الدكتور شوقي علام يكتب: مصرنا الكبيرة ودورها الحضاري عبر التاريخ
منذ فجر التاريخ وأرض مصر في مقام الجسر القوي الذي يربط بين قارات العالم ومناطقه الممتدة، بين المشرق والمغرب، وبين الشمال والجنوب، مما جعلها حلقة الوصل الحضارية بين الأديان والأفكار والشعوب، وشجَّع أبناءها على حمل مشاعل الفكر والحضارة على مر العصور.
منذ فجر التاريخ وأرض مصر في مقام الجسر القوي الذي يربط بين قارات العالم ومناطقه الممتدة، بين المشرق والمغرب، وبين الشمال والجنوب، مما جعلها حلقة الوصل الحضارية بين الأديان والأفكار والشعوب، وشجَّع أبناءها على حمل مشاعل الفكر والحضارة على مر العصور.
إن هذا الدور التاريخي الذي بذله أبناء مصر المخلصون جيلًا بعد جيل جعل محيطها الإقليمي والعالمي يبدو وكأنه امتداد حضاري وثقافي؛ نتيجة لما وجدته الشعوب من المصريين من سمات القوة والشرف ومظاهر السلام، وتلمس محاور التعمير وازدهار البلاد وتحويلها إلى حواضر عامرة ومنارات حضارية تَشِّعُ النورَ والحضارةَ والأمنَ والاستقرارَ في ربوعها بالأخلاق والعلوم والفنون.
ويشهد على ذلك استقبال مصر موجات الوافدين والمهاجرين إليها من الأعراق والبلاد المختلفة من زمن قديم وحتى العصر الحاضر، حيث يجدون فيها ملاذًا آمنًا، ويفرون إليها من ظروف حياة قاسية قضت بها طبيعة بلادهم، أو بسبب صراعات وحروب متلاحقة، ويأتي على رأس هؤلاء جملةٌ كبيرةٌ من الأنبياء والرسل والصالحين، من أبرزهم: إبراهيم الخليل وزوجته سارة، ويوسف ووالديه والأسباط، والكليم موسى -الذي ولد ونشأ في أرضها -وأخيه هارون، ثم السيدة مريم وطفلها سيدنا عيسى عليهم السلام أجمعين، فيما يعرف تاريخيًّا بـ”رحلة العائلة المقدسة”، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [المؤمنون: 50].
لقد وجدوا جميعًا في ربوعها الأمن والحضارة والاستقرار، ومن أهلها حلاوة اللسان، وحسن المودة والمحبة، ولطافة الاستقبال، بما يرسم منهجًا أخلاقيًّا طيبًا يشير إلى علو الذوق وسمو الفكر والأدب لدى هذا الشعب الطيب المبارك، وإلى ذلك يشير قول الله تعالى في خاتمة قصة سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99]، وفي قصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل مع فرعون وقومه بيانٌ في آيات جامعة تؤكد على ما كانت تنعم به مصر من خيرات يحصل بها اطمئنان النفس وراحة البال وتحقُّق الأمن والرفاهية؛ حيث يقول تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۞ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: 57-58].
كما أن المصريين قد تفاهموا مع شعوب الأرض سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، وتزاوجوا معهم، مما أثمر في وجود جيل يجمع بين دماء هذه البلاد وبين دماء المصريين، كما اكتسبت الأجيالُ الناشئةُ عن علاقات المصاهرة والزواج الجينات المصرية وملامحَ شخصيتها وهويتها.
وهي معالم واضحة كشفت عنها وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر التي قال فيها: «إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا»، أَوْ قَالَ: «ذِمَّةً وَصِهْرًا» “صحيح مسلم”، والرحم هي السيدة هاجر أم نبي الله إسماعيل بن الخليل إبراهيم، والصهر هي السيدة مارية أم إبراهيم ابن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وبهذه السمات الراقية استطاع المصريون عبر آلاف السنين أن يقوموا بدور تاريخي وحضاري كبير متشابك مع مختلف شعوب العالم خاصة أهل محيطها العربي والإفريقي والإسلامي، وهو دور شريف نابع عن أصالة أخلاقية وحضارية ضاربة في عروق هذا الشعب، ولا تزال مصرنا الكبيرة تقوم بذلك بحكمة وقوة وشرف!
فليس غريبًا على القيادة السياسية ولا على الشعب المصري هذه المواقف الوطنية والجهود الكبيرة تجاه القضية الفلسطينية التي تابعها كل حرٍّ بكل فخر واعتزاز، والتي أكدت على عدالة تلك القضية، مع وضع قواعد مُلزمة تحول دون المساس بأمن أهل فلسطين واستقرارهم مستقبلًا، وإقامة دولتهم المستقلة وفق المرجعيات الدولية، بل صاحب هذا الدورَ تقديمُ الدعم السياسي والأمني واللوجستي والطبي، مع إطلاق حزمة من المبادرات العمليَّة والتي تُمَكِّن المصريين من مشاركة أشقائهم الفلسطينيين؛ من إعادة الإعمار وتقديم المساعدات الطبية وتلبية الاحتياجات المعيشية والدوائية، فنحن جسد واحد وأمة واحدة!