جمال الغيطاني يكتب: لزوم ما يلزم حول شخصية مصر
ثمة لوازم متصلة باسم جمال حمدان عندما يخطر لى أو يحلق فى أفق وعيى، أولها بيت شعرى لصلاح جاهين يهّوم دائماً علىّ شأن أبيات مفردة متبقية فى روحى منفصلة عن قصائدها، وربما تتصل بما أطلق عليه العرب «بيت القصيد». يقول العبقرى صلاح جاهين أحد قلائل لمسوا روح مصر الدفينة, تماما مثل جمال حمدان:
ملِّس بخدك ع التراكيب الجيولوجية
والمس بيدك كرمَشات الزمان.
بدون إدراك الجسد لا يمكن فهم الروح، هذا التداخل المكين الغامض الذى لا ندرى ولن ندرى أين يبدأ وأين ينتهى. المكان بمثابة الجسد والزمن فى منزلة الروح. ولا يمكن استعادة لحظة بدون اقترانها بموضع. من هنا كان تفرد مشروع “عبقرية المكان” الذى شغل صاحبه زمناً طويلاً، وكان بمنزلة المفتتح لدور جديد على علم الجغرافيا فلم يسبقه أحد فى طرقه لفهم الهوية والتكوين والأسباب الخفية الكامنة، بث فى العلم الجامد المجرد روحاً لم تكن موجودة، تماما كما حول صلاح جاهين مصطلح الجيولوجيا إلى شعر. أتصور أن المشروع بدأ قبل يونيو 1967، ولكن صدوره على مراحل كان فى إطار الرد الروحى على الهزيمة المروعة، وكان جهده ضمن جهود خلاصة من المبدعين المخلصين, لم يتفقوا على هدف واضح ولكن عبر كل منهم عن موقفه تجاه ما جرى بالفحص والنفاذ إلى جوهر الأسباب لتخطى الكارثة وتجاوزها. «شخصية مصر» فى صورته النهائية محاولة للفهم من خلال المكان. «فهم روح الوطن العريق». حجر الزاوية فى مسار الإنسانية أو كما أطلق عليه جيمس هنرى برستد «فجر الضمير».
من اللوازم الأخرى شخصية جمال حمدان. منذ صدور المشروع فى كتاب الهلال، كنت أحرص على متابعته بالتعريف من خلال عملى الصحفى بجريدة الأخبار، لا أذكر بالضبط متى جرى أول اتصال عبر الهاتف، غير أننى أذكر جيدا تفاصيل زيارته للجمالية التى تجولنا فيها ليلاً، كأن لحظة دخوله مقهى الفيشاوى ماثلة بيننا الآن، كانت أناقته صارمة، محددة، ارتدى حلة كاملة من حرير الشركسكين، وهذا قماش شاع فى الخمسينيات. كان يرتدى رابطة عنق وإذا لم تخنى الذاكرة أمسك بفردة قفاز أبيض عندما صافحنى والأخرى مغطاة بالفردة الثانية، كان أنيقا. بدا لى وكأنه قادم من صفحات رواية مارسيل بروست، «البحث عن الزمن الضائع»، من يراه يظنه أرستقراطيا من الزمن القديم رغم حياته البسيطة جدا، عسرة الظروف , والمسكن المتواضع الذى سمعت أوصافه من قلة محدودة جداً تمكنت من زيارته فيه، أذكر منهم الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى سعى إليه، ومصطفى نبيل رئيس تحرير الهلال الأسبق، والروائى يوسف القعيد، لعلها المرة الوحيدة التى التقيته فيها، غير أنه حاضر عندى دائماً من خلال نصه الفريد والذى أعتبره من أهم إنجازات الثقافة المصرية فى القرن الأخير، ولكم أتمنى أن يُقرأ قراءة نقدية معمقة لمتخصصين فى الجغرافيا والتاريخ ونهر النيل وسائر ما يتصل بمصر. ويمكن للأهرام تبنى هذه الندوة العلمية مع مكتبة القاهرة التى أتشرف برئاسة مجلس إدارتها. من ملاحظاتى أن ما كُتب عن مشروعه لا يخرج عن حدود المراجعة الصحفية، وكثير ممن يتحمسون له لم يقرأوه وتلك ظاهرة موجودة فى الواقع الثقافى.
من اللوازم حوارى الدائم مع مضمونه، وربما بسبب ذلك يقوى وجوده عندى فكأنه حى يسعى, وهذا حالى مع أصحاب النصوص الكبرى الذين عاشوا فى عصور بعيدة لم أعرفها ولكن أنفاسهم لاتزال تتردد عبر مشاريعهم الإبداعية. أحار فى تلخيص أو تحديد الخطوط العريضة للمشروع. غير أننى سأقدم مستعينا بالتلخيص الذى وضعه الدكتور عبادة كحيلة – رحل أخيرا – فى عدد مجلة الفكر المعاصر الصادر عام 1969 برئاسة تحرير الدكتور فؤاد زكريا، والعدد يصب أيضا فى جهود المثقفين المصريين للرد على الهزيمة. يقول كحيلة إن الكتاب محاولة لتفسير شخصية مصر فى إطار بعدين هما الموضع والموقع، مصر محصلة هذين البعدين والعلاقة بينهما، جمال حمدان يحدد ذلك عندما يقول:
«والنظرية العامة التى نقدمها فى تفسير تلك الشخصية الفلتة، هى التقابل – ائتلافا أو اختلافا – بين بعدين أساسيين فى كيانها وهما الموضع Site والموقع Situation، فالموضع نقصد به البيئة الطبيعية بخصائصها وحجمها ومواردها فى ذاتها، أى البيئة النهرية الفيضية، بطبيعتها الخاصة وجسمها المادى. بشكله وتركيبه… إلخ، أما الموقع فهو صفة نسبية تتحدد بالنسبة إلى توزيعات الأرض والناس والإنتاج حول إقليمنا، الموضع خاصية محلية داخلية ملموسة ولكن الموقع فكرة هندسية غير منظورة.
فى إطار هذه النظرية تتحدد أبعاد الشخصية المصرية أولا فى التجانس والوحدة عبر المكان والزمان، وهو ما حتمته ظروف الموضع، وعموده الأساسى النيل، فحدث نتيجة لهذا الانسجام فى التركيب العرقى، لأن مصر تعرضت للغزوات الحربية فى الغالب وليس للهجرات البشرية، أهم هذه الهجرات الهجرة العربية التى هى فى الحقيقة «زواج بين أقارب بعيدين» وقد لعبت الصحراء إزاء هذه الهجرات دور «ماصة الصدمات»، كما أنها ساعدت على تبلور الشعور بالذات الوطنية.
يتصل بهذا البعد بعد آخر وهو المركزية. إن ضيق مساحة المعمور أدى إلى خلق «مركز بؤرى» بين الصعيد والدلتا, أى القاهرة التى أصبحت مركز الثقل الحضارى والسياسى وكان سقوطها يؤدى إلى سقوط مصر كلها.
البعد الثالث، تعادل الموضع والموقع فى مراحل القوة، وتخلف الموضع عن الموقع فى أحوال الضعف.
البعد الرابع، الوسطية، نتيجة عزلة مصر فى الموضع وانفتاحها فى الموقع، إن الوسطية هى مفتاح فهم مصر حتى فى المعتقد الدينى والجمع بين الحاضر والماضى، بين المحلية والعالمية، بين التراث والاقتباس.
البعد الخامس، وجود أربعة أبعاد لمصر، حضارى وسياسى، آسيوى وإفريقى على مستوى القارات، نيلى ومتوسطى على مستوى الإقليم.
البعد السادس، هو الاستمرارية فى تاريخ مصر. هذه الاستمرارية موجودة فى الخصائص المادية للحضارة – المرتبطة بالنيل – والانقطاع موجود فى الخصائص اللامادية لتلك الحضارة.
تلك هى الأبعاد الأساسية التى قرأها الدكتور عبادة كحيلة فى قراءته المبكرة للمشروع وقد أوردت خطوطها العريضة لأننى أتفق معها ولكننى أختلف أيضا فيما يمكن أن اسميه القراءة المضادة ولهذا تفصيل.
من لوازم المشروع عندى الحوار الدائم معه وما يحمله من رؤى، وأبدأ بالمصطلح العبقرى الذى نحته جمال حمدان، أعنى «عبقرية المكان»، يستلزم ذلك عندى عنواناَ نقيضاً «مصيبة المكان». عبقرية المكان أدت إلى ظهور الحضارة المصرية التى قدمت للبشرية ثلاثة إنجازات عظمى ، أولا اختراع الكتابة، ثانياً الزراعة، ثالثاً – وهذا الأهم – الاستدلال على وجود قوة لا متناهية وراء ظهور الكون، سارية فى كافة ذراته، وفى روح الموجودات، اكتشاف الخالق سبحانه وتعالى. تأمل المصريين الدقيق، النافذ, للوجود عبر محورين أساسيين، شرق – غرب, أى دورة الفلك، ميلاد، موت، ثم جنوب – شمال أى النيل، ونزول أول نقطة فيضان والتدرج فى مجىء المياه والذى أصبح سمة أساسية فى القطر المصرى، وتجلياته، الموسيقى، العمارة خصوصاً، رفضهم الفناء الأبدى، وتصورهم امتداد الوجود المبنى على الثواب والعقاب فى الأبدية، والذى أصبح عنصراً أساسيا فى الأديان الكبرى الثلاث. هنا ملاحظة من خلال تساؤل: لماذا ولدت هذه الحضارة المصرية الكونية فى هذا المكان بالذات المحصور بين الشلالات عند أقصى الوادى جنوبا ومصب النهر شمالاً، إذا كان النيل مصدر الحضارة فلماذا لم تتكون هذه الحضارة فى امتداداته الأخرى جنوباً؟ هذا يحتاج إلى فحص دقيق، ولكننى مبدئياً أشير إلى خصوصية المصريين الذين عاشوا فى الموقع.
من ناحية أخرى، أدى المكان الذى يعتبر قلب العالم القديم إلى الغزوات المتعاقبة من الأقوام المحيطين من شتى الجهات، وإلى ظهور مبدأ الاستمرار والانقطاع فى المسارين الروحى والمادى، لم يحدث للحضارة المصرية ما جرى للحضارة الصينية على سبيل المثال، استمرار المعتقد وتطوره من داخله، واستمرار اللغة، وتكون الرؤية المضادة, وهذا يمثل شرخاً فى تكوين المصريين، إنهم يفخرون بحضارة الأجداد فى الوقت الذى يعتبرها عدد منهم وثنية، معادية، نتيجة انتصار الرؤية العبرانية التى تكونت فى مصر، وعناصرها مصرية، وهذا سؤال كبير مازال يحتاج إلى إجابة، لماذا هزمت الرؤية المصرية وانتصرت رؤية العبرانيين، حتى إن الفرعون أصبح رمزا للطغيان رغم أن المعنِىّ فى الكتب المقدسة فرعون واحد (فرعون الزمن الذى ظهر فيه النبى موسى). نتج عن المكان ظاهرة الانقطاع، انهيار الدولة القديمة الذى أعقبته فوضى استمرت قرنا ونصفا من الزمان نتيجة انهيار الدولة، وهذا مخطط له الآن. من هنا تأتى أهمية القراءة الدقيقة، الصريحة للمشروع. أدى ذلك إلى أن تصير مصر أشبه بطائر الفونيكس، أو العنقاء عند العرب، يحترق حتى يتحول إلى رماد ثم يولد من جديد. لقد خصصت كتابى «نزول النقطة» لدراسة هذه الظاهرة، الاستمرارية والانقطاع فى مسارينا الروحى والتاريخى.
بالغ الدكتور جمال حمدان كثيراً فى تقديم عروبة مصر على سائر العناصر، ربما بسبب المد القومى الذى ساد الخمسينيات والستينيات والذى تجاوز المكونات الأخرى، ومازال الأمر يحتاج إلى مزيد من الفحص والجرأة فى البحث الموضوعى، أثق أننا نحتاج إليه وأتمنى أن ننجزه بعد تجاوز المرحلة المضطربة التى نمر بها، مشروع جمال حمدان دليل لنا، حتى وإن اختلفنا مع بعض طروحاته، هذا جزء من عملية ثقافية شاملة ضرورية لتقويم الروح وتصحيح الرؤية إلى المكان وعبقريته.