الدكتورة لميس جابر تكتب: الاختفاء القسرى لحقوق الإنسان
يبدو أننا لا نعلم كل شىء عن إسرائيل، ويبدو أنها قد أخذت استثناء دولياً موثقاً، بإمضاء كل دول الغرب وأمريكا، بإعفائها تماماً، وحتى نهاية العالم، من المدعوة «حقوق الإنسان».. ويبدو أيضاً أننا ما زلنا لا نفهم من هو الإنسان المقصود بالحقوق، لأنه من الواضح أننا شعوب لا يتمتع إنسانها بأى حقوق، بينما تطاردنا دكاكين المنظمات التى تأكل علينا «عيش» تحت راية حقوق الإنسان. وفى النهاية، كدول عربية وأفريقية وعالم ثالث، يستباح الإنسان لدينا على أرض الغرب وإسرائيل، بينما يعطون أنفسهم الحق فى محاسبتنا على أفراد مخبولين هاجروا إلى الدواعش وتحولوا إلى مجرمين، ويطلقون عليهم أنهم اختفوا اختفاء قسرياً، على رأى المدعو «البرادعى»، وباتت هذه الدكاكين تباع وتشترى بالأموال، وتكون دائماً فى خدمة أسيادها الذين يدفعون بالدولار واليورو.
نعيش عصراً من العنصرية الشديدة التى تمارسها الدول والحكومات وليس الأفراد.. إسرائيل من حقها أن تسحل وتضرب وتقتل وتعتقل من تريد، ولا حس ولا خبر عن أى حقوق.. من حقها أن تغتصب أرضاً، وتطرد شعباً، وتستولى على بلد بأكمله، بكل عجرفة وبلطجة وإجرام، ويكون رد الفعل أنها أرض الميعاد بأمر وعد الرب.. من حقها أن تهشم عظام الأطفال لأنهم يواجهون الدبابات بالحجارة، وتقتل النساء وتعتقل الرجال، ويكون رد الفعل أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها.. من حق إسرائيل أن تبنى المستوطنات على أرض فلسطينية، حتى تقلصت مساحة الضفة الغربية وغزة، ويكون رد الفعل أن من حق إسرائيل أن تحافظ على أمنها.. منذ أيام قليلة كانت آخر أحداث الهمجية الإسرائيلية عند اقتحام الدير المصرى الشهير بدير السلطان، والذى يعود إلى أيام السلطان صلاح الدين الأيوبى، وذلك لأن عدداً، لا يتجاوز العشرة أفراد، من الرهبان المصريين وقفوا وقفة احتجاجية ضد محاولة ترميم الدير رغماً عنهم، خوفاً من العبث به وطمس هويته لصالح الأحباش، وهى مشكلة قديمة دامت سنوات طويلة.. مجرد وقفة احتجاجية من رهبان مسالمين لا يحملون سلاحاً ولا «مولوتوف» ولا قذائف حارقة.. عوملوا مثل المجرمين، وسُحلوا على الأرض بكل قسوة وسفالة. وهذا الفعل ليس غريباً على إسرائيل وشرطتها وقادتها، وهم فى الأساس كانوا زعماء لجماعة إرهابية تسمى «شتيرن»، وكان شامير وبن جوريون ومناحم بيجين -رؤساء إسرائيل- من زعماء هذه الجماعة. لذلك لا يختلف لديهم مفهوم الدولة عن مفهوم العصابة إلى يومنا هذا.. لم أتعجب من الحدث، ولكنى تعجبت من حالة الصمت العالمى الرهيب تجاه ما حدث، والذى يقترب من الموافقة والتأييد.. وهكذا الحال منذ عام 1947، وبعد مذابح اليهود الشهيرة فى «دير ياسين» عندما بقروا بطون الحوامل وألقوا بكبار السن من أعلى المنازل، ووضعوا الرضع فى الأفران، لم تهتز للرأى العالمى شعرة، بل وتم بعدها عقد مؤتمر المائدة المستديرة لتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين، وفى قلب نيويورك تم المؤتمر تحت رعاية مؤامرة أمريكية، ومُنعت بعض وفود الدول التى توقعوا أنها ستصوت ضد القرار من دخول مبنى الأمم المتحدة، وصدر القرار. وفى عام 1967 استولوا على سيناء، وأعلنوا أنها أرضهم، ودفنوا الأسرى المصريين أحياء، ولم يتحرك العالم المتحرر المتحضر الديمقراطى أبوحقوق إنسان. ولولا الضربة القاصمة التى أخذوها عام 1973 لما رضخوا، أو وافقوا على اتفاق سلام مرغمين حتى يتجنبوا الحرب مع مصر مرة أخرى، فهم لا يفهمون إلا منطق القوة.
والحقيقة أن أمريكا وإسرائيل -رعاة الإرهاب فى العالم- تتفقان وتتشابهان فى تاريخ النشأة، فقد قامت أمريكا العظمى على أرض الهنود الحمر، بعد أن شنوا عليهم حرب إبادة شاملة، ولكنهم -والحق يقال- احتفظوا بعدد قليل منهم ليعرضوهم فى متحف خاص للسياح، ولاستعمالهم فى السينما أيضاً. وقد سطروا بأنفسهم هذا الواقع المفزع فى فيلم شهير اسمه «العسكرى الأزرق»، وكان من أقسى الأفلام وأكثرها رعباً، وكذلك دولة إسرائيل التى قامت بأكبر عملية سطو فى التاريخ، سرقت أرضاً، وشرّدت شعباً، بحماية العسكرى الأزرق، فكيف لنا أن نطلب منهم الآن أن يحافظوا على حقوق الإنسان العربى. لقد قسموا شعوب العالم إلى «شعوب بحقوق إنسان»، و«شعوب أخرى بلا أى حقوق»، ووضعونا نحن العرب على رأس القائمة التى لا يتساوى إنسانها مع إنسانهم، خاصة وأمريكا ما زالت تهتف كل يوم أن دعمها لإسرائيل يأتى لكونها الدولة الوحيدة الديمقراطية فى المنطقة.. وهل كان غزو العراق وسرق ثرواته وما حدث فى سجن أبوغريب إلا رغبة أمريكية لصناعة دولة ديمقراطية سوف تحسدها عليها بقية الدول العربية، كما قال بوش الصغير يوماً ما، وما زلنا نشاهد الحراك الديمقراطى فى العراق ولكن بلا حسد.. وهل ما حدث بعد ذلك فى سلسلة الرعب والخراب الشهيرة بالربيع العربى التى استباحوا فيها ثروات المنطقة بكل همجية وكذب وإجرام إلا هتاف أمريكى بصنع ديمقراطية فى العالم العربى؟ متى تفيق الدول العربية وترفض هذا التسلط الكاذب بحجة حقوق الإنسان؟، متى نرفض التدخل فى شئوننا الداخلية، ونرفض الوصاية البغيضة والصلف والغطرسة ونعلن الاختفاء القسرى لحقوق الإنسان؟.