الدكتور نبيل فاروق يكتب: الحشاشون.. الوهم والحقيقة
منذ ظهرت جماعة الإخوان الإرهابية للوجود، عند تأسيسها، فى الثانى والعشرين من مارس، عام ١٩٢٨م، على يد مؤسسها حسن البنا (١٤ أكتوبر- ١٢ فبراير ١٩٤٩م)، تظهر وتختفى، على نحو غير منتظم، مقارنة بينها وبين جماعة قديمة، يطلق عليها التاريخ اسم (جماعة الحشاشين) وهى طائفة إسماعيلية نزارية، انفصلت عن الفاطميين، فى أواخر القرن الخامس الهجرى- الحادى عشر الميلادى، لتدعو إلى إمامة نزار المصطفى لدين الله، ومن جاء من نسله.
اشتهرت تلك الطائفة ما بين القرن الخامس والسابع الهجرى- الحادى عشر والثالث عشر الميلادى، ولقد اسس الطائفة الحسن بن الصباح (٤٣٠ هـ – ١٠٣٧م – ٥١٨ هـ – ١١٢٤م) والذى قضى معظم حياته، منذ تأسيس طائفته، فى قلعة الموت، وهى قلعة حصينة، كمعظم معاقل الطائفة، ترتفع ما يقرب من كيلو مترين عن سطح الأرض، فى فارس، التى اتخذها مركزاً لنشر دعوته، وترسيخ أركان دولته، فى إيران والشام، ولقد جلب هذا إلى طائفته عداءً شديداً، مع الخلافة العباسية والفاطمية، والدول والسلطنات الكبرى التابعة لهما، كالسلاجقة والخوارزميين، والزنكيين والأيوبيين، بالإضافة إلى الصليبيين.
وعلى الرغم من الحروب المستمرة، طوال ما يقرب من ثلاثة عقود، لم تنجح تلك الخلفات والدول، فى هزيمة واستئصال تلك الجماعة، التى اعتمدت استراتيجيتها العسكرية على الاغتيالات الفجة، التى يقوم بها من أسموهم بالفدائيين، الذين لا يأبهون الموت، فى سبيل بلوغ أهدافهم، وكثيراً ما كانوا ينفذون تلك الاغتيالات فى العلن، ودون المبالاة بالنتائج، وربما لهذا تبرز المقارنة بينهم وبين التفجيريين من الإرهابيين، فى زمننا هذا، مما جعل هؤلاء أيقونة رعب، فى قلوب الحكام والأمراء، والمعادين لهم، فى تلك الفترة، خاصة وأنهم قد تمكنوا من اغتيال العديد من الشخصيات المهمة جداً، فى ذلك الوقت، مثل الوزير السلجوقى نظام الحكم والخليفة العباسى المسترشد والراشد، وكونراد ملك بيت المقدس.
ومع أن التاريخ كله يطلق على طائفة الحسن بن الصباح اسم الحشاشين، إلا أنه لا يوجد تفسير واضح للتسمية، ففى الرسالة التى كتبها الخليفة الفاطمى الآمر بأحكام الله، عام ١١٢٣م، والمرسلة إلى الإسماعيليين فى الشام ( إيقاع الصواعق الأرغام)، والتى كان الغرض منها نقض مزاعم المصطفى لدين الله بالإمامة، والتأكيد على شرعية الخط المستعلى، استخدم الآمر بأحكام الله مصطلح الحشيشية مرتين، من دون تقديم سبب واضح للتسمية.
مرة أخرى تمت تسمية النزاريين بالحشيشية، فى أقدم كتاب سلجوقى معروف للأخبار، كتبه عام ١١٨٣م، عماد الدين الأصفهانى (نصرة النصرة)، من دون تقديم سبباً لاستخدام التسمية، ولكنه استخدم، فى الوقت نفسه مصطلحى الباطنية والملاحدة، لوصف أبناء الطائفة نفسها … أما المؤرخون الفارسيون، فى الفترة الإليخانية، ومنهم الخومينى ورشيد الدين، وهما المصدران الرئيسيان لتاريخ الطائفة النزارية فى فارس، فلم يستخدما مصطلح الحشيشية أبداً، وإنما استخدما مصطلح الملاحدة فحسب.
وتجدر الإشارة إلى أن النصوص الإسلامية غير الإسماعيلية، المعاصرة، والتى كانت معادية للطائفة النزارية، لم تستخدم أبداً مصطلح الحشيشية، وكل المصادر العربية لم تشر إليهم بهذا المصطلح أيضاً … ولم تتهمهم أبداً باستخدام الحشيش .. وهنا يحار المرء فى سبب تسمية الطائفة باسم طائفة الحشاشين فى التاريخ، بل لقد تم اشتقاق المصطلح الغربى (Assassins ) من اسم الحشاشين، وهو مصطلح يعنى القتلة، أو المغتالين، وهو لفظ أطلقه الصليبيون على الفدائية الإسماعيلية، الذين كانوا يفتكون بملوكهم وقادة جيوشهم، فلقبوهم بـ”الأسّاسّين”.
والبعض يقول إن المصطلح مشتق من الحسّاسين، نسبة إلى أتباع الحسن بن الصباح، الذى أنشأ تنظيم القتلة الفدائيين … والبعض يقول إن مصطلح أسّاسّين مشتق من العساسين أو العسس، الذى يسهرون لحراسة حصون الطائفة والدفاع عنها، وكذلك نجد من يؤكَّد أن أساسين تعنى المؤسسين، الذين أسسوا قوتهم فى قلعة الموت، على قمة الجبال.
وهكذا لن تجد من يمكنه الجزم بسبب مقنع، لتسمية تلك الطائفة بالحشاشين، ولكن المصطلح ارتبط بالطائفة، وأدى إلى ظهور مشتقات اسمها فى اللغات الغربية، حاملة معنى القتل والاغتيال والغيلة والغدر.
وفى رحلات الرحالة الإيطالى الأشهر ماركو بولو، نجد ما أطلق عليه أسطورة الفردوس، وفيها يصف قلعة الموت بقوله: “ كانت فيها حديقة كبيرة، تزخر بأشجار الفاكهة، داخلها قصور منيفة، وجداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، وجاريات حسان، يغنين ويرقصن، ويعزفن الموسيقى، ويجدن فن الحب والغزل، لكى يوهم الحسن بن الصباح أتباعه، بأن هذه هى الجنة، ولم يكن يدخلها إلا من ينتقيه هو”.
ويقول ماركو بولو إنه كان يخدر من يشاء بالحشيش، ثم يتم نقله إلى الحديقة، وعندما يفيق، يتصوَّر أنه فى الجنة، وحوله كل ما يشتهى من متع وملذات، وبعد أن ينعموا ويشبعوا شهواتهم، يتم تخديرهم مرة أاخرى، وإخراجهم من الحديقة، فيشعرون انهم خرجوا من الجنة، وهنا كان يطلب منهم اغتيال فلان أو علان، كوثيقة للعودة إلى الجنة، وكان يقنعهم بأنهم لو لقوا حتفهم، خلال العملية، ستأتيهم الملائكة؛ لتحملهم إلى الجنة والنعيم.
رواية ماركو بولو قد تستطيع خداع البعض، ممن سيجدون فيها صورة مثالية للخداع، أو من سيربطون بينها وبين ما يفعله متطرفو اليوم مع الفارق، عندما يوهمون ضعاف العقول بتفجير أنفسهم، بحجة أنه فور أن يلقوا مصرعهم ستحيط بهم الحور العين فى الجنة.
نفس الأسلوب، مع اختلاف الزمن والمنظور … وعلى الرغم من هذا، فرواية ماركو بولو أشبه بالروايات الخيالية الجامحة، وخاصة أن قلعة الموت قد أبيدت عام ١٢٥٦م، فى حين ولد ماركو بولو عام ١٢٥٤م، وهذا يعنى أنه من المستحيل أنه رأى ما وصفه، وهو بعد فى الثانية من عمره، ولا أحد يدرى من أين أتى بما وصفه، وربما من بعض الروايات الأسطورية، التى ترددَّت، بعد هلاك الحشاشين، وما تركوه من أثر، فى تلك الحقبة.
وبغض النظر عن التسمية، فالتاريخ يقول، إن الحسن بن الصباح قد غادر القاهرة، بعد دراسة عقائد المذهب الإسماعيلى، ووصل إلى أصفهان عام ١٠٨١م، ليبدأ رحلته فى نشر تعاليم العقيدة الإسماعيلية، وركز اهتمامه على أقصى الشمال الفارسى بإقليم اليلم، حيث نجح فى اكتساب العديد من الأنصار، فى تلك المنطقة، وكان منشغلاً بإيجاد قاعدة يمكنه منها نشر عقيدته فى كل البلاد، والابتعاد فى الوقت ذاته عن خطر السلاجقة، وبحث عن معقل ناء ومنيع، يكون ملاذاً آمناً له ولجماعته، فوقع اختياره على قلعة الموت، وهى حصن مقام فوق صخرة عالية، ترتفع ما يقرب من كيلو مترين، وليس لها سوى مدق ضيق لبلوغها، مما يسهل حمايتها والدفاع عنها، ويصعب على أية قوة معادية الوصول إليها فى الوقت ذاته.
وتسللَّ الحسن إلى القلعة سراً، يوم الأربعاء الموافق ٣ سبتمبر ١٠٩٠م، بفضل أنصاره، الذين زرعهم هناك، وظل متخفياً داخلها لبعض الوقت، حتى قويت شوكته، وكثر أتباعه، وأمكنه السيطرة على القلعة كلها، وهنا طرد مالكها الأصلى منها، وأعطاه ثلاثة آلاف دينار ذهبي ثمناً لها، وبذلك أصبح هو سيد قلعة الموت، التى أدار منها حملته، ولم يغادرها طوال خمسة وثلاثين عاماً حتى وفاته.
وعلى عكس السائد فى تلك المرحلة، من اعتبار المواجهات المباشرة شجاعة تكرم المرء حياً، وتعطر ذكراه بعد وفاته، اعتمد على هو نظام الاغتيالات الانتقائية، للشخصيات البارزة فى دول الأعداء، بدلاً من الخوض فى حروب ومعارك تقليدية، قد تؤدى إلى وقوع عشرات القتلى من الجانبين، وهكذا أسس فرقة من أكثر أتباعه المخلصين له، وللعقيدة الإسماعيلية، وأطلق عليهم اسم الفدائيين، ولقد قام بتدريبهم على نحو احترافى يسبق عصره، على فنون التنكر والفروسية، والاستراتيجيات والقتل، وعلمهم الحديث بأكثر من لغة ولسان، حتى صاروا قوة لا يستهان بها، وكان أكثر ما يميزهم هو استعدادهم للموت، فى سبيل تحقيق هدفهم.
وكان على الفدائيين الاندماج فى جيش العدو، أو البلاط الحاكم، بحيث يمكنهم الوصول إلى المناطق الاستراتيجية، حتى ينفذون مهمة القتل والاغتيال، على نحو أشبه بقهر المستحيل، ومن هنا كان مصدر شهرتهم ورعب الكل منهم.
وعبر ثلاثة قرون، نفذ الفدائيون اغتيالات، ضد الأعداء الدينيين والسياسيين للإسماعيلية، وكانت فى معظمها تتم فى أماكن عامة، وفى بعض الأحيان كانوا ينتحرون بعد التنفيذ، تجنباً للوقوع فى أيدى الأعداء … ولقد شن السلاجقة عدة هجمات وحروب عنيفة، فى محاولة لقهر الحشاشين، فى قلعة الموت، إلى أن قررَّ أحد السلاطين اللجوء إلى استراتيجية مختلفة، بعد أن أدرك أن أى هجوم مباشر للاستيلاء على قلعة الموت مستحيل … ولهذا فقد حاصر قلاع الحشاشين، وراح يضربها بالمنجنيق لسنوات، حتى أوشكت على الاستسلام، لولا أن وصلته الأخبار بوفاة السلطان محمد، فتفرق الجند، وانفض الحصار، ونجا الإسماعيليون، ولكن إلى حين، فالموت كان فى انتظارهم، على نحو مختلف تماماً.
فمع الوقت، نمت الحركة وقويت وتعملقت، وصارت منافسة للدولة،بل صارت أشبه بدولة، تقيم التحالفات، وتعقد المعاهدات، وترسم السياسات، حتى بدا وكأنها ستسود بلاد فارس والشام تماماً، حتى ظهر طاغية جديد، لم يعمل له الإسماعيليون حساباً، ولم يقدروا قوته حق قدرها، وهو هولاكو خان (١٢١٧م- ٨ فبراير ١٢٦٥م)، والذى أتى على رأس جيش مغولى جرار، وأدرك أن الإسماعيلية هم القوة الأولى، فوَّجه قوته وضرباته إليهم، وهنا وقعوا فى أكبر خطأ فى حياتهم، إذ بالغوا فى تقدير قوتهم، واستهانوا بقوة خصمهم، ولكن المغول لم يهابوا القلاع الحصينة، ولا الطبيعة الوعرة، وانقضوا على الطائفة بكل عنف ووحشية فى فارس عام ١٢٥٦م، وكانت واحدة من أبشع المذابح، التى شهدها التاريخ، إذ لم يرحم المغول شيخاً أو صغيراً، أو حتى امرأة، وذبحوا الكل بلا رحمة، وأحرقوا القلاع ودمروها، وبهذا انهارت الطائفة تماماً فى فارس، بعد ثلاثة قرون من الإرهاب والاستبداد وإثارة الرعب والفزع.
أما فى سوريا فقد كان الحشاشون قد شاركوا الآخرين فى التصدَّى للتهديد المغولى، وحاولوا كسب ثقة المماليك بإرسال السفراء والهدايا، وعلى الرغم من أن الظاهر بيبرس لم يبد عداءً تجاههم فى البداية، إلا أنه لم يكن يتسامح، مع وجود جيب مستقل، فى قلب سوريا، ولهذا فقد امر بجمع الضرائب والرسوم منهم، وكانت شوكتهم قد ضعفت، بعد ما حدث لرفاقهم فى فارس، فخضعوا، وصاروا يدفعون الجزية، بدلاً من أن كانوا يحصَّلونها من أمراء البلدان المجاورة، وسرعان ما دب الخلاف بين بيبرس وبينهم، فعزل رئيسهم وأتى به سجيناً إلى القاهرة،ثم استولى عام ١٢٧١م – ٦٦٩ هـ على قلعتى العليقة والرصافة، وسقطت قلعة الخوابى فى العام نفسه، ثم راحت باقى قلاع الحشاشين تسقط عام ١٢٧٣م- ٦٧١ هـ ، لتنتهى بذلك دولة الحشاشين فى بلاد الشام، كما انتهت من قبل فى فارس، وبدأ التاريخ يأخذ مساراً جديداً … التاريخ الذى دوماً ما يدور فى دوائر، ويعيد نفسه … ولا يتعلم أحد … للأسف.