الدكتور رفعت السعيد يكتب: مكتبة الإسكندرية والملف الإيرانى
إذا كانت مكتبة الإسكندرية فى عهدها الجديد بمديرها د.مصطفى الفقى متواصلة مع المدير المؤسس د. إسماعيل سراج الدين قد أهدت الحضور فى مؤتمرها الأخير إمكانية الحوار المفتوح والمنفتح حول الواجبات الجديدة والمفترضة للمكتبة فى جديدها من الأيام فقد أهدتهم أيضا كتابا ممتعا للغاية عنوانه «تفكيك مفهوم القوة عند ميشيل فوكو إعادة فتح الملف الإيراني» .
وابتداءً فإننى أعتذر للقارئ عن هذا العنوان المخادع . فهو لن يجد دراسة ولا تحليلاً ولا حتى ذكرا للدور الإيرانى الحديث فى عالم اليوم ، وإنما الحديث سينحصر فى دور مؤسسات القوة فى تمكين السلطة ذات الادعاءات الدينية الصبغة من ترسيخ وجودها تاريخياً . والكتاب من تحرير محمد صفار الذى أعتذر له فأقول إنه إذ حاول «تفكيك» المفهوم فقد زاده تعقيداً ربما لأن الموضوع يقتادنا دون أن ندرى إلى موضوعات متعلقة بالدين والعقائد ودورها إذ تستخدم استخداماً مغرضا فى إيجاد سلطة إخضاع الجماهير البسيطة . ويبدأ محمد صفار دون أى مقدمات قائلاً : سأحاول تسكين خطاب فوكو فى سياقه الفلسفى الذى يتكثف فى الإجابة التى قدمها كانط على سؤال «ما التنوير؟» ومع أن السؤال قد يبدو بريئاً والإجابة تتبدى بسيطة لكن محاولة الإجابة تدخلنا فى متاهات ممتعة إذا استطعت الإمساك بها. ففى عام 1784 كتب كانط مقالاً للرد على هذا السؤال فقال «أنه خروج الإنسان من حالة عدم النضج التى فرضها بنفسه على ذاته وهى عدم القدرة على استخدام عقله دون إرشادات أو توجيه من الآخرين . ومن هنا يصبح شعار التنوير الذى يرفعه كانط فى وجه العالم «فلتكن لديك القدرة على استخدام عقلك» ويواصل كانط الجدل ليؤكد أنه لا فرصة لتحقيق القدرة على التنوير للجمهور بأكمله إلا بتحقيق الحرية . ثم يقتادنا إلى شرط آخر وهو «أن تقوم القلة التى تفكر بذاتها بتحرير نفسها من حالة عدم النضج وبنشر روح الاحترام العقلانى لمهمة التفكير كفرض عين . ثم يمضى كانط ليملى شروطه قائلاً «أن التقدم باتجاه التنوير يمكن أن يتحقق حينما تكفل الحرية للاستخدام العام للعقل عندما يقوم العقل فى مخاطبة جمهور القراء بأكمله» وهكذا ومنذ الصفحة الأولى نجد الماكر محمد صفار إذ يتحدث عن زمان حديث كانط (1784) يجيب على أسئلة الحاضر باختصار هو يقول لكم يا أيها الناس التنوير يعنى استخدام العقل، واستخدام العقل يتطلب انطلاق حريته فى التفكير والتفسير ومخاطبة الجمهور .. التنوير يعنى عقلا ــ علما ــ حرية . ثم يشير محمد صفار من طرف خفى إلى بعض رجال الدين يعتبرون أن مهنتهم تفرض عليهم حراسة معتقدات ثابتة بما يمنع أى إمكانية للتفاهم وبسلاسة يقتادنا محمد صفار إلى ما سماه تحديد الشروط الضرورية للاستخدام الشرعى للعقل.. فإذا كان النقد هو سلاح العقل فى الماضى ، فإنه من الضرورى التعقل من أجل العقل نفسه . ثم نأتى إلى ما سماه محمد صفار «الملف الإيراني» مشيراً مرة أخرى إلى تفسير كانط «ما التنوير» ومن ثم الحداثة أو ما يسميه فوكو سياسات الحقيقة . أى محاولة العمل الصبور الذى يقتادنا إلى تطلع غير صبور لتحقيق الحرية . ثم هو يتحول إلى الملف الإيرانى لتفسير تأسلمه فيقول «إن الكارثة فى إيران الشاه الإيرانى هو أن إيران كانت حبلى بأكثر من مولود . ثم يبسط الصورة قامت مدينتان متقابلتان ومتنافستان هناك المدينة الإدارية الخاصة بالحكومة والوجهاء.. وغير بعيد عنها بنى الفلاحون والصناع مدينتهم المخالفة للخطط الرسمية [مدينة عشوائية] .
والشاه الذى قدم نفسه لبلده وللعالم على أنه ملك تقدمى يحاول التخلص من التقاليد البالية والمجتمع المتخلف بينما كان الشاه نفسه متأخراً مائة عام عن موجبات الحداثة، وتتلخص جريمة الشاه فى سعيه لفرض ماض يرفضه الحاضر. وفى عام 1921 وصل رضا خان بمعاونة الانجليز إلى السلطة وقدم نفسه كمنافس [شيعي] لكمال أتاتورك [سني] واستعار رضا خان البرنامج الكمالى الثلاثي: القومية، العلمانية، الحداثة لكن الأمور فيما يتعلق بالبند الأول تعثرت حتى وضع ابن رضا خان نفسه وبلده تحت الهيمنة الأمريكية . فإذا أتينا إلى البند الثانى «العلمنة» نجد أن الإسلام شكل المصدر الأساسى للوعى القومى ومن ثم اضطر رضا شاه إلى محاولة إحياء أسطورة الجنس الآرى ليكون نقاء هذا الأصل هو دعامته .. ويتبقى من البرنامج الكمالى شعار التحديث . لكن التحديث دخل فى زواج مصلحة مع نظام حكم أسرة بهلوى التى ساد فيها الفساد يحميه الاستبداد بحيث يحمى كل منهما الآخر .
وقامت سلطة ديكتاتورية على رأسها الشاه التابع لأمريكا ويحلق سؤال ضرورى أين الجيش ؟ الجيش لم يكن متحرراً فى أى وقت، ولم تتملكه نزعة تولى الحكم واكتفى دوماً بأن يلعب دور الحامى المخلص لأسياده الحكام. وعندما ثار الشعب ضد نظام الشاه مطالباً الخومينى بحكم الإسلام . ولم يكن أحد يتصور أن هذا يعنى حكم رجال دين يقودهم الفقيه الذى يفرض ولايته على الجميع .. ويختتم فوكو مرثيته للوضع فى إيران «لم يكن الإسلام عام 1978 أفيون الشعب الإيرانى لأنه كان بالتحديد روح عالم بلا روح» . ويبقى الشكر واجباً لمكتبة الإسكندرية وللكاتب محمد صفار .