الدكتور قدري حفني يكتب: العلاجات النفسية .. بين الحاضر والمستقبل
تلقيت أخيرا دعوة كريمة من الصديق الدكتور محمد غانم باسم «المؤسسة العربية للعلاجات النفسية» لافتتاح موسمها الثقافى الأول؛ وقد استوقف انتباهى أنه على رأس تلك المؤسسة الشابة نخبة من الأطباء النفسيين بالإضافة إلى نخبة من المعالجين النفسيين من غير الأطباء؛ وهى سمة تشى بتأكيد فكرة «الفريق» فى مجال العلاج النفسى وهى الفكرة التى دشنها منذ سنوات طوال الأصدقاء أحمد عكاشة ومحمد شعلان و يحيى الرخاوى و ما زال تلامذتهم على الدرب سائرين.
لقد ألفنا طويلا الحديث عن «العلاج النفسي» مستخدمين صيغة المفرد وألف لام التعريف؛ ولقد بدأ استخدام هذا المصطلح الأحادى مع نشأة العلاج النفسى الحديث باعتباره فرعا من فروع الطب يقوم أساسا على التعامل مع «المرض» باستخدام العقاقير التى تحدث تأثيرها بصرف النظر عن هوية «المريض».
ولم يكن ذلك الفصل الذى قد يبدو اليوم متعسفا بين «المرض» و«المريض» أمرا غريبا على تراث الممارسة الطبية المتخصصة التى تقوم على التسليم ابتداء بأن البشر بل الكائنات الحية جميعا أقرب إلى التشابه بل التطابق من حيث بنية ووظائف الجسد التى تشمل بطبيعة الحال الوظائف النفسية. ولكن ترى كيف كان الأمر قبل ذلك؟ ترى كيف كان الإنسان البدائى القديم يتعامل مع علل النفس والجسد؟ من الذى كان يلجأ إليه أسلافنا القدامى التماسا للشفاء؟ إنه «الحكيم»
فلنقترب قليلا من صورة ذلك «الحكيم» القديم. الذى يظهر فى الرسومات رجلا كان أو امرأة إنسانا عجوزا أشيب الشعر منحنيا على عصاه. إنه صاحب المعرفة الشاملة: بالدين والإنسان والمجتمع. داعية ومصلحا اجتماعيا ومعالجا شاملا. كان ذلك الحكيم القديم يعالج علل الجسد والروح. يقرأ الطالع ويرصد حركة النجوم متنبئا بالمستقبل. يعالج بالحديث المطمئن الباعث على الطمأنينة و بالتفاعل اللفظى وبالأعشاب وبالحمية.
وظل الإنسان ينظر بوقار إلى ذلك الحكيم يلتمس لديه السبيل لسعادة الروح وصحة الجسد؛ و تعددت وتتالت وتداخلت صور الحكيم من «الساحر» الذى يخلص الفرد من الأرواح الشريرة المسببة للمرض والتعاسة مستخدما الرقى والتعاويذ؛ إلى «الكاهن» الوقور الصارم الذى لديه القدرة على تخليص الأجساد من الأرواح الشريرة التى تتسبب فى مرض الإنسان وتعاسته؛ إلى الحكيم الفيلسوف الطبيب. وأخيرا جاء عصر العلم، وبدأت العلوم تتوالى فى الخروج من عباءة «حب الحكمة» أى الفلسفة. بدأت علوم الفلك بالاستقلال فكانت أقدم العلوم وهى فى نفس الوقت أكثر العلوم الحديثة ارتباطا بالتصور الشائع عن ارتباط سعادة الإنسان وتعاسته بأوضاع النجوم لحظة ميلاده. ولم تلبث أن انطلقت من عباءة الفلسفة علوم الطبيعة الجامدة وعلى رأسها الفيزياء سيدة العلوم وأشدها ضبطا، وتلتها علوم الطبيعة الحية فكانت البيولوجى والفسيولوجى والكيمياء، ثم العلوم الطبية باعتبار مجال اهتمامها الأساسى هو «الجسد» المادى للإنسان؛ وظلت علوم النفس والاجتماع ولكن إلى حين؛إلى أن انفصلت عن الفلسفة أو استقلت عنها وفقا للتعبير الشائع.
وبدا أنه لم يعد فى عصر العلم الذى شهدت البشرية بزوغه فى العصور الوسطى مجال لذلك «الحكيم» صاحب المعرفة الشاملة. لقد أصبحنا حيال علوم متخصصة تتصف بالموضوعية والدقة؛ وتوالدت التخصصات الدقيقة بسرعة مذهلة لتفتت تلك العلوم بعد أن فتتت «الحكمة» وجزأت الإنسان.
لقد بزغ ما يعرف بعلم النفس الحديث حين قام فونت بافتتاح معمله فى لايبزيج بألمانيا، ولعل مصطلح «المعمل» يشى بانبهار فونت بالنموذج الفيزيقى فى العلوم حيث ترتبط صورة الطبيب العالم بالبالطو الأبيض وأنابيب الاختبار والغرف المعقمة والنظرة اليقينية الواثقة التى لا تتأثر بالعاطفة ولا الانحياز. وكان طبيعيا والأمر كذلك أن يخفت الحديث فى مجال العلاجات النفسية عن المريض، ليحل محله الحديث عن المرض. وأن ينصرف الجهد لعلاج المرض دون نظر لهوية المريض؛ باعتبار أن للأمراض قوانين محددة تحكمها ظهورا واختفاء أشبه بقوانين الفيزياء لا علاقة لفاعليتها بتباين النوايا والمشاعر والزمان والمكان والهوية. لقد أولينا ظهورنا فى عصر العلم الحديث لذلك الحكيم العجوز صاحب النظرة الشاملة، ولكنه فيما يبدو قد تمكن من دس اسمه لدى جماهيرنا لنظل نطلق على الطبيب اسم االحكيمب و«الحكيمباشي» و«حكيم الصحة». إن نظرة متأنية إلى حاضر العلاجات النفسية تشى فيما يبدو لى أنها تمر بمرحلة مخاض تحاول فيها رتق الفصل بين المرض والمريض وبين المعالج النفسى ومجتمعه. ولعلنا نستطيع رصد بعض ملامح ذلك الحاضر:
أولا ـ تزايد دور الطبيب الممارس العام و السماح له فى بعض البلدان بتشخيص وعلاج بعض الأمراض النفسية التى لا تحتاج للإحالة إلى متخصص.
ثانيا ـ انتشار الدعوة إلى إدخال دراسة الإنسانيات ضمن مناهج كليات الطب.
ثالثا ـ انتشار ما يطلق عليه برامج التنمية البشرية أو بالأحرى التنمية الذاتية؛ ورغم ما يثيره ذلك الانتشار من رفض له مبرراته لدى المتخصصين فى العلاجات النفسية؛ فإن الإقبال الجماهيرى على تلك البرامج لا يمكن تفسيره إلا بالحاجة إلى ما تقدمه.
رابعا ـ تزايد إسهامات المعالجين النفسيين فى طرح رؤاهم عبر الوسائط الإعلامية العامة بالنسبة للعديد من المشكلات التى تتجاوز تخصصاتهم الضيقة: من الفقر إلى الإرهاب إلى الزيادة السكانية إلى آخره.
ترى هل نبالغ كثيرا إذا ما تلمسنا فى تلك المظاهر المحدودة ما يشى بشوق إلى من يلعب مجددا دور «الحكيم» الذى هجرناه مليا.