الدكتور شوقي علام يكتب: ميلاد النبى تجديد للحياة
يأتى شهر ربيع الأول من كل عام هجرى وقلوب الأمة المحمدية مملوءة بالمحبة والفرح بذكرى ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم، وتتطلع نفوسهم إلى الاقتباس من أنوار الحبيب صلى الله عليه وسلم المتدفقة جمالًا ورحمة، وتتسابق عزائمهم فى الاحتفال بهذه الذكرى العطرة دينيًّا واجتماعيًّا عبر القرون.
لا شك أن ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم فى شهر ربيع الأول من عام الفيل (إبريل 571م) يمثل دورة حياة جديدة للإنسانية؛ بل للعالمين، فهى حياة طيبة ومتنامية، فيها تغذية القلوب بأنوار العلم والإيمان وإعمار المجتمعات والأمم بالعدل والإحسان، والتعاون على الخير والعمران، ورفع الحرج ومظاهر التشدد، وفى ذلك يقول الله تعالى ممتنًّا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
نعم، إن ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم تجديد لحياة الإنسانية مرة أخرى، فقبل مولده الشريف عم الفساد وصار الناس عن الله تعالى وعما يصلح حالهم حالا ومآلا فى شغل شاغل وفكر ذاهل بانحلال سمات الشخصية الإنسانية وموت مظاهر الأخلاق فيها ومجاراة الأوضاع دون إحقاق حق ولا بحث عن العدل والقيم والأخلاق الفاضلة ولا انتفاع بمقومات الحياة السعيدة.
لقد صاحب ميلاد الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم بشارات وإرهاصات أكدت بعث مسيرة العدل والإصلاح، وإشارة إلى طلوع فجر أمل سعيد؛ حيث ولدته والدته السيدة آمنة بنت وهب فى سهولة ويسر، نظيفًا.. وضيئًا.. جميل الأوصاف، كما اقترن هذا الميلاد منذ دقائقه الأولى بدلالات الحرية والعتق؛ فأعتق عمه أبو لهب جاريته ثويبة لما بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم فرحًا وسرورًا، وفى ذلك إشارة مبكرة تحمل فى طياتها بشارات بما سوف تصل إليه البشرية على يديه وباتباع رسالته من كمال وجمال!
كما أن النبى صلى الله عليه وسلم عاش منذ ميلاده بنفس مقبلة على الحياة، مشاركًا فى قضايا مجتمعه؛ معدلا لما كان معوجا داعما لما كان صالحا، ومتسمة نفسه بالرأفة والحنو على الضعفاء والأيتام وأصحاب الحاجات؛ حيث وثّقت ذلك السيدة خديجة رضى الله عنها فيما ذكرته من أخلاقه العمليَّة وأفعاله السنية، تأنيسًا وتبشيرًا له صلى الله عليه وسلم فى حديث بدء الوحى لما نزل عليه الأمين جبريل عليه السلام بالرسالة الخاتمة، من أنه صلى الله عليه وسلم كان يكسب المال العظيم الذى يعجز عن تحصيله غيره، ثم يجود به فى وجوه الخير وأبواب الفضل؛ من حمل الضعيف واليتيم والعيال، وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب؛ بالمال تارة، وبالخدمة تارة، وبالزيارة والسلام تارة، وكذا إكرام الضيف، والإعانة على نوائب الحق.
وفى ذلك معالجة عملية هادية لمشكلات الأمة والمجتمع مما مثَّل رصيدًا مؤيدًا فى مواقفه، وفرض على أعدائه احترامه وتقديره، وفى ذلك قالت له إحدى عماته صلى الله عليه وسلم لما جاء فزعًا: “ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك”، ثم بعد ذلك كانت البعثة والأمر بتبليغ الرسالة، ثم الهجرة إلى المدينة، فبلغت هدايته ونوره سائر الأمم بعد أن أقام النبى صلى الله عليه وسلم للناس أمر دنياهم على أبدع مثال.
وبذلك جنت البشرية من ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم فضلا من الله عظيمًا، لحصول نعمة الإيجاد فى هذا اليوم، التى هى سبب ومظهر لحصول كل خير وإصلاح وعمران، خاصة هذا النموذج للحياة المتكامل المؤسس تأسيسًا عبقريًّا، والذى أشاد به المخالف قبل المتبع، مما يقتضى بذل الشكر لله ولرسوله نبى الرحمة صلى الله عليه وسلم بإظهار السرور والفرح بذكرى المولد العطرة بشتى المظاهر والأساليب المشروعة؛ امتثالا لقوله تعالي: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، ومما لا شك فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة للعالمين.