الدكتور قدري حفني يكتب: سيكولوجية القرارات الاقتصادية
تشهد بلادنا أخيرا تواتر العديد من القرارات الاقتصادية التى يتخذها خبراء الاقتصاد بناء على توجهات السلطة، وأيضا على توقعاتهم «العلمية» لسلوك الأفراد؛ ويتوقف صدق تلك التوقعات على دقة قراءة العوامل التى تدفع الأفراد فى سياق اجتماعى تاريخى معين لاتخاذ قراراتهم الاقتصادية. لقد أرجع فرانسيس فوكوياما -المفكر الأمريكى اليابانى الأصل-التفوق الاقتصادى اليابانى إلى عنصر الثقة الذى يؤدى إلى سرعة إتمام الاتفاقات، وتوفير جزء من الوقت الذى يضيع فى الكثير من الإجراءات، كذلك المال الذى ينفق على مكاتب المحاماة، كما أرجع ضخامة حجم الاقتصاد الأمريكى إلى اعتماد الأمريكيين بشكل واسع على الجمعيات والمنظمات والشبكات، مما يؤدى إلى فاعلية كبيرة، وكلها لا يمكن أن تقوم إلا فى وجود درجة عالية من الثقة فى الآخرين وفى المجتمع بوجه عام. وفى المقابل يرى فوكوياما أن الإمكانات الضخمة للاقتصاد الصينى كانت يمكن أن تصل به إلى آفاق أكبر لولا ضعف عنصر الثقة لدى الصينيين التقليديين الذين لايزال قطاع منهم يقصر نطاق ثقته على الأقارب ومن يعرفهم منذ فترات زمنية طويلة. لقد ظل علماء الاقتصاد طويلا يفترضون أنّ الأفراد يتخذون قراراتهم الاقتصادية بعقلانية مجردة، وبالتالى يمكن التنبؤ بتلك القرارات بشكل صارم وفقا لقانون العرض والطلب.
ومرت الأعوام وبدأ ذلك التصور الصارم يتهاوى شيئا فشيئا؛ ليكتشف علماء الاقتصاد أن التنبؤ بقرارات الفرد الاقتصادية لا بد وأن يضع فى اعتباره طبيعة الإنسان المعقدة و اتخاذه قراراته فى جميع مجالات حياته وفقا للصورة الذهنية التى يشكلها لنفسه و لمستقبله ولعلاقاته بالسلطة وبمن يحيطون به. إنها «العقلانية المقيدة» وفقا لتعبير عالم النفس الأمريكى هربارت الكسندر سيمون على جائزة نوبل فى الاقتصاد عام 1978 والذى أسفرت بحوثه عن عجز الأفراد عن التعامل بعقلانية كاملة فى اتخاذ قراراتهم، وأن تلك القرارات تعتمد إلى حد كبير على الانطباعات الانفعالية بصرف النظر عن مستوى الفرد الثقافي. و فى عام 2002 كانت جائزة نوبل فى الاقتصاد من نصيب الأمريكيين فيرنون سميث عالم الاقتصاد ودانيال كانيمان عالم النفس، تقديرا لهما على أبحاثهما فى مجال عملية اتخاذ القرارات فى ظل ظروف ينقصها الوضوح، حيث أثبتا بطريقة منهجية كيف أن قرارات الأفراد يمكن أن تختلف عن توقعات النظرية الاقتصادية التقليدية.و فى مطلع هذا الشهر أكتوبر 2017 أعلن عن فوز العالم الأمريكى ريتشارد ثالر بجائزة نوبل للاقتصاد تقديرا لإسهاماته فى فهم وترجمة وتحليل السلوك البشرى الاقتصادي، سواءً فى التسوق فى المتاجر أو استثمار المليارات فى الأسواق المالية، و كيف أن تلك الإسهامات قد أقامت جسرًا بين التحليلات الاقتصادية والنفسية لصنع القرار.
ولعلنا نستطيع أن نوجز أهم ما أثبتته بحوث ثالر فى تأكيدها ضرورة جذب انتباه من تستهدفهم القرارات الاقتصادية لأهميتها بالنسبة لحياتهم اليومية؛ أو بعبارة أخرى ضرورة تسويق السلوك الاقتصادى المطلوب بصورة جذابة.
وضع ثالر نظرية «المحاسبة الذهنية» Mental accounting ، التى تشرح كيف يقوم الأفراد بتبسيط عملية اتخاذ القرارات المالية، بإقامة خانات منفصلة الواحدة عن الأخرى فى أذهانهم، ثم التركيز على وطأة كل قرار فردي، عوضًا عن التركيز على التأثير الإجمالي، ولو أوقعهم ذلك فى خطأ. وقام ثالر بتأليف عدة كتب عن الاقتصاد شبه الرشيد، فى محاولة لفهم لماذا يفضل البشر الإشباع الفورى الآن، حتى لو كانوا يعرفون أنّ الصبر سيعطيهم المزيد من المال أو حياة أفضل على الطريق. ولعل أهم أعماله وأكثرها شهرةً على الإطلاق هو بحثه المعنون الوكزة Nudge: تحسين القرارات المتعلقة بالصحة و الثروة والسعادة، والمنشور عام 2008 بالتعاون مع أستاذ القانون بجامعة هارفاردكاس سونستي. وقد حقق هذا الكتاب شهرةً عالميةً كبيرةً بعد النتائج المبهرة، التى تحققت فى عقب نشره. اقترح ثالث على المستوى التطبيقى تشكيل مجموعات مصغرة لصياغة السياسات السلوكية، وتتكون كل مجموعة خبراء من ثمانية أفراد، منهم على الأقل خبير واحد فى علم النفس، وآخر فى علم الاقتصاد، كما يتضمن الفريق نخبة من المختصين فى حقل السياسات المعني، و يعمل هذا الفريق السلوكى على إبداع الحلول الجديدة والمبتكرة للتصدى لإحدى المشكلات المتعلقة بصناعة السياسات فى مجال مُعين كالصحة مثلًا أو التعليم، من خلال التعاون مع الجهات الحكومية؛ للعمل على إدخال تعديلات على السياسات والبرامج العامة، لتأخذ بالاعتبار الأبعاد النفسية والاجتماعية، وتحاول توظيفها بما يعزز خيارات المواطنين ويزيد رفاهيتهم. وذلك اعتمادًا على الحلول المبنية على علم السلوكيات، والتى بدورها تقوم على النماذج الواقعية للسلوك الإنسانى فى فهم الدوافع الكامنة خلف السلوك البشري، عوضًا عن اعتماد تقارير خبراء الاقتصاد فى تحليل دوافع السلوك البشري. و من اللافت أنه بعد عامين من نشر الكتاب؛ تشكل فى بريطانيا فريق الاقتصاد السلوكى تحت قيادة دافيد هالبيرن أستاذ علم النفس الذى استعان بثالر مستشارا للفريق. وفى الآونة الأخيرة، وبعد نجاح التجربتين البريطانية والأمريكية، قام العديد من الدول بالسير على نفس النهج، فـ انتشرت وحدات Nudge لدراسة السلوك وللاستفادة من هذا العلم فى تصميم السياسات والبرامج العامة فى مختلف دول العالم بشكل كبير، حيث تم تأسيس أكثر من 55 وحدة حول العالم، وذلك من أجل تشجيع اعتماد الحلول السلوكية فى صناعة السياسات. خلاصة القول إن القوانين الاقتصادية مثل غيرها ـ تتحقق من خلال الإنسان الذى تحكمه قوانين سيكولوجية عامة.