الدكتور محمد نور فرحات يكتب: البحث عن ضمير المصريين.. فى عطاء المعدمين!
نصطحب القارئ إلى مناهل الفكر الخصب للراحل العظيم سيد عويس فى بحوثه عن الضمير القومى للمصريين. الضمير القومى يتميز عن الثقافة القومية. الثقافة فى تعريفها الشائع هى مجموعة الأفكار والمعتقدات والقيم والإبداعات فى جماعة ما وفى عصر ما. الثقافة القومية وإن كانت عابرة للأجيال إلا أنها متغيرة بتوالى العصور. ثقافة المصريين فى العصر العثمانى تختلف عنها إبان حركة التحديث فى القرن التاسع عشر تختلف عنها الآن. الخبرات الحياتية المتنوعة ومستوى التعليم ومضامين الوعى والإبداع تؤثر بلا شك على الثقافة المجتمعية.
الضمير القومى هو الوعى الكامن فى وجدان الأمة والذى يحظى بثبات نسبى ولا يتغير سريعا بمرور الزمان. أبرز من كتب فى ملامح الشخصية المصرية جمال حمدان ونعمات أحمد فؤاد. وبوسع النظرة الثاقبة لمجتمع ما أن تلتقط خصائص ضميره القومى. أبرز مثال على ذلك حديث ابن خلدون عن العرب والعجم والبربر، وأحاديث الرحالة الأجانب، كحديث وليام لين عن طبائع وأخلاق المصريين المحدثين.
أهم الباحثين المعاصرين الذين غاصوا فى أعماق الضمير القومى للمصريين باتباع المنهج العلمى هو أستاذنا المرحوم الدكتور سيد عويس. عاصرته شاباً يافعاً فى الستينيات يجلس فى حجرته بالمركز القومى للبحوث الإجتماعية والجنائية محاطاً بصفوف عالية من الكتب وبجماعات تلاميذه من شباب باحثى المركز يعلمهم ويمازحهم.
ورغم اطلاعه الواسع على الثقافة الغربية (فهو خريج الجامعات الأمريكية) فلم يكن يرقب مجتمعه متعالياً، بل كان مندمجاً فى ثقافة شرائحه الواسعة منذ بدأ عمله فى جمعية الخدمات الاجتماعية بحى بولاق. مؤلفاته محاولات غواص فى بحر الثقافة لجمع اللآلئ من قاع مجتمع ذى نسيج مركب. كتب أبحاثاً عن: ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى، والخلود فى التراث الثقافى المصرى، وظواهر العنف، وفى معنى الثقافة، وفيما أسماه بهتاف الصامتين (الدلالات الثقافية للكتابة على سيارات النقل)، وفى عطاء المعدمين- نظرة القادة الثقافيين المصريين نحو ظاهرة الموت والموتى وغير ذلك.
أتوقف عند حديثه عن الضمير الجمعى للمصريين فى كتابه (عطاء المعدمين). الضمير الجمعى عنده هى السمات الأصيلة المتجذرة فى طابعنا القومى. نحن لا نعرفها بوضوح ولكنها تحرك سلوكنا نحو هذه الوجهة أو تلك. ويجزم الباحث بوجود العناصر الثقافية المتصلة على مر الزمان فى المجتمع المصرى متمثلة النظرة للموت والموتى (… فالشكوى إلى الموتى وطلب الحاجات منهم فضلاً عن إرسال الرسائل إليهم كانت كلها أموراً يمارسها أجدادنا المصريون القدماء. والصلة بين ظاهرة الموت وظاهرة النوم، ومفهوم القرين، وعوامل وجود ظاهرة الموت، ووجود آلهة أو ملاك للموت، وعدم خشية الموتى، والاعتقاد بوجود حياة بعد الموت ستكون حياة ثواب أو عقاب، وفى وجود حياة فى القبر، وفى حساب الآخرة أو حساب الضمير، وفى وجود الجنة وشجرة الحياة أو شجرة الخلد… كل هذه أمور استمر المصريون على مر الأجيال وتعاقب وتعدد المعتقدات يؤمنون بها ويمارسون الحياة على هديها). وهم يقرنون الموت أحيانا بمنتهى اللذة، فيقولون (أحبك موت) و(أموت فيك) والطعام (لذيذ موت)، ولا يوجد شعب آخر يتعامل مع الموت بكل هذا الشغف. ولاهتمامه بدراسة علاقة المصريين بالموت، رصد سيد عويس ظاهرة إرسال المصريين الرسائل إلى الأضرحة. وعكف على تحليل مضمون رسائل البسطاء لقاضى الشريعة وفقيهها الإمام الشافعى. منها رسائل عامة تطلب عقد محكمة من أهل البيت لإزالة إسرائيل وحماية المقدسات على ألا يستغرق ذلك أكثر من أيام، ومنها رسائل خاصة بالعلاقات الزوجية، ومنها ما يتعرض له الشاكى من مظالم على يد الحكام والمحكومين على حد سواء.
هل يوجد تشابه بين ظاهرة رسائل المسلمين إلى الأولياء واعتراف المسيحيين أمام كهنة الاعتراف؟ وهل ثمة علاقة بين يقين المصريين فى عدل السماء ويأسهم من عدل الدنيا؟
التراث الفرعونى يصور (الإله أوزوريس جالسا فوق عرشه فى نهاية قاعة المحاكمة، وعندما يسود السكون الرهيب، يبدأ الروح الزائر فى ترتيل اعترافاته ولا يعلق أوزورويس على ذلك بشىء، ثم يلاحظ الروح وهو يرتعد خوفاً من الآلهة وهم يضعون قلبه فى الميزان الذى يحمله (أنوبيس) ملك الموت بينما تكون الإلهة (ماعت) إلهة الحق والعدل، ورمزها ريشة النعام فى كفة الميزان المقابلة، فإذا تبين أن القلب لم يكن ثقيلا أو خفيفا… يسجل (تحوت) حكم المحكمة بالبراءة… ثم يهتف ملك الموت (أنوبيس)، إنه فاز بالنصر، دعوه ليسكن مع الأرواح والآلهة فى حقول السعداء (عطاء المعدمين ص ٦٢).
ويطنب سيد عويس فى سرد العناصر المشتركة لدى المصريين على اختلاف عصورهم وعقائدهم ودياناتهم نحو الموت. إنهم جميعا يرونه انتقالاً إلى حياة أخرى يسودها العدل. ويرفضون التفسير الكيميائى لظاهرتى الحياة والموت بأنهما تعكسان قدرة الخلايا الحية أو عجزها عن التجدد والتمثيل، ويعتبرون أن هذه التفسيرات من قبيل الكفر والهرطقة. وأضيف من عندى ما استجد بعد رحيل سيد عويس من عوامل التشويه التى تمارسها الثقافة السلبية المستحدثة على ضمير المصريين. فقد أصبح الموت لدى الشرائح العليا مناسبة للتفاخر والرياء الاجتماعى على صفحات الصحف وفى السرادقات. والمدهش أن المصريين أصبحوا لا يكتفون بالغش الاجتماعى والإلكترونى فى امتحانات مدارسهم بل نشهد فى مراسم الدفن واعظاً يقف على حافة القبر يُملى على الميت أسئلة حساب القبر وأجوبتها. غش الإجابات فى الحياة وفى الممات رغم أن الموت هو الحقيقة المطلقة التى لا ينفع بعدها كذب.
أجرى سيد عويس أبحاثه فى حدود المجال الذى يأمن فيه المصريون بطش السلطة. يصدق ذلك على دراسته لرسائل المصريين لضريح الشافعى، أو فى استبيان رأيهم فى الموت، أو فى رصده للعبارات على سياراتهم المسرعة بعيداً عن ملاحقة البطش.
هناك شعوب محبة للحياة (فى والبرازيل ولبنان) وهناك شعوب رقصت مع آلهتها القديمة (اليونان مثلاً) وشعوب مجدت القانون (روما القديمة) وشعوب تمجد العمل والنظام (اليابان وألمانيا) وشعوب براجماتية تنحنى للأقوياء وتحتقر المستضعفين (أمريكا) وشعوب تعشق الفنون والإبداع (فرنسا وإيطاليا)، أما المصريون فهم يتحرقون شوقاً لعدل الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
عبقرية سيد عويس أنه سلط الضوء باهراً على العناصر الكامنة فى الضمير المصرى وهى الشوق إلى عدل الآخرة، للتعويض عن ظلم الدنيا وجبروت أهلها. وتحت هذه الخاصية تستطيع أن تدرج مئات الصفات الفرعية سلبية وإيجابية.
لم يكن أحد ليتوقع من الباحث استخلاص الدلالات السياسية المعروفة. ويكفينا أنه أعلن صراحة أن مصر لن تتقدم إلا بسيادة المنهج العلمى فى كل مناحى حياتها المادية وغير المادية.
وتفسيرنا لذلك أنه مع شيوع واستمرار القهر التاريخى للمصريين تعمد حكامهم تهميش العلم والتعليم فى حياتهم. فالعلم عندنا ظاهرة خارجية نمارسها أحيانا دون أن نتمثلها كمنهج للحياة.
ومع ذلك لم يمنع الشوق إلى عدل الآخرة المصريين من الثورة على حكامهم المستبدين عندما يكون ظلم الدنيا أكثر من قدرتهم على الصبر انتظارا لعدل الآخرة. ولا يحتاج المصريون إلا لمن يعطيهم الأمل ورسم طريقهم نحو تحقيقه، وذلك ما تحرص على وأده بكل السبل نظم الحكم المستبدة.