أمينة شفيق تكتب: الحوار والقضية السكانية
أعلن الاستاذ ضياء رشوان المنسق العام للحوار الوطنى ونقيب الصحفيين ان القضية الاجتماعية التى طرحت للمناقشة فى جلسات الحوار ستتناول خمسة مجالات منها التعليم والصحة.. ثم الهام هنا.. القضية السكانية. سوف أتناول القضية السكانية لسبب بسيط، وهو ان القضايا الاخرى تحتاج الى خبراء متخصصين فيها كالأطباء والتربويين وعلماء الاجتماع، اما القضية السكانية فهى قضية تحتاج الى رؤية اجتماعية عامة يملكها الرجال والنساء معا، لأنها فى الاساس قضية مجتمعية عامة تمس التطور الاجتماعى العام والثقافة والتقاليد والفهم الكامل لمعنى الثقافة المتبقية من النظام الزراعى القديم الذى لا يزال يجرى فى مجتمعنا. فنحن الى الآن نعتبر مصرنا بلدا زراعيا. وهذا خطأ كبير لأن مصر جغرافيا تقع على حافة الصحراء الإفريقية الكبرى التى تزرع فى واد ضيق صنعه بالصدفة اخدود شقها من الجنوب الى الشمال. كما ان الزراعة كانت مهمة عندما كنا 14 مليون نسمة (مثلا ابان ثورة 19) وكانت الزراعة تشكل نسية 15% من الناتج الإجمالى القومى ( ولا تزال ) فى حين ان عددنا الآن تجاوز المائة مليون نسمة.فنحن إذا لسنا بلدا زراعيا ولكننا فى الاساس بلد صحراوى يعيش ويصنع وينتج من القدم على واد صاغه نهر كان متشعب الفروع ثم روضه الانسان وصاغ منه فرعا واحدا واسماه النيل. ولكننا فى النهاية نعيش تحت تأثير تقاليد مرحلة الزراعة غير الحديثة.
وعندما نناقش القضية السكانية فإننا نناقش فى الأساس قضية تمس مراحل التطور الاجتماعى والاقتصادى والثقافى التى تأخرنا فى تجاوزها، لأسباب داخلية وخارجية، فاستمرت تضغط بعاداتها المتخلفة على حياتنا العامة والخاصة. تماما كما الامية. فهى ناتج هذه المرحلة من التطور الاقتصادى الاجتماعى الذى لا يحتاج الانسان المتعلم بل يتعايش فى سلام مع الامى فيبقى الانسان أميا لأنه يستطيع التحرك بكل حرية دون احتياجه لـ فك الخط.
فالوضع الطبيعى ان تتطور المراحل الاجتماعية والاقتصادية من الزراعية المتخلفة الى الصناعية الاكثر تقدما التى تفتح امامه أفاقا واسعة تجعله يجنح ومن تلقاء نفسه الى تلك الامور التى بدونها لا يستطيع التفاعل مع الحياة المعقدة الجديدة. فالحياة فى المناطق الصناعية التى هى جزء من مرحلة التطور الاجتماعى تفرض على الانسان قيودا وواجبات لا توجد ولم يستوعبها عندما كان فى الريف ويعمل فى الزراعة فقط. ويعيش وينتج معتمدا على ما تجود به الطبيعة من مياه و أشعة شمس. اما فى المناطق الصناعية فهو ينتج ويصنع ويضيف الى الخامة جهدا وفكرا فيصنع الجديد. فيكتسب هو شخصيا صياغة جديدة تجعله اكثر تنظيما، واكثر قدرة على التفاعل مع البيئة المحيطة به. فيتعلم أن كثرة الإنجاب تعنى كثرة الانفاق وأن المدرسة والتعليم هما اساس الحراك الاجتماعى السليم، ولذلك لابد من فك الخط. ويمكن ان نتأكد من بعض هذه الحقائق قبل اتخاذ القرارات فى جلسات الحوار إذا ما نزلنا الى منطقتين احداهما صناعية والثانية زراعية ونفتش فيهما عن الحقائق التى دائما ما تغيب عنا ونحن نناقش قضايا اجتماعية كالقضية السكانية. لذا يجب ان نعترف ان احد أسباب الزيادة السكانية يعود الى اننا لم نعبر مراحل التطور الاجتماعية، فنحن لم نصبح وطنا صناعيا كما اننا أبقينا على الزراعة متخلفة وغير حديثة. وبالتالى أبقينا على الانسان المصرى انسانا يعيش تحت تأثير التقاليد والعادات الزراعية المتخلفة كالأمية وكثرة الانجاب وختان الاناث والزواج المبكر. وبسبب إهمال العدالة الاجتماعية فقد تركنا العادات والتقاليد الريفية المتخلفة تزحف على المناطق الصناعية والمدينية خاصة على العشوائيات والمناطق الفقيرة التى تستقبل الهجرة الداخلية.
وللأسف ليس هذا الحديث جديدا وإنما مكرر كتب وقيل عدة مرات من أناس كثيرين كانوا على علم ودراية بأبعاد هذه القضية ونبهوا اليها حتى لا نبالغ فى مطالباتنا من الباحثين عن حلولها. فى العقد الستينى من القرن الماضى اثيرت لأول مرة قضية الزيادة السكانية. وقال بعض القائمين عليها إنها بسيطة تحل بالقليل من الدعاية والاعلانات. بينما فكر البعض فيها كقضية اجتماعية تحتاج الى وقت طويل وجهد كبير. لكن مسئولينا اختاروا الحل الأول لانهم تصوروا ان السرعة ستوصلهم إلى حلها. وأصبحنا من وقتها نعمل على حلها دون جدوى أو ببساطة نكرر ما فعلناه فى المرة الاولى والثانية والثالثة . . ونعيد ما فعلناه ثم ننتظر بعض الوقت لنعيد الكرة بعد الكرة. وربما كانت العثرة الكبرى التى وقعنا فيها خلال سبعينيات القرن الماضى عندما فتحنا البلد على الانفتاح السداح مداح الذى فكك البؤر الصناعية التى بنيت وانتجت وبات لها تأثيرها الإيجابى على المجتمع وتحديدا على قضيتين هما القضية السكانية وعلى محو الامية. وفى الحقيقة مررنا بما كنا نشعر به كالنكسة الاجتماعية التى أخرجت النساء من قوة العمل واحالت الرجال على المعاش المبكر. وفى الحقيقة انها فى الاساس فرغت البلاد من وحداتها الانتاجية المصرية التى كانت تمد الاقتصاد بالمال والقوة وتمد المجتمع بملامح الخروج من المجتمع الزراعى المتخلف الى المجتمع الصناعى المتقدم. . وإن احتاج لوقت أطول من غيرنا فى البلاد السابقة علينا. وقيل ايامها اننا ننتظر الاستثمارات الاجنبية التى ستقفز بالبلاد سريعا الى الامام. ولم تأت الاستثمارات ولم تحدث القفزات، وإنما حدثت التراجعات العامة، فى الاقتصاد وفى القيم، التى دفعتنا اليوم الى البداية من اول وجديد.
وعلينا ان نعترف أن محاولاتنا بها مكاسب وبها أخطاء. فكنا فى حاجة الى تعظيم المكاسب ومعالجة الأخطاء. ومن هنا لابد ان نعترف أننا نحتاج الى الوقت والجهد اللازمين لتحقيق الحلول الخاصة بالقضية السكانية. وهنا لا نحتاج الى الحوافز السلبية أو الايجابية قدر ما نحتاج الى فهم جيد لظروف مجتمعنا الاقتصادية والاجتماعية كى نتناول قضيتنا هذه بالصبر والوقت. فنحن لا نشكل آلة وإنما نغير عقولا تمارس عادات وتقاليد، ونحاول عبور مرحلة التطور الزراعى المتخلف ببناء الصناعة وتطوير الزراعة.