رجاء النقاش يكتب: شوقي في مرآة ابنه
تحدثت عن كتاب صغير أصدره أحمد أفندي عبد الوهاب السكرتير الخاص لأحمد شوقي – أمير الشعراء – كما كان يسمى في أيامه، وإن كان هذا اللقب قد انقرض بمرور الزمن وأصبح شوقي شاعرًا عربيًا كبيرًا وهذا وحده يكفيه ويغنيه عن سائر الصفات والألقاب. اليوم أحدث القارئ الكريم عن كتاب صغير آخر عن شوقي كتبه ابنه حسين منذ ثلاثين سنة، وقد لا يعرف القراء من أبناء هذا الجيل أن حسين شوقي وهو الابن الثالث لشوقي – بعد أمينة وعلي- كان يكتب الشعر في شبابه، وكان شعره كله في الغزل العذب الرقيق، ولم تكن موهبة حسين بضخامة موهبة أبيه، فقد كانت شاعرية أبيه مثل الغابة الضخمة التي تتنوع فيها النباتات والأشجار والزهور والحشائش بينما كانت شاعرية حسين أشبه بحديقة صغيرة مليئة بالزهور الأنيقة الجميلة.
وقد كان شعره العاطفي من أبسط وأرق ما قرأت من أشعار الغزل، ولكن يبدو أن حسين لم يكن واثقًا من نفسه، ولذلك لم يواصل كتابة الشعر بل ولم يجمع شعره المتناثر في الصحف والمجلات في ديوان كامل، وأرجو أن أحدث القراء في مقال قادم عن هذا الشاعر الرقيق، والذي أصابته ولا شك عقد الإحساس بالضآلة أمام عبقرية والده فآثر الصمت والاختفاء.
والغريب أن شوقي نفسه كان يحض ابنه على عدم كتابة الشعر، ويروي لنا حسين هذه القصة في كتابه عن والده والذي سماه (أبي شوقي) فيقول: كان يحملنا على الذهاب إلى أهرام الجيزة كل يوم جمعة تقريبا كنا نأخذ معنا طعامنا ثم نذهب إلى مقهى صغير منعزل أمام فندق ميناهاوس، وكنا نختار هذا المكان لنكون أحرارًا إذا كنا نذهب في عصبة بوهيمية كثيرة الصخب من أدباء وفنانين. وكان يحضر معنا هذه الرحلات المرحوم حافظ بك إبراهيم كانت صحبته مسلية جدًا… سألني مرة في أثناء إحدى هذه الرحلات: أتقول الشعر؟ فأجبته: أجل. ولكن قليلًا فقال: إذن قل شيئًا في الهرم أو في أبي الهول فقلت:
أیا هرمی مصر سلام عليكما ولكني لم أتمكن من تكملة البيت، عندئذ فكر حافظ بك لحظة ثم قال: سلام مشوق منذ خمس إليكما
وهو يعني بالخمس السنوات الخمس التي قضاها شوقي وأسرته بالمنفى. ملحوظة: كان شوقي قد نفي من مصر سنة 1914 بعد خلع الخديوي عباس حلمي الثاني، وعاش شوقي – مع أسرته – منفيًا في إسبانيا حتى سنة 1919، وأنشدت حافظ بك أبياتًا كنت نظمتها في مناسبة أخرى، فالتفت إلى أبي وقال: أتعلم یا شوقي أن ابنك يرجى منه؟ عليك أن تتعهده ليصير شاعرًا مطبوعًا فأجاب أبي: إني أفضل أن يعنى هو بالنثر لا بالنظم لأن الشعر لا يتحمل الوسط وحسين لن يبلغ فيه القمة.. فقال حافظ بك موجهًا إلي الخطاب: لا تطع مشورة أبيك يا حسين، إنه يقول ذلك لأنه غيران منك إذ يخشى أن تسبقه في يوم من الأيام: فقال أبي في مرارة: لماذا بريك تريد أن يكون المسكين شاعرًا؟ لماذا؟ أليشقى مثلنا ويحرق أعصابه..
ويعلق حسين شوقي على هذه الحادثة بعد ذلك فيقول: عرفت صدق کلام أبي بعد مرور عشر سنوات على هذا الحديث عند وفاته، لما سألت طبيبًا عن سبب الموت، لأن أبي لم يكن متقدمًا في السن إذ توفي في الثانية والستين، فأجابني الطبيب بأن أبي وإن لم يكن مسنًا كانت أعصابه مع الأسف بالية، كانت أعصاب شيخ جاوز الثمانين.
وما يقوله حسين شوقي عن والده وضعف أعصابه تؤكده مصادر أخرى، فقد كان الشعر يمتص حياة شوقی بلا رحمة. حيث يروي الدكتور زكي مبارك أن شوقي كان يطلب منه أن يصحبه في بعض اللحظات والحالات التى يفاجئه فيها وحي الشعر، ويصف لنا زكي مبارك لحظة من هذه اللحظات فيقول:
نمضي من هنا ونمضي من هناك ونجتاز جميع الدروب حتى نصل إلى جسر قصر النيل. هنالك يقف شوقي فیبكي بكاء الأطفال ويغمغم. من أي عهد في القرى تتدفق.. وهي أعظم قصيدة قالها شاعر في وصف النيل، ثم تتخاذل قواه فيرجو أن أحمله إلى مكتبه وهو في ذهول ما بعده ذهول. هذه هي الصورة التي يرسمها زكي مبارك لشوقي في لحظات وحيه وإلهامه، وهي صورة تؤكد أن الإلهام الشعري عند شوقي كان يعتصره اعتصارًا، ويهزه هزًا، ويتحكم في أعصابه تحكمًا أشبه بالمرض، ويبدو أن شوقي كان يحس بخطورة هذه الحالات الإلهامية على حياته، فكان يخاف الموت ويخشاه أشد الخشية، ويتوهم الموت تابعًا يترصده في كل لحظة. وهذا جانب إنساني يكشفه لنا حسين شوقي عن والده في صور متعددة.