل التجارب التي مرت بها البلدان منذ ذلك العقد الثمانيني من القرن الماضي ويشير هذا الملمح إلي أن مرحلة التحول إلي الديمقراطية لا تتم بين ليلة وضحاها في المجتمعات المختلفة, حيث تأخذ هذه المرحلة وقتها, فقد يطول أو يقصر, بناء علي قدر التوافق المجتمعي حولها وعلي خطوات تحقيقها وعلي مدي وضوحها أمام الجميع وعلي مدي حجم التضحيات التي يدفعها أفراد المجتمع بالعدل والمساواة. فهي مرحلة ليست قصيرة وليست سهلة ولكنها ليست مستحيلة, هكذا تشير هذه التجارب.
لا يتوقف نجاح التحول السلمي علي مجرد التغيير السطحي الذي تتغير به الأسماء والمصطلحات أو تتغير به القوانين أو الدساتير وإنما لابد أن يحدث التغيير كيفيا في شكل تحول قانوني وسياسي واجتماعي وثقافي في المقام الأول. وتنجح مرحلة التحول عندما تستقر التوجهات الفكرية الجديدة وتعترف المجتمعات,أفرادا ومجموعات, بالتعددية ودولة القانون ودولة المؤسسات وتداول السلطة وفي ذات الوقت تقر حقوق الأقليات والنساء والمهمشين وتتعامل فيما بينها علي أساس من قيم المواطنة وهو ما يختلف كثيرا مع بعض التصريحات والتحليلات التي ترتفع في أحيان هنا وهناك.
لقد صرح السيد الرئيس الدكتور محمد مرسي عدة المرات, كما صرحت قيادات من حزب الحرية والعدالة في عدة مناسبات سابقة, بأن وضع الدستور وإقراره سيقربنا من استكمال مرحلة الانتقال إلي الديمقراطية. وفي تصريحات أخري قيل إن إجراء الانتخابات النيابية سيساعد علي استكمالها. ولكن الواقع الحادث هو أنه بالرغم من وضع الدستور والاستفتاء عليه وبالرغم من إجراء الانتخابات البرلمانية السابقة وبالرغم من إتمام الانتخابات الرئاسية, فإن الاستقرار لم يحدث وبالتالي لا يمكن أن ندعي أن مصر أنجزت خطوات جادة علي طريق استكمال مرحلة التحول إلي الديمقراطية.
في لقاء نظمته مكتبة الأسكندرية بالتعاون مع معهد الحوار السويدي في الثغر ناقش عدد من النقابيين والباحثين دور النقابات العمالية في التجارب المختلفة للتحول الديمقراطي في كل من مصر وبولندا وبلدان أمريكا اللاتينية واليابان والسويد والسودان وفلسطين وتونس ولبنان والمغرب. ثم ركزت المناقشات علي دور النقابات العمالية في عملية التحول الديمقراطي في بلدان الربيع العربي ومدي ما تستطيع هذه الحركات لعبه من أدوار في عملية ترسيخ القيم الديمقراطية العامة التي هي أساس الاستقرار الاجتماعي العام.
كان الواضح من المناقشات أن البني السياسية التي تتمثل في الأحزاب السياسية الفاعلة علي الساحة ليست وحدها العنصر الحاسم في دفع عملية التحول الديمقراطي إلي أهدافها, وإنما لابد من مشاركة منظمات المجتمع المدني, وفي مقدمتها, النقابات العمالية كجزء أصيل ومهم في هذه المشاركة, فهي المنظمات التي تملأ الفراغ الاجتماعي والتي تنظم جموعا من المواطنين حول مشاكلهم الحياتية اليومية, ومن هنا تأتي مسئوليتها الكبيرة. كذلك, من هنا يأتي دور النقابات العمالية كأكبر هذه المنظمات.
لذا لا يكون مستغربا أن يوجه الاهتمام الخاص في هذه المرحلة إلي إعادة صياغة علاقة السلطات والمجتمع بهذه المنظمات وبالتحديد المنظمات النقابية بدءا من المشاركة في وضع تشريعاتها النقابية إلي تضمين هذه القوانين قيما تساعدها علي أداء مهامها في المشاركة المجتمعية العامة, تأتي ضمنها المشاركة والحرية والعدل والمساواة واحترام القانون, كما لا يكون مستغربا أن تنهض منظمات المجتمع المدني لتؤكد ضرورة اعتراف الجميع بأهمية مشاركتها في صياغة قانونها وتحديد دورها وحركتها, فنجاح مراحل التحول يعتمد في الأساس علي التوافق المجتمعي العام حول كل خطوة في طريقها.