الدكتور محمد نور فرحات يكتب: أهل السيف وأهل القلم.. وئام أم خصام؟
هذا مقال لا يعنى بنظام سياسى بعينه، ولكنه يتناول إشكالية نظرية شغلت المفكرين والساسة والفلاسفة عبر العصور.
مصطلح أهل السيف والقلم توارثناه من التاريخ الثقافى والسياسى الإسلامى، إشارة إلى المقابلة بين أهل السلطان وأهل البرهان، أو بعبارات زماننا بين السلطة السياسية والمثقفين.
كثير من المعاصرين كتبوا عن العلاقة المعقدة بين المثقفين والسلطة. ولكن تبقى كتابات إدوارد سعيد وغالى شكرى ومصطفى عبدالغنى أهم هذه الكتابات قاطبة.
المثقف عند إدوارد سعيد هو الإنسان الذى يمارس النقد للدولة والمجتمع الذى يعيش فيه بهدف توجيهه نحو الأفضل.
وهذا قريب مما قاله أنطونيو غرامشى عن المثقف العضوى. فجميع الناس يفكرون بشكل ما، ولكن وظيفة المثقف الحق فى المجتمع لا يستطيع كل الناس القيام بها لأنها وظيفة الدعوة للتغيير.
المثقف عند إدوارد سعيد شخص «يتمتَّع بمقدرة خاصة» يستطيع من خلالها حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر معينة لمجتمعه. إنه الإنسان الذى يطرح علنا ودون وجل (أسئلة محرجة) ويصعب على الحكومات استقطابه وإلا فقد قدرته على النقد وخان رسالته الإبداعية.
المثقف الحق هو القادر على مواجهة كل أنواع الاحتواء والضغط والقهر. إنه هو ذلك المفكر الذى ينطق بالمسكوت عنه، وكل ما يتعمد الكثيرون إخفاءه أو تجاهله وتناسيه. المثقَّف الحق يمثِّل نبض الجماهير. وهو الذى (لا يقبل أبدًا بأنصاف حلول أو أنصاف الحقيقة). هو الشخص الذى يواجه القوَّة بخطاب الحقِّ ويصرُّ على أنَّ وظيفته هى أن يجهر بالحقيقة. هو المثقَّف المقاوم بفكره هيمنة السلطة السائدة بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية التى تحتكر البنية الفوقية للمجتمع والسياسة.
المقاومة عند المثقف الحق لا تعنى بالضرورة العداء أو الخصومة الشخصية للسلطة ورموزها، ولكنها تعنى موقفا نقديا لا غنى عنه فى مجتمع رشيد لا يخشى الفكر. العلاقة بين المثقف الحق والسلطة صاغها أفلاطون فى حديثه عن العلاقة بين الفلاسفة والجند والقوى العاملة باعتبارها شرائح متكاملة ينهض بها المجتمع كما ينهض الإنسان بعقله وجسده وعضلاته.
العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة معقدة. هى فى النظم الرشيدة علاقة واضحة محددة الأدوار يسهم كل من طرفيها فى إثراء الآخر. والفائدة الجمة فى النهاية تعود على المجتمع. حينئذ يصبح القرار السياسى أكثر استنارة. وتصبح الثقافة أكثر وعيا بتعقيدات الواقع.. ولكن هذه العلاقة فى النظم التسلطية تحكمها الريبة والتوجس، وافتقاد المصداقية، وقمع السلطة للمثقف رغم أنه لا يملك غير قلم يكتب به ولسان ينطق به فى مواجهة جهاز القمع الجبار.
صاغ ابن خلدون فى مقدمته العلاقة بين أهل السيف وأهل القلم المأجورين صياغة عبقرية بقوله فى ص٣٥ إن كليهما الة لصاحب الدولة يستعين بهما على امره… واهل الحكم فى فترة تمهيد أمرهم يلجأون إلى أهل السيف لدعم حكمهم.. وعندما يستقر حكمهم تعظم الحاجة لأهل القلم لمباهاة الدول، ولكن عندما يتسرب الضعف إلى الدولة تعود الحاجة لأهل السيف من جديد وتقل الحاجة لأهل القلم.
وعندئذ تقمع الدولة المثقف المستقل غير المأجور، يغيب عنها أنها بذلك تفقد عقلها الرشيد، وتنساق وراء أخطائها.
هنا ينبرى متطوعون يبررون الأخطاء من مرتزقة الفكر والقلم واللسان الذين يبيعون قلمهم ولسانهم كما تبيع العاهرة جسدها. هؤلاء الأخيرون هم الأعداء الحقيقيون للسلطة التى يزعمون الدفاع عنها، لأنهم يسوقونها لمنحدر الهاوية.
هؤلاء وجدوا طوال عصور التاريخ. وجدوا عندما زينوا للخليفة المأمون أمر الخلاف حول قدم القرآن (هل القرآن قديم قدم الأزل أم مخلوق؟). وليس من تفسير لهذه المحنة المصطنعة التى ظهرت فى عصر اتسم بالعقلانية إلا رغبة السلطة العباسية فى التنكيل بفقهاء أهل السنة للشك فى ميلهم نحو الأمويين.
مرتزقة الفكر هم من زينوا لجوبلز رجل إعلام هتلر أن يتحسس مسدسه كلما استمع لكلمة مثقف.
مرتزقة الفكر هم من برروا فى الاتحاد السوفيتى فى عهد ستالين سوق المفكرين المعارضين كالقطعان سيرا على الأقدام إلى سيبريا يتعثرون فى الجليد وفى رفات من قضى نحبه منهم.
ومع ذلك بقى المثقف المعارض كامنا فى رحم المجتمع السوفيتى حتى فى أشد ساعات القهر. ورغم الإنجازات الكبرى التى حققها النظام، فقد تلاشى فى طرفة عين لجموده الفكرى. ولم تفلح صحف البرافدا والازفستيا وأقلام الواقعية الاشتراكية والترسانة العسكرية والصناعية الهائلة التى بناها السوفييت فى تحصين نظامهم ضد جرثومة السقوط. وتحققت نبوءة صاحب نوبل (سولجنستين) فى (أرخبيل جولاج) و(عنبر السرطان) أن الأنظمة القمعية مهما بلغت قسوتها ومهما علا شأوها إلى زوال محتوم، ولكن بعد أن تدفع الشعوب الثمن.
وينقل المفكر التنويرى الراحل غالى شكرى عن جان بول سارتر قوله، إن المثقف هو نتاج المجتمعات يشهد على أزماتها…، هو نتاج تاريخى لها ليقوم بالتصحيح الذاتى لأزماتها تماما كما يفرز الجسم الإنسانى قوى المقاومة والمناعة. ولا يسع أى مجتمع أن يتبرم من مثقفيه ويرفضهم من دون أن يفقد حصانته ضد المرض.
إن المثقف الحق يفطن للتعارض القائم فى المجتمع بين الحلم والخطاب الرسمى، ويكشف النقاب عن تناقضات مطمورة يعيها الوجدان الجمعى.
نبهنا غالى شكرى أيضا إلى أن الثقافة الشعبية (أى الوعى الشعبى المتراكم المضمر) هى التى تحدد موقع الجميع، وتحدد مصائر الجميع فى الوقت الذى تريد. وهى ثقافة نقية عصية على التشويه قادرة على التغيير.
وخلاصة القول أن العلاقة بين المثقف الحق ووجدان شعبه وضميرة هى علاقة حتمية، وأن الخصام بين السلطة والمثقف الحق يؤدى لانفصال للجسد عن الروح. وأن المثقف المأجور يحفر هوة عميقة تحت أقدام السلطة تقع فيها لا محالة. وأن السلطة الرشيدة لا تقع فى غواية قوتها. فحاجة السلطة إلى مثقفيها الصادقين هى نفسها حاجة الجسم إلى أوكسجين نقى تتجدد به الخلايا وتنمو. والأذرع القوية وحدها لا تبنى وطنا قويا.
هذه هى سنة الله فى الأرض، ولن تجد لسنة الله تبديلا.