وحيد حامد يكتب: حتمًا ولا بد
هل ستكتب الجزء الثانى من مسلسل الجماعة؟.. هذا هو السؤال الذى يلاحقنى هذه الأيام.. وربما يكون الدافع إلى طرح هذا السؤال بكثافة هو ما وصلت إليه الجماعة من فوز يمكِّنها من الجلوس على عرش مصر وتولى أمورها، حتى إن الجيل الحالى من أفراد الجماعة يرى فى نفسه جيل الانتصار الذى سيقيم دولة الخلافة حسب خطة المرحوم حسن البنا، وعليه فإن دولة الخلافة المنتظرة لن تسمح بوجود من يخالفها أو يكشف سوءاتها وهذا وارد الحدوث بالنسبة للإخوان أو غيرهم من الذين يستولون على السلطة سطوا، أو غدراً، أو بالاتفاق مع آخرين.. أما غير الوارد على الإطلاق فهو أن يغير الكاتب رأيه أو قناعاته أو يتجاهل الحقائق التاريخية خوفاً من الحاكم الجديد لأنها فى غير صالحه، الكاتب يغير فكره ومنهجه، أيضاً فى حالة ما إذا اكتشف حقائق جديدة وتأكد من صحتها ومن شأنها أن تلغى حقائق سبق أن أعلنها ونشرها.. وبالنسبة لمسلسل «الجماعة» فلم يتغير شىء.. الجماعة هى الجماعة..
ومنذ البداية، ومن خلال تقديرى للأحداث، منذ نشأة الجماعة وحتى الآن، فالمسلسل فى ثلاثة أجزاء إذا أعطانى الله العمر والقدرة على العطاء. وتم إنجاز الجزء الأول والجماعة فى خصومة شرسة مع النظام.. حتى إنهم زعموا أننى كلفت من أمن الدولة.. ومرة ثانية من الحزب الوطنى.. وثالثة من أنس الفقى، وزير الإعلام.. وكلها اتهامات باطلة بالدليل، فقد كنت أعرف الاتفاقات والمشاورات الدائمة بين الجماعة وأمن الدولة، ومنها نسبة الـ22٪ التى حصلت عليها الجماعة فى مجلس 2005 وأعرف من هم زعماء الجماعة الذين كانوا على علاقة وطيدة بجهاز أمن الدولة.. وعليه كان لا يمكن أن أثق بهؤلاء أو هؤلاء.. أما الحزب الوطنى فكراهيتى له كانت معلنة ورأيى الشخصى أن الجماعة توحشت فى الشارع المصرى بسبب استبداد وفساد الحزب الوطنى.. ثم إننى لا أعمل بتكليف وأكتب ما أحب وأرغب.. وأول من أخبرته بنيتى كتابة مسلسل عن جماعة الإخوان هو الدكتور عصام العريان الذى رحب بالأمر دون أن تفارقه ابتسامته الدائمة، وأكثر من ذلك قدمنى إلى الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح وأخبره بما عقدت العزم عليه، وأذكر أن الدكتور أبوالفتوح طالبنى بالتزام الأمانة، وأيضاً عرض علىّ المساعدة.. كان ذلك فى مسجد عمر مكرم أثناء حضور عزاء الرجل الوطنى الجليل الدكتور عبدالوهاب المسيرى- رحمه الله.
والحقيقة أن نصيحة الدكتور «أبوالفتوح» كانت خير نصيحة.. اجتهدت فى البحث قدر استطاعتى، وعمل معى فى هذا المجال أكثر من باحث محترم ومؤهل.. والمعلومة التى أشك فيها أو لا يقبلها عقلى- أعيد البحث فى شأنها فى أكثر من مصدر.. وأذكر أنه ذات يوم قرأت فى أحد المراجع الإخوانية أن المسجد الذى شيده المرحوم حسن البنا فى مدينة الإسماعيلية مساحته 180 متراً.. ونظراً لأنها مساحة صغيرة ربما تصلح لشقة سكنية، وربما يكون هناك خطأ مطبعى.. اتصلت بالدكتور عصام العريان للتأكد من مساحة المسجد الفعلية.. فأمهلنى إلى الغد، وعندما جاء الغد أخبرنى بأنها فعلاً 180 متراً.. كما أننى قابلت شخصيات إخوانية لها مكانتها.. وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور فريد عبدالخالق- أمده الله بالعمر والصحة- والذى عاصر الأحداث.. لكن يبدو أن الجماعة لها وجهة نظر فى مسألة الأمانة غير وجهة النظر المتعارف عليها.. فهى تقبل وتشيد بكل ما تراه فى صالحها، وترفض، وتحارب كل ما هو ليس فى صالحها حتى لو كان حقيقة ثابتة، تريد الجماعة إخفاء خطاياها كما تخفى نواياها، وهذا من شأنه أن ينسف مبدأ الأمانة من جذوره الدينية والإنسانية وأيضاً تزييف متعمد للتاريخ وهذا لا يجوز.. ومع عرض أولى الحلقات بدأ الهجوم الشرس من جانب فتيان الجماعة وقادة الصفين الثانى والثالث وكل من يريد أن يقفز قفزة داخل الجماعة، ولم أحزن كثيراً بسبب الهجوم، لكن حزنت بسبب سفالته وخروجه الفج عن تعاليم الإسلام السمح: «وجادلهم بالتى هى أحسن» ولكن كان الجدال بالشتائم والسباب وأحياناً التكفير.. وحزنت أكثر عندما اندفع فريق من خارج الإخوان مشتركاً فى الهجوم بلا مبرر حقيقى مع عدم المعرفة، ودون أى سند، الأمر الذى أدهشنى وقتها، ولكن هذه الأيام زالت دهشتى عندما رأيت أعضاء هذا الفريق فى أحضان الجماعة.. ولا أريد أن أردد قول أحد الأعراب للحجاج بن يوسف «أهل مصر عبيد يغلب» لأن الأيام الفائتة أثبتت بما لا يقبل الشك أن أهل مصر عبيد للمولى- عز وجل- وفى قدرتهم سحق كل غالب إذا افترى وظلم وانحرف عن الحق والصواب.. وفى ذات الوقت كان هناك انقسام فى الرأى داخل الحزب الحاكم وأركان النظام: فريق يرى أن المسلسل فى صالح الجماعة، وفريق يرى العكس، أما أنا فكنت أعلم أن المسلسل فى صالح الحقيقة تاركاً للمشاهد حرية تكوين الرأى والاقتناع، لكن هذا لم يعجب الجماعة.. وأيضاً لم يعجب خصومها الأشداء الذين كانوا يريدون المسلسل ناراً وجحيماً على رأس الجماعة.. ولكنى لم أهتم لأنه لم يكن على رأسى بطحة ولم أكن أعمل لحساب هؤلاء أو هؤلاء.. والذى تولى إنتاج المسلسل والإنفاق عليه هو رجل الأعمال المستنير «كامل أبوعلى» من خلال شركة الباتروس للإنتاج، وليس أمن الدولة أو حيتان الحزب الوطنى كما روجت الآلة الإعلامية للجماعة.
واليوم.. الحمد لله، مازلت على حالى، لم أتغير ولم أقفز من موقع إلى موقع رغم أننا نعيش أيام التغيرات والتحولات السريعة والحادة والمفاجئة أيضاً.. لقد اكتشفت أن آفة الجماعة هى آفة الحزب الوطنى نفسها، وهى أيضاً آفة كل حاكم مستبد وطاغية وهى: «إن لم تكن معى تماماً فأنت عدوى تماماً».. وأنا بكل وضوح لست مع الجماعة التى تبشرنا بفاشية عاجلة وشرسة.. لقد أصابنى هم ثقيل وكآبة قاتمة عندما قرأت تصريح السيد محمود حسين، وهو القيادى الإخوانى، الذى يقول فيه: «على الجميع أن يتأدبوا… إلخ».. والقيادى الآخر الذى نزع صفة الثوار وصنفهم على مزاجه.. ونحن فى انتظار القيادى الذى يصعد إلى المنبر قائلاً: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفونى.. وإنى أرى أرؤساً قد أينعت وقد حان قطافها» الآن الجماعة تغيرت وتبدلت.. كانت مطاردة من السلطة.. والآن هى السلطة.. والاختلاف مع السلطة حق لكل مواطن.. حتى لو كانت السلطة هى الجماعة.. وإذا أرادت الجماعة أن تتجمل وتصنع تاريخاً جديداً لنفسها فنحن نرحب بذلك إذا طبقت مفاهيم الحرية والعدالة بحق وصدق، لا مجرد اسم لحزب كل ما نراه منه حتى الآن هو الاستحواذ على كل شىء.. وعليه تكون الإجابة عن السؤال: نحن الآن نعمل على الجزء الثانى من مسلسل الجماعة.. وإلى القارئ الكريم المعالجة الدرامية ولدينا كل الوثائق.. ونسأل الله التوفيق.
الجزء الثانى من مسلسل «الجماعة»: أسرار العلاقات بين عبدالناصر والبنا والهضيبى وسيد قطب
انتهى الجزء الأول بحالة الانكسار الشديدة التى سيطرت على الشيخ حسن البنا وأدت إلى وفاته معنوياً ونفسياً وضياع مشروعه مع العزلة الشديدة التى وجد نفسه فيها فى ظل الانقسام الذى حل بالجماعة والعداء الذى اشتعل من قبل الحكومة إلى جانب حالة السخط الشعبى على الجماعة بسبب أعمال العنف والاغتيالات.
بعد ذلك بأيام معدودة لم يهدأ أو يستسلم «حسن البنا» تماماً وإنما قام برفع دعوى قضائية مطالباً بإلغاء قرار حل الجماعة الذى اتخذته حكومة النقراشى باشا، كما أنه سعى جاهداً لدى كل الجهات المعنية للوصول إلى تسوية معلناً استعداده لكل الشروط إلا أن الأحداث التى جرت كانت كفيلة بإغلاق كل الأبواب والنوافذ إلى أن يتم قتل «حسن البنا» فى شارع الملكة نازلى أمام جمعية الشبان المسلمين.
يرى عدد لا بأس به من الباحثين والمفكرين أن قتل «حسن البنا» كان قتلاً لرجل ميت أصلاً، حيث إنه فقد السيطرة على الجماعة التى أنشأها وخسر الحكومة والقصر الذى كان يعمل فى خدمته طول الوقت، وكان يلقى الدعم منه، وربما كانت حياته أفضل من موته، وربما تراجعت الجماعة واندثرت بعد أن انكشف أمرها.. إلا أن اغتياله أدى إلى عكس ذلك تماماً.. فما الذى جرى بعد ذلك.
يهمنا أن نشير إلى الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى كانت عليها البلاد فى تلك الحقبة تحديداً، فهزيمة الجيوش العربية فى حرب فلسطين تركت حالة من الإحباط والمرارة فى نفوس كل المصريين، وفساد الملك والحياة السياسية مع انتشار جميع الأمراض الاجتماعية لم تمنع التعاطف مع الإخوان تماماً على اعتبار أنهم ضد الظلم ورجال دعوة مع ملاحظة أن الآلة الإعلامية للجماعة لم تتوقف واستغلت الوسائل الإعلامية المتاحة فى ذلك الوقت.. منابر المساجد والمنشورات.. والندوات.. رغم أن الجماعة كانت مشتتة ومطاردة.
تولى قيادة الجماعة بصفة سرية وغير رسمية أو معلنة «صالح عشماوى» وكيل الجماعة بمعاونة عبدالحكيم عابدين سكرتير الجماعة وعبدالرحمن الساعاتى شقيق حسن البنا، وأيضاً الشيخ أحمد حسن الباقورى عضو مكتب الإرشاد وظل مقعد المرشد خالياً، وكان هناك أكثر من شخص يسعى إليه بلهفة وشغف.. ولكن وجود مرشد فى هذه الحقبة كان أمراً صعباً، لأن الجماعة فاقدة للشرعية، هذا بالإضافة إلى عدم وجود الشخص الذى يتم الاتفاق عليه لاسيما أن صقور الإخوان «أعضاء التنظيم السرى» وهم أصحاب القوة الفعلية فى الجماعة غائبون فى السجون، ومنهم من كان يرى أن منصب المرشد من حقه وعلى رأس هؤلاء عبدالرحمن السندى. يزعم بعض المقربين من المرحوم «حسن البنا» بأنه أوصى أثناء الأزمة الأخيرة فى حياته وإحساسه بالخطر المحيط به بأن يكون المرشد الذى يخلفه هو «جمال عبدالناصر» وهنا رواية أخرى تقول إنه زار المستشار «حسن الهضيبى» فى منزله وأوصاه بأن يتولى أمور الجماعة فى حالة حدوث أى مكروه يصيبه.. وهنا يجب أن تكون لنا وقفة حيث إن الرجلين عبدالناصر والهضيبى لم يكونا من العناصر الظاهرة فى الجماعة.
أ – جمال عبدالناصر:
من الثابت بشهادة زملائه واعترافه هو شخصياً أنه كان عضواً فى جماعة الإخوان، وأنه أدى قسم الطاعة أمام المرشد حسن البنا شخصياً ولكن لكونه ضابطاً فى الجيش المصرى فرض السرية المطلقة على هذا الأمر، والثابت أيضاً أن عبدالناصر كان أحد أفراد التنظيم السرى ويعمل تحت قيادة عبدالرحمن السندى ويؤكد بعض الباحثين أن انضمام عبدالناصر إلى الجماعة يرجع فى الأساس إلى أنها جماعة مناهضة للنظام السياسى، والذى كان يسعى عبدالناصر للخلاص منه، وبالطبع الجماعة كانت ترحب به هو وغيره من الضباط سواء كانوا من الجيش أو البوليس، وكانت تعتبرهم من دعائم قوتها العسكرية.. وعليه فإن مشايخ الجماعة وأفندياتها كانوا يجهلون تماماً أمر عبدالناصر، كما كانوا يجهلون أمر التنظيم السرى الذى كان أمره بيد حسن البنا شخصياً، إلى جانب أن عبدالناصر لم يكن قريباً من مكان الأحداث «القاهرة» بل كان بعيداً فى ميدان القتال، وربما كان هو الآخر لا يعرف بالمكانة الرفيعة التى يراها فيه حسن البنا.
ب – حسن الهضيبى:
رجل قانون من أسرة ثرية ذات مكانة اجتماعية مرموقة، اشتغل بالمحاماة فى مدينة سوهاج، ثم انتقل إلى سلك القضاء فى عهد الملك فؤاد الذى أصدر مرسوماً بتعيينه مع آخرين.. بدأت علاقته بالإخوان على أثر إعجابه الشخصى بالمرشد حسن البنا الذى أعجب به فكان من التابعين له وأعطاه البيعة ولكن علاقته بالإخوان ظلت مستترة تماماً، نظراً لعمله بسلك القضاء، ونظراً لأهمية المناصب التى شغلها «مدير إدارة النيابات- رئيس التفتيش القضائى- مستشار بمحكمة النقض»، وكانت شخصيته مغايرة تماماً لشخصية حسن البنا.. فهو يعيش حياة البشوات ولديه الخدم «عبيد» والتعامل معه حسب القواعد والأصول، ولم يجرب الجلوس على الأرض أبداً، ولا يمكن مقابلته إلا بموعد سابق، كما أنه كان لا يملك الكاريزما والقبول وحلو الحديث وكلها كانت من صفات حسن البنا.. وعليه كان هذا الرجل أيضاً بعيداً كل البعد عن منصب المرشد العام الذى لا يزال شاغراً.. فكيف وصل إليه المنصب؟.. هذا ما سوف نعرفه فى حينه.
وما دمنا قد ذكرنا جمال عبدالناصر.. والمستشار حسن الهضيبى فإن الأحداث الجسام تفرض علينا أن نذكر الشخصية الأهم والأخطر وصاحبة الدور المؤثر والتى قادت جماعة الإخوان إلى منحدر سحيق، بل إنها انحرفت بالمبادئ الإسلامية نفسها من وجهة نظر البعض.. إنه سيد قطب.
ج – سيد قطب:
الكاتب.. الأديب.. الشاعر.. الناقد.. فعلاً كان كل هؤلاء وهو خريج «دار العلوم» وكان يعمل بوزارة التربية والتعليم ويكتب المقالات فى الصحف والمجلات ويرتاد الندوات وهو من تلامذة العقاد.. ولم تكن له أى علاقة بجماعة الإخوان بل كان من خصومها الأشداء وكان يصف حسن البنا بأنه حسن الصباح.. وكان يشرب الخمر خاصة «الكونياك»، وهناك من يزعم أنه كان ملحداً لبعض الوقت.. ولكن كل هذا ربما لا يكون ذات أهمية كبيرة فى موضوع المسلسل.. لأن هذا الرجل كان شديد التقلبات، شديد الطموح.. رغم أن إمكانياته ومواهبه الأدبية والنقدية كانت متوسطة القيمة ولم تكن لتجعل منه الأديب أو الناقد البارز، خاصة أنه يعيش فى زمن العمالقة بحق.. ورغم اعتزازه بنفسه والصورة التى يتعمد الظهور بها من كبرياء وشموخ، فإنه أول من كان يعرف قدر موهبته الفعلية، وأنه ليس من أدباء الصف الأول ولن يكون!.. هذا الرجل سيكون رجل الجماعة الأقوى.
■ أرسل هذا الرجل إلى أمريكا فى رحلة غامضة أطلق عليها «بعثة»، بعد أن تجاوز الأربعين من عمره، وهناك لم يستقر فى مكان واحد ومعروف عنه العداء الشديد للشيوعية إلا أنه أصبح من أشد أعداء الرأسمالية أيضاً وأكثر الناس سخطاً على الحياة الأمريكية.
■ عاد هذا الرجل إلى مصر فى صيف عام 1951 وهو معبأ بالسخط على المجتمع الغربى.. وفى هذه الفترة تمكن من تغيير الدفة فى المجال الأدبى، حيث اتجه إلى الكتابة ذات الاتجاه الإسلامى والتى لاقت قبولاً ورواجاً وإن اختلف فى شأنها كبار الكتاب والنقاد.
■ إلا أن هذا النهج الجديد جعل جماعة الإخوان تنظر إليه نظرة مغايرة وتراه قريباً منها، بعد أن كانت تراه بعيداً عنها.. أما سيد قطب نفسه فلا أحد يعرف ما كان يدور فى رأسه، وربما هو شخصياً كان لا يعلم.. ولكنه كان فى وضع الرجل الذى خرج للصيد.
– ونعود إلى سياق الأحداث:
استمرت حكومة إبراهيم عبدالهادى لمدة ثلاثة شهور بعد مقتل حسن البنا وجاءت بعدها حكومة حسين سرى التى أجرت انتخابات برلمانية فاز فيها حزب الوفد باكتساح وجاءت حكومة الوفد، الأمر الذى أصاب الملك بالرعب الذى دعاه إلى استدعاء «مجلس البلاط» لبحث هذه المسألة فكان رأى هذا المجلس هو إعادة جماعة الإخوان إلى الساحة على اعتبار أنها القوة التى تقدر على مواجهة الوفد، ولأن الملك هو المدبر والمحرض على اغتيال المرشد العام للجماعة «حسن البنا» فقد ارتاب فى هذا الاقتراح، إلا أن مجلس البلاط تمسك بالاقتراح، خاصة إذا كان مرشد الجماعة الجديد، والذى سوف يتم اختياره تابعاً أو مؤيداً للملك وعليه تم طرح اسم الشيخ أحمد حسن الباقورى ليكون مرشداً للجماعة، خاصة أنه زوج ابنة الشيخ دراز عضو مجلس البلاط. فى الوقت ذاته كانت الجماعة بدأت تسترد عافيتها بعد صدور أحكام قضائية لصالحها وإظهار بعض اللين من قبل حكومة الوفد، بدأ التفكير فى شغل منصب المرشد العام للجماعة.. وكان هناك ثلاثة يرغبون فى تولى الأمر (صالح عشماوى- عبدالرحمن البنا- الشيخ الباقورى) وكلهم من الجانب المدنى للجماعة، نظراً لغياب فريق التنظيم السرى فى السجون.. وحرصاً على عدم حدوث أى انشقاق فى الجماعة، خاصة أنها فى مرحلة التعافى اقترح منير الدلة، عضو الجماعة، وهو رجل قانون وزميل صالح عشماوى أن يكون المرشد الجديد شخصية لها هيبة ومكانة ورصانة ومن خارج الجماعة.. واقترح المستشار حسن الهضيبى..
– الغريب أن القصر كان يسير فى الاتجاه نفسه فعندما وصل الهمس بالنية فى أن يكون الهضيبى هو المرشد الجديد للجماعة كانت مباركة القصر جاهزة، حيث إن الهضيبى فى عنقه دين للملك فؤاد، لأنه هو الذى عينه قاضياً ولأن ابنه مأمون الهضيبى متزوج من ابنه محمد نجيب باشا سالم، ناظر الخاصة الملكية وعضو مجلس البلاط.. وبهذا يكون القصر قد ارتبط مع الإخوان فى علاقة مصاهرة.
– ولكن صقر الإخوان الجارح (عبدالرحمن السندى) لم يكن يقبل بهذا، وهو الذى كان يعد نفسه لقيادة الإخوان، ثم إن أتباع هذا الصقر ينظرون إلى الهضيبى على أنه أحد أتباع الملك قاتل مرشدهم.
– وبدأ الانشقاق غير المعلن فى صفوف الجماعة.
– فى 10/10/1951 تم إلغاء معاهدة 1936.. وفى 19/10/1951 تم انتخاب حسن الهضيبى، مرشداً لجماعة الإخوان المسلمين.. وفى 21/11/1951 قابل الهضيبى الملك وصرح بأنها زيارة كريمة لملك كريم واشتد غضب صقور الإخوان وأصبحت النار تحت الرماد.
– أما الإخوانى من بعيد، الثائر حقاً والقوى فعلاً جمال عبدالناصر والذى كان يغرد خارج السرب وبعيداً عن صراعاته فقد تمكن من تشكيل تنظيم سرى كافة عناصره من رجال الجيش، ومن جميع الاتجاهات السياسية دون أن يتخلى عن الضباط الإخوان، بل إنه كان يرى ويؤمن بأن نجاح ما يهدف إليه مرهون بدعم ومساندة الإخوان.. إلى جانب القوى السياسية الأخرى المناهضة للملك والأحزاب.. كان يرى أن الثورة التى سعى إليها تحتاج إلى كل القوى الوطنية وليس الإخوان فقط، وإن كان لا يمكن الاستغناء عنهم وخاصة فى مرحلة البداية التى هى مرحلة مواجهة الأخطار.. وخاصة المواجهة مع الإنجليز الذين هم عدوه الأول إلى جانب قوى الفساد والقهر.
– نجح عبدالناصر ورفاقه الضباط «الأحرار» أصحاب الاتجاهات المختلفة فى تحقيق هدفهم وطرد الملك والاستيلاء على الحكم وامتلاك زمام الأمور التى أصبحت كلها فى قبضة رجال الثورة وزعيمها جمال عبدالناصر. رغم أن اللواء محمد نجيب كان الواجهة البراقة التى تعطى الحدث المصداقية والشعبية خصوصاً أن هذه الثورة كان لها أعداؤها الأقوياء من أول لحظة.
– يهمنا هنا وبالدرجة الأهم علاقة الثورة بالجماعة أو علاقة الجماعة بالثورة وبجمال عبدالناصر تحديداً.. ويهمنا بالدرجة الأهم أيضاً علاقة «سيد قطب» الرجل الذى انطلق بالجماعة فيما بعد إلى طريق العنف والتطرف وتكفير المجتمع.. علاقة هذا الرجل بالثورة وبجمال عبدالناصر تحديداً.
– ونبدأ بالأستاذ «سيد قطب» الذى اندفع فى حماس مبالغ فيه وسخونة عالية مؤيداً للثورة وداعماً لها بعنف حتى إنه كان أحد العتاة الجبارين الذين طالبوا الثورة بقمع الجماهير وتثبيت ديكتاتورية الجيش.. مطالباً بالانتقام والقمع حتى إنه طالب بإخراس محمد عبدالوهاب وأم كلثوم ومحمد فوزى وعبدالعزيز محمود لأنهم غنوا للملك.
– وعليه فقد كان قريباً من عبدالناصر ومعاوناً له فى هيئة التحرير ومستشاراً دائم التواجد فى مجلس قيادة الثورة ورأيه نافذ وبحكم أنه صعيدى ومن أسيوط أى بلديات عبدالناصر فإن العلاقة كانت «سمن على عسل» كما يقولون.. كل هذا وسيد قطب بعيد تماماً عن الإخوان فى ذات الوقت الذى كان فيه عبدالناصر يقترب منهم تارة ويبتعد عنهم تارة وبينه وبينهم أخذ وعطاء وشد وجذب.
– كما أسلفنا فإن سيد قطب لم يكن أبداً ليهمل شخصه أو طموحاته فإنه كان ينتظر «المكافأة» وهى وزارة المعارف والتى كان يرى أنه أصلح وأنسب من يتولاها على اعتبار أنه من رجال الوزارة، إلا أنها ذهبت إلى كمال الدين حسين وأسندت إليه وكالة الوزارة إلا أنه رفضها.. ويقال إن عبدالناصر عرض عليه وزارة الأشغال التى رفضها أيضاً.. وكان الانتقال إلى جماعة الإخوان.. انتقالاً حاداً ومفاجئاً كطبيعة سيد قطب.. وكان أول نشاط له هو رئاسة تحرير مجلة «الإخوان المسلمون» التى رخص بصدورها جمال عبدالناصر شخصيا دون أن يعلم أن رئيس تحريرها هو سيد قطب الذى استدعاه وسأله صراحة هل أنت من الإخوان..؟! فكان الرد لم أكن من الإخوان.. أما الآن فأنا من الإخوان.
– تحول الصديق إلى خصم.. والمؤيد إلى معارض.. وبدأ سيد قطب الهجوم على الثورة حتى إنه ابتكر «قرفان أفندى» وبدأ فى توجيه السهام وقد أصبح على يقين فيما يبدو أن طموحاته لن تتحقق إلا من خلال الجماعة.
– أما حسن الهضيبى، مرشد الإخوان، وهو القاضى المحنك الوقور صاحب الشخصية القوية فلم يكن ليقبل بكل ما تأتى به الثورة أو عبدالناصر، خاصة أنه يدرك مدى حاجة الثورة إلى دعم الإخوان.. ومدى حاجة عبدالناصر شخصيا إلى هذا الدعم، خاصة أنه فى صراع مع اللواء محمد نجيب على السلطة، بالإضافة إلى التيارات الأخرى التى أضيرت من الثورة.. كما يعرف الهضيبى أيضا الدور المهم الذى قامت به الجماعة فعلا فى دعم الثورة وعليه فإن للجماعة الحق فى الحصول على حقوق الشريك وفرض الوصاية على الثورة، وهذا الأمر كان مرفوضا تماما من عبدالناصر الذى كان حريصا على قومية تنظيم الضباط الأحرار وعدم تبعيته لأى اتجاه سياسى أو دينى.. ومن هنا كان الصدام غير الظاهر بين الرجلين.
– كان من الطبيعى أن يخترق جمال عبدالناصر جماعة الإخوان، وكان من الطبيعى أن يعمل الهضيبى ضد عبدالناصر الخارج عن الطاعة، وعليه استعان عبدالناصر بزعيم التنظيم السرى عبدالرحمن السندى والفريق الذى يسانده وكلهم غير مرحبين بالهضيبى ورجاله الجدد وجميعهم من رجال القانون.
– وبدأت علامات الجفاء والخصام فى الظهور على السطح بين جميع الأطراف المتصارعة فقد عمل الهضيبى على تهميش دور عبدالرحمن السندى وضرب التنظيم الخاص فى مقتل، وفى ذات الوقت عمل على إحياء تنظيم آخر كان موجوداً فى أيام المرشد الأول وهو التنظيم الذى كان يشرف عليه ضابط الشرطة «صلاح شادى» كذلك استعان بالمهندس «سيد فايز»، عضو التنظيم السرى، والذى يعرف كل أسراره بحكم موقعه فى القيادة، حيث كان الرجل الثانى بعد السندى إلا أن السندى كان الأسرع فى توجيه الضربة ودبر اغتيال «سيد فايز» الذى انفجرت فيه علبة الحلوى.
– أعطى الهضيبى والذين معه من الإخوان كل الدعم والمساندة لمحمد نجيب فى الصراع القائم بينهما.. وهذا كان يعلمه عبدالناصر ويتحول إلى رصيد من الغضب.
– حاول عبدالناصر أن يبتلع الجماعة ويهضمها وطلب من الهضيبى أن تصبح داخل هيئة التحرير إلا أن الهضيبى رفض تماما.. مما جعل الهوة بين الرجلين عميقة وسحيقة.. حتى فى مرحلة استقطاب الجماعة وتعيين بعض رجالها وزراء فى الحكومة رفض الهضيبى وعندما خرج الباقورى على قرار الرفض هذا وقبل بمنصب وزير الأوقاف، تم فصله من الجماعة.
– أيضا قام الهضيبى بفصل شخصيات بارزة فى الجماعة كانت تعمل ضده بقصد إزاحته بعيداً عن الجماعة.. منهم عبدالرحمن السندى ومحمود الصباغ وأحمد عادل كمال وهم من قيادات التنظيم الخاص.. وبعدها بعدة أيام قام بفصل صالح عشماوى صاحب ترخيص جريدة الدعوة التى سخرها للهجوم على الهضيبى.. وأيضا كان مع عشماوى فى قائمة المفصولين من الجماعة الشيخ الغزالى وأحمد عبدالعزيز جلال.
– أيضا غاب عنا وفى زحام الأحداث المتلاحقة أن جمال عبدالناصر فى سعيه على كسب ود الجماعة أفرج عن قتلة المستشار الخازندار وأيضاً قتلة النقراشى باشا، وجميع المعتقلين من الإخوان إلا أن الهضيبى لم يرحب بهذا الأمر وهكذا يتضح لنا أن عبدالناصر كلما حاول الاقتراب من الجماعة خطوة ابتعدت الجماعة ثلاث خطوات حتى إنها تضامنت مع الشيوعيين ضده.
– فى 14 يناير عام 1954 قام مجلس قيادة الثورة برئاسة عبدالناصر بحل جماعة الإخوان المسلمين لتآمرهم مع السفارة البريطانية لقلب نظام الحكم.
– وفى 11 فبراير يزور مع صلاح سالم قبر حسن البنا وكان يهدف من وراء هذه الزيارة إلى التأكيد على أن حل الجماعة ليس عملا ضد الإسلام.
– ويظل التوتر قائماً بين الثورة والجماعة حتى يأتى الخطأ الفادح من قبل الجماعة وهو محاولة اغتيال عبدالناصر فى ميدان المنشية أثناء إلقائه خطاباً جماهيرياً، وذلك فى 26/10/1954.. (التفاصيل مهمة جداً)، وكان من نتائج محاولة الاغتيال الفاشلة هذه الآتى:
■ أطلق عبدالناصر يده القوية وبطش بالإخوان واعتقل المئات منهم وفتحت أبواب السجن الحربى ومنهم زعماء وقادة فى الجماعة: المرشد الهضيبى وسيد قطب الذى يهمنا أمره.
■ حصد جمال عبدالناصر شعبية كاسحة وتأييداً جماهيرياً جعله فى مأمن من كيد الجماعة وبات لا يخشى شرورها بل إنه اعتمد على جماهيرية أكبر وأوسع وأهم فهى جماهيرية قومية بحق.
■ انهارت وحدة الجماعة وقوتها بعد أن غاب أهم رجالها وراء القضبان وعلى رأسهم المرشد العام، كما أن النظام الخاص قد تفكك وتجزأ وظهرت أسماء جديدة وقيادات جديدة لتنظيمات إخوانية كانت تعمل منفردة وإن كانت تسعى إلى التجمع والاتحاد.
– ومنذ حادثة المنشية وحتى عام 1965 والعلاقة فى غاية التوتر بين الجماعة والثورة، وكانت كل تنظيمات الجماعة السرية تهدف وتعمل على اغتيال جمال عبدالناصر.
– أيضا فى هذه الفترة بدأت الجماعة فى تلقى الأموال من الخارج سواء من الإخوان الذين تمكنوا من الفرار من مصر.. أو من خصوم عبدالناصر السياسيين فى الدول العربية والذين كانوا يعتبرون الجماعة هى الشوكة المؤلمة فى ظهر عبدالناصر، والتى ربما تقضى عليه.. وكانت هناك أموال مفروضة على أعضاء الجماعة تستقطع من الدخل لصالح أسر المسجونين من الإخوان.. صحيح أن الفساد ضرب ضربته داخل الجماعة وتحول البعض إلى أثرياء بينما ظل بؤساء الجماعة على حالهم وربما أسوأ مما كانوا عليه.
– داخل السجن كان «سيد قطب» يلقى معاملة طيبة وبتعليمات من عبدالناصر وكان الرجل المريض يقضى معظم الأيام الثقيلة داخل مستشفى السجن.. صحيح أن المرض كان يسكن صدره، إلا أن المرض الأخطر كان يسكن صدره أيضاً وهو الغل والسخط والحقد.. تجمع حوله داخل السجن شباب الإخوان وتولاهم بكل الأمراض المخزونة فى صدره وبث فيهم أفكاره الهدامة عندما أطلق دعوته التى ستقلب الدنيا فيما بعد وهى (جاهلية المجتمع) وأن المجتمع كافر، ومن داخل السجن وبإرشاده نبتت بذرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التى أزعجت البلاد بالعنف الدموى.
– عندما ظهر «ميثاق» عبدالناصر استثمره الشيوعيون بكفاءة عالية وكأن مصر تتجه إلى اللون الأحمر، الأمر الذى أزعج عبدالناصر الذى كان يقدر خطورة هذا الاتجاه، وعليه فإنه بحث عن شخص يفسر هذا «الميثاق» تفسيراً إسلامياً ولم يكن هذا الشخص إلا سيد قطب.
– أفرج عنه عبدالناصر وكلفه بهذه المهمة التى قبلها فارضا شروطه وأهمها ألا يعترض أحد على ما يكتب.. وأعطاه عبدالناصر هذه الحماية فكان الكتاب الكارثة (معالم فى الطريق) وهو الكتاب الذى كفر الجميع، والغريب أن عبدالناصر رفض مصادرته رغم اعتراض الأمن، وعليه تم طبعه أكثر من مرة.
– فى ذات الوقت لم يكن «سيد قطب» مجرد مفكر ومنظر.. وأيضاً لم يغفل طموحاته الشخصية أبداً وإنما يخطط ويدير ويدبر للخلاص من عبدالناصر وقلب نظام الحكم.
– حتى كانت القضية الأخيرة التى قبض عليه فيها وصدر عليه الحكم بالإعدام.
– وإلى هنا.. تكون نهاية الجزء الثانى.. والله المستعان.