الدكتور رفعت السعيد يكتب: الإعلام ظالم ومظلوم
تتصاعد فى أيامنا المرتبكة شكاوى واتهامات مريرة ضد الإعلام الفضائى والمكتوب. والبعض يوجه اتهامات حقيقية وأخرى ملتبسة ويتبدى الأمر وكأننا مطالبون إما بكبت الإعلام أو تقبل كل ما ينطق به. والإجابة بالطبع لا هذا ولا ذاك.
لكن أحدا لا ينكر أن البعض تجاوز الحد.. والإجابة «معلش» أو «نخرسهم». وإن كنت أود أن أقرر أن المشاهد والقارئ ينالهما كثير من الأذى بتقبل أى من الكلمتين، فبعض البرامج وسعيا وراء «الإعلانات» التى تحدد أجر مقدمها تجعله يصرخ ويكذب ويتقول، وينفخ فى نفوس المشاهدين توترا جعل أحد كبار الأطباء النفسيين يكتب فى روشتة العلاج كدواء عبارة «مع الامتناع عن مشاهدة برامج التوك شو».
والقصة قديمة قد ترجع ببداياتها إلى ثورة يوليو حيث أعلنت منذ البداية «السعى لتحقيق ديمقراطية (سليمة)» فكانت هذه الكلمة المطاطة محورا لصراعات ومماحكات. ثم تتصاعد الآن كلمة «الحرية المسؤولة» وهى كلمة زئبقية لا يمكن الإمساك بها، ونقول إننا ابتداء نقر ونقرر أن حق الإعلام فى التعبير مسألة مفترضة بل مفروضة بنصوص دستورية حاسمة، ولكن (وهى كلمة تعنى الاستدراك) ما هى حقوق المتلقين الذين قد تؤذيهم أو تؤذى أولادهم مفرداتها، وما هو حق من توجه ضدهم هذه المفردات سواء فى أشخاصهم أو سمعتهم أو شرفهم؟ ويقول الإعلاميون بحقهم وحق المتلقى فى نقل «الخبر» فما هو تعريف الخبر؟ وأقترح التعريف التالى «الخبر هو الإعلام عن فعل أو موقف جدير بالمعرفة»، ويبقى المأزق فى تحديد ما هو الجدير بالمعرفة؟ ولماذا؟ ولمن؟ وعلى حساب من؟ وفى أى مجتمع؟ وتجاه أى تقاليد مجتمعية أو دينية؟ فالبرامج والمطبوعات الفضائحية تخترق خصوصيات شخصيات وفئات محددة فتصبح الأكثر توزيعا أو الأكثر مشاهدة بغض النظر عن مدى الإيذاء الذى تسببه للشخص أو حتى للمتلقى.
وينسى هؤلاء أن الدستور والقانون يمنعان ذلك، فإن تمردوا عليهما فهناك المواثيق الدولية، فالعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ينص «أن لكل شخص الحق فى الحماية القانونية ضد التعدى على شرفه وسمعته» (م17) ويؤكد الإعلان العالمى لحقوق الإنسان «لا يجوز إخضاع أى شخص للتدخل المتعسف فى خصوصيته أو عائلته أو منزله أو مراسلاته أو للتعدى على شرفه وسمعته» (م12)
لكن هذه الحماية تتفاوت. فالمسؤولون والسياسيون والفنانون وكل من يتصدون للعمل العام أقل قدرة على الاستمتاع بهذه الحماية. وقد استقر الفقه فى مصر والعالم على قول الفقيه القانونى بارتلمى «لا جدال فى أن للشخص العادى الحق المطلق فى أن يترك وشأنه، ولكن فى ظل الديمقراطية عندما يقدم المرء نفسه إلى مواطنيه بأنه جدير بأن يحكمهم أو أن يتولى شيئا من أمرهم، فلا أعتقد بأن له الحق فى إقامة الخنادق حول نفسه وأن يصطنع مناطق محرمة حول تصرفاته. فإن من يهب نفسه للعمل العام يهبها بالكامل».
ويؤكد هذا الرأى د.محمد عبدالله فى كتابه جرائم النشر وهو رأى ينطبق على الفضائيات التى لم تكن موجودة عند صدور هذا الكتاب «إن درجة تحمل الشخص العمومى تتناسب طرديا مع نوع المسؤولية التى يتولاها ومدى جسامتها، فكلما كان المنصب الذى يتم التصدى له حساسا ومتصلا بعواطف الجمهور زاد ما ينبغى أن يتحمل من وطأة حرية الفكر فيما يتعلق بالشؤون العامة للرجل العام. ويجب عليه أن يسلم بإمكانية أن يحكم عليه بعض الناس وهم فى حدود حسن النية حكما قد يكون مبناه إساءة الظن نتيجة للقلق الطبيعى على ما يعتقدون أنه حيوى بالنسبة لهم» (ص114)..
وهنا نلاحظ أنه حتى الشخص العام تتحصن حياته الشخصية وإنما يكون التعرض له فى حدود «الشأن العام للرجل العام»، كما يجب أن يكون الأمر فى حدود حسن النية. بمعنى أنه لا يجوز أن يكون هناك سوء قصد، «ويتعين على النيابة العامة فى حالة رفع الدعوى استكمال التحقيقات وإلزام جهة الإدارة بتقديم المستندات الدالة على صحة أو عدم صحة الواقعة المنسوبة إليها أو إلى أحد رجالها. ذلك أن مهمة النيابة العامة ليست فقط إثبات التهمة بل إن وظيفتها استكمال التحقيقات بجميع صورها، وعلى المحكمة أيضا أن تتثبت بنفسها من خلال إجراءات المحاكمة هذه الحقيقة» (د.فتحى سرور- الحماية الدستورية للحقوق والحرية – ص 750).
لكن الأمر لا يعنى توجيه الاتهامات بالحق أو بالباطل بل يتعين «على من وجه الاتهام أن يقدم بيانا بالأدلة على صحة وقائع القذف مثل صور المستندات وأسماء الشهود وبعد ذلك يترك الأمر للنيابة لتحقيق الأدلة واستدعاء الشهود وطلب أصل المستندات» (د.محمد باهى أبويونس- التقييد القانونى لحرية الصحافة – ص 441).
وهكذا فإن صاحب الادعاء ملزم بأمرين «صحة الوقائع» و«حسن النية» لكن القضاء المصرى يرى «أن ركن حسن النية فى جريمة القذف يتمثل فى أن يكون الطعن صادرا عن حسن نية أى الاعتقاد بصحة الوقائع وخدمة المصلحة العامة وليس عن قصد التشهير والتجريح» (نقض -22-12-1959 سنة 10 قضائية). ونأتى بعد ذلك إلى مسألة حماية الأخلاق العامة والقيم الاجتماعية المستقرة وحماية المواطن العادى من تأثير قنوات التأسلم التى تروج الخرافة والأباطيل المناهضة لصحيح الإسلام، علما بأن مراعاة الأخلاقيات الاجتماعية تختلف من بلد لآخر، فمثلا القول بأن السيدة فلانة تقيم مع فلان دون زواج وإنهما ينتظران مولودا. فهذا الخبر طبيعى وليس قذفا فى المجتمعات الأوروبية لكنه باليقين قذف فى مصر.
ويبقى بعد ذلك دور نقابة الصحفيين فهى بحاجة إلى حماية المجتمع وحماية الصحفى ويجب ألا تكتفى بانتظار وقوع جريمة قذف أو انتهاك للقيم أو تعد على صحيح الدين ثم تنهض لتدافع عن المخطئ.