ياسر حسني يكتب: الوثائق السرية .. الحالة النفسية لـ قادة إسرائيل
جولدا حاولت الانتحار وديان انهار وجونين فكر في اغتيال وزير الدفاع
الوثائق السرية .. «الوضع مأساوي.. نحن في كارثة لا يمكننا الفرار منها.. ليس أمامي حل سوى الانتحار للتخلص من هذا العار».. كانت تلك هي الكلمات القليلة التي ألقتها جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل إبان حرب أكتوبر 1973 للمقربين منها، عندما تكونت أمامها صورة الأوضاع فى ميدان القتال، وحجم المعجزة التي يحققها الجيش المصري في سيناء.
كانت “المرأة الحديدية”، كما يطلق الإسرائيليون على رئيسة وزرائهم الأسطورية “جولدا مائير”، في أسوأ حالاتها النفسية، لقد خدعها المصريون ولم يذيقوها فقط مرارة الهزيمة، وإنما كشفوا حجم الأكاذيب التي كانت ترددها وحكومتها عن جيش إسرائيل الذي لا يقهر وخط بارليف الحصين الذي انهار أمام “مياه الغضب المصرية”..
لم تكن “مائير” وحدها التي أصابها الانهيار النفسي وفكرت في الانتحار، هربا من عار الهزيمة بل إن الوثائق السرية التي أفرجت عنها تل أبيب في الذكرى الـ 50 لحرب أكتوبر المجيدة، كشفت عن مرور قادة إسرائيل بأسوأ حالاتهم النفسية، حتى أن الخبراء ووسائل الإعلام الاسرائيلية يحذرون، وبشدة، من أن تداول تلك الوثائق خاصة “الشق النفسي” لقادة حكومة وجيش الاحتلال، سيؤدي لانهيار معنويات جنود وضباط الجيش الاسرائيلي الحاليين وكذلك سيطيح بالصورة الذهنية لدي الأجيال الجديدة عن دولتهم القوية التي لا تقهر والتي تروج حتى الآن لأنها “لم تخسر حرب كيبور” وإنما هي من ربحتها!
الوثائق السرية .. كوابيس ليلة كيبور
انضمت جولدا مائير في وقت متأخر من مساء الخميس 5 أكتوبر 1973 إلى ابنها مناحيم مائير وزوجته؛ لتناول العشاء في شقة في شارع البارون موريس هيرش في رمات أفيف، على مقربة من شقة مائير، لكنها لم تكمل وجبة العشاء، وغادرت في وقت مبكر عن المعتاد، وذكرت فيما بعد أنها كانت تتوقع شيئا ما من العرب.
كتبت مائير في مذكراتها: “جلسنا لتناول الطعام، لكنني كنت مضطربة للغاية ولم يكن لدي أي شهية على الإطلاق.. لقد عفت نفسي وذهبت إلى الفراش، لكنني لم أستطع النوم.. استلقيت مستيقظة لساعات، غير قادرة على النوم، في النهاية لا بد أنني غفوت.
وأضافت: “كنت أحلم أن جميع الهواتف في منزلي تضج بالرنين، هناك الكثير من الهواتف الموجودة في كل ركن من أركان المنزل ولا تتوقف عن الرنين.. أنا أعرف ما يعنيه الرنين، وأخشى التقاط جميع أجهزة الاستقبال”..
كانت ذلك الكابوس الذي يطارد جولدا مائير ليلة السادس من أكتوبر عام 1973 نابع من تقارير الأجهزة المخابراتية والأمنية، التي تشير إلى أن “إسرائيل لم تعد آمنة”.. المصريون يخططون لضربة ما لا تدري كيف ستكون.. والفلسطينيون اختطفوا رهائن إسرائيليين والحكومة دخلت في مفاوضات للإفراج عنهم.. “هل هي نهاية دولة إسرائيل؟!”.. هل ستصيب اللعنة تل أبيب في عهد جولدا مائير؟!.. كان ذلك مزعجًا جدا لـ “المرأة الحديدية” التي اشتهرت بأنها مقاتلة شرسة في الحروب وميادين السياسة..
لم تنم “مائير” طويلا في ذلك اليوم، ففي الرابعة صباحًا من يوم 6 أكتوبر عام 1973، رن جرس الهاتف في منزلها، لتجد على الطرف الآخر سكرتيرها العسكري، العميد يسرائيل ليئور، الذي يزيد من مخاوفها وقلقها بكلمات صادمة: “وردت معلومات تفيد بأن المصريين والسوريين سيشنون هجوما مشتركا على إسرائيل بعد الظهر”.
غادرت مائير منزلها في الصباح الباكر يوم السبت، وطلبت من سكرتيرها العسكري عقد اجتماع مع رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي ديفيد إلعازار، والوزراء موشيه ديان، ويغال ألون، وإسرائيل جليلي، لتناقش استدعاء جنود الاحتياط، وإذا كان يجب الأمر بضربة وقائية أم لا..
لم يسفر الاجتماع عن قرارات حقيقية، فالمصريون أحبكوا “الخداع الاستراتيجي” وتوقع الجميع أن “الحرب لن تأتي أبدًا” ولكن الواقع كان غير ذلك.. وانطلقت الطائرات المصرية تدك خطوط الدفاع الإسرائيلية ثم كان العبور فالنصر لمصر.
بعد 3 سنوات من الحرب قالت مائير خلال محادثة مع العميد أفنير شاليف، الذي شغل منصب رئيس مكتب إلعازر: “في اليوم الثاني من الحرب، قررت الانتحار”!.
كلمات مقتضبة اعترفت بها “جولدا مائير” ولكنها لا تعكس تلك الحالة النفسية التي مرت بها “المرأة الحديدية” في ذلك الوقت.. وهو ما ترويه الوثائق الإسرائيلية المفرج عنها مؤخرًا..
تكشف الوثائق أنه عندما تلقت “مائير” خبر الحرب انهارت على مقعدها وشحب وجها تماما وكأن كل دمائها قد فرت فزعًا من الهجوم المصري على جيش الاحتلال، وأخفت عينيها بكفها لتخفي دموعها وصمتت لوقت طويل، صمتت تماما حتى حركة أنفاسها لم تعد واضحة وجسدها لا يتحرك تماما، حتى ظن مرافقوها أنها غادرت الحياة..
ثم انطلقت تصرخ في الجميع بلا استثناء وطلبت اجراء مكالمة عاجلة مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر، وطوال المكالمة ظلت تتحدث بمزيج غريب من العصبية والتوسل!!.. كانت تطلب منه وقف الحرب بأي طريقة، وهي تقاوم دموعها وصوتها كله ضعف وتوسل، ثم تعود لتصرخ طالبة منه بكل عصبية أن يطلب من حكومته إرسال الجيش الأمريكي ليحارب معهم!!
كان المقربون منها يرونها في حالة نفسية غريبة لم يشاهدوها عليها من قبل، كانت تطلق الأمر ثم تطلب تنفيذ عكسه بعد قليل، كان من الواضح أن عقلها مشوشًا ولم تعد قادرة على اتخاذ قرار حاسم، أما ملامحها فبدت كأن عمرها قفز عشر سنوات دفعة واحدة!! كان كل شيء يدور يؤكد أن الجيش المصري سيحرر سيناء وسيقضي على أسطورة جيش إسرائيل الذي لا يقهر ومعه ستذهب بلا عودة أسطورة رئيسة الوزراء الحديدية جولدا مائير!!
في اليوم الثاني من الحرب، لاحظ المقربون من جولدا مائير أن هناك مسدس يتواجد كثيرا بالقرب منها، تضعه في أحد أدراج مكتبها وكثيرا ما تحمله بين يديها عندما تكون بمفردها في مكتبها.. حتى أن سكرتيرها العسكري، ليئور، طلب من الأمن أن يحاولوا ابعاد هذا المسدس عنها، فقد سمعها تردد هامسة لنفسها بأن الوقت قد حان لمحو العار وأن تموت لتلحق بمئات الجنود والضباط الذين سقطوا على جبهة القتال!!
ظل هذا المسدس ملفتًا لأنظار من يحيطون بجولدا مائير، ليومين، ثم بدأ اهتمامها بوجوده يقل وقالت لأحد المقربين منها: “لم أجد لدي الشجاعة لأنهي حياتي بطلقة رصاص واعترف بالفشل مثلما يفعل الساموراي العظماء.. إن روح المقاتلة بداخلي قد ماتت مع عبور المصريين خط بارليف.. تحولنا جميعا من قادة عظماء لدولتنا إلى مجرد مجموعة من الكاذبين الذين خدعوا شعبهم لسنوات.. سيظل العار يطاردني ولكنني لا استطيع محوه بيدي”..
يوم القيامة في تل أبيب
«إنه يوم القيامة.. لقد أرسل الرب جنوده لتقضي علينا.. اتركوا الجرحى يموتوا بين يدي المصريين.. اليوم لا قرار لنا نملك إصداره.. ليس أمامنا سوى الانتحار أو الاستسلام.. لم نعد شعب الله المختار.. لقد صار المصريون هم شعبهم والرب يأخذ بيدهم لإبادتنا»..
لم يكن أحد يتوقع أن يشاهد شمشون إسرائيل ووزير دفاعها المقاتل الشرس “موشيه ديان” بهذا الضعف ويهذي بكلمات لا يدرك معناها، خاصة وانها في اجتماع رسمي وليس بين مجموعة من الأصدقاء..
كانت ذلك خلال اجتماع عاصف دار داخل مقر مجلس الوزراء الإسرائيلى بعد مرور 24 ساعة فقط على اندلاع حرب أكتوبر، دعت إليه رئيسة الوزراء، جولدا مائير، وحضره وزير الدفاع موشيه ديان، ورئيس الأركان دافيد بن إليعازر، وعدد من قادة إسرائيل، وظهر جليا خلال هذا الاجتماع حالة الارتباك وروح الهزيمة التى سيطرت على قادة إسرائيل بمجرد اندلاع الحرب، واستسلامهم لفكرة الهزيمة من اليوم الأول، الأمر الذى دفع موشيه ديان لوصفها بيوم القيامة، حسب نص الوثائق التي أفرجت عنها إسرائيل مؤخرا.
الاجتماع كان يوم ٧ أكتوبر ١٩٧٣، وبدأ الساعة الثانية و٥٠ دقيقة ظهرا، أى بعد مرور 24 ساعة و45 دقيقة على بدء المعارك، واستمر ساعتين بالضبط، حيث انتهى عند الساعة الرابعة، و٥٠ دقيقة بتوقيت تل أبيب.
كان واضحا خلال الاجتماع أن ديان لم يعد قادرا على تقبل استمرار الحرب ليوم آخر، لقد اقتنع بأن الهزيمة ستلحق بهم ولا بد أن يبحث كل شخص عن “قارب النجاة” الذي يناسبه.. كان يطالب كل القادة المشاركين في الاجتماع أن يبحثوا عن نجاة أنفسهم ولا يشغلوا بالهم بأي شخص آخر أو حتى بدولة إسرائيل.. لقد “جاء يوم القيامة فلينجو كل بنفسه”!
كانت خطة “ديان” التي طالب الحكومة والجيش الإسرائيلي بتنفيذها هي ترك جنوده الجرحى خلف الخطوط المصرية، ونصح قواته بالهروب من الجيش المصرى إلى ما وراء خط المضايق على عمق ٣٠ كيلومتراً داخل سيناء، أو الاستسلام للقوات المصرية..
كما كشفت الوثائق أنه أصيب بحالة انهيار عصبى، وتعرض لضغوط نفسية شديدة، دفعته إلى الجزم بأن المصريين والسوريين لن يوقفوا الحرب حتى يحرروا فلسطين بالكامل، ويدمروا إسرائيل، ووصف بلاده بأنها «نَمِرٌ من ورق».
وعندما حاولت جولدا مائير التحدث مع “ديان” وتذكيره بإصراره بأنه رفض فكرة قيام المصريون بشن هجوم على الجيش الإسرائيلي، صرخ “ديان” في وجهها: «هذا ليس الوقت المناسب لمحاسبة الذات، أنا لم أقدر جيداً قوة العدو ووزنه القتالى، وبالغت فى تقدير قواتنا وقدرتها على الصمود، والعرب يحاربون هذه المرة بشكل أفضل بكثير مما مضى، ولديهم سلاح كثير، وهم يعطلون دباباتنا بالسلاح الشخصى، ويستعينون بالصواريخ لإقامة مظلة دفاعية يصعب على سلاحنا الجوى تدميرها، وأنا لا أعرف ما إذا كنا قد قمنا بضربة وقائية، فهل كان ذلك سيغير من الوضع بشكل كبير أم لا»..
وأضاف: «كان لدى شعور بأننا سندمرهم فى الطريق، وكانت لدينا تقديرات مبنية على الحرب السابقة ولم تكن صحيحة، كانت لدينا ولدى الآخرين تقديرات غير صحيحة عما سيحدث إذا حاولوا العبور».
وعندما تحدث رئيس الأركان الإسرائيلي عن وضع خطة لتصحيح مسار الحرب وإجلاء المصابين، صرخ “ديان” قائلا: «لا يمكننا إنقاذهم يجب تركهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه فى مواقع أخرى، ومن يقدر منهم على مواصلة طريقه وصولاً للمواقع الإسرائيلية فليفعل، ومن يريد الاستسلام يستسلم، وعلينا أن نقول لهم إننا لا نستطيع أن نصل إليكم، حاولوا التسلل أو استسلموا»..
وانهار “موشيه ديان” تماما في مقعده وبكى بعينه الوحيدة، قائلا بصوت محبط وذليل: «نتائج هذه الحرب ستؤدى إلى سخرية العالم من إسرائيل، وسينظر لنا الجميع باعتبارنا نَمِراً من ورق.. انهار مع أول هجوم عليه».
وأضاف: «إنها حرب وجود، إنها الجولة الثانية بعد حرب ٤٨، لن يوقف العرب الحرب، وإذا أوقفوها ووافقوا على وقف إطلاق النار، فإنهم سيستأنفون القتال مجدداً، لقد وصلوا معنا إلى الحرب الوجودية وإذا انسحبنا من هضبة الجولان فإن هذا الأمر لن يحل شيئاً».
وحدثت مشادة بين مائير، وديان، وقيادات الاستخبارات الإسرائيلية، واشتكت مائير من تقارير الموساد التى ظلت تؤكد أن السادات لن يجرؤ على دخول الحرب، وأشارت إلى أن جاسوس مصرى رفيع المستوى، أكد لإسرائيل أن السادات يعلم أن أى حرب يدخلها ضد إسرائيل ستنتهى بهزيمة مصرية، ويجب أن تطلب إسرائيل وقف إطلاق النار فورا، ويحافظ كل طرف على النقطة التى يقف فيها.. حينها لم يتمالك “ديان” أعصابه وأخرج مسدسه وهو يصرخ: «نحن لا نقف أصلا على أية نقاط.. نحن ننهار ونتراجع كالأغنام التي تفر من ذئب شرس.. لقد خدعك هذا الجاسوس رفيع المستوى.. لقد خدعنا السادات.. خدعنا الجميع.. كنا نعيش في أكاذيب ومهاترات.. لم يعد أمامي سوى أن أنهي تاريخي العسكري بطلقة من سلاحي.. أو استسلم مثل جنودي وضباطي واترك للمصريين مهمة قتلي».
يوم 10 أكتوبر، يجتمع “ديان” سرًا مع عدد من رؤساء تحرير الصحف العبرية اليومية، واعترف أمامهم بالفشل قائلاً: “لا توجد لدينا الآن القوة الكافية لأن نقذف بالمصريين إلى ما وراء القناة إلا إذا خاطرنا بإنهاك قواتنا تماما، وأقول لكم وبصراحة لقد بات واضحا أمام العالم كله أننا لسنا أقوى من المصريين، إنني أفكر جديا في الاعتراف بالحقيقة أمام الملأ في المساء على شاشة التليفزيون”.
ذهل رؤساء التحرير وصدموا وقال رئيس تحرير هآرتس «جرشون شوكن» إذا كان ما قلته لنا الآن سيقال على شاشة التليفزيون فإن زلزالا سيضرب أذهان الشعب الإسرائيلي بل والشعوب العربية أيضا وكل شعوب العالم!
واهتم أحدهم بإبلاغ رئيسة الوزراء جولدا مائير في حينه، فاتصلت على الفور بديان وأمرته بإلغاء اللقاء مع التليفزيون، وطلبت من رؤساء التحرير ألا ينشروا أقوال ديان، وأمرت بفرض الرقابة العسكرية لمنع نشرها.
اغتيال موشيه ديان
بمجرد اندلاع حرب أكتوبر سارع اللواء شموئيل جونين، قائد الجبهة الجنوبية (سيناء) لجيش الاحتلال، بإبلاغ اللواء موشيه ديان شخصيا، بأن المصريين بدأوا عملية قصف واسعة.. دبابات مصرية تتقدم من الطرف الغربي للقناة.. والطائرات المصرية تقصف الدفاعات الإسرائيلية.. غارات تضرب على مقربة من غرفة قيادة العمليات للواء الجنوبي، القوات المصرية بدأت تجتاز القناة في المنطقة الجنوبية، معارك طاحنة تدور في جميع المواقع.. ثم نقل جهاز الاتصال صرخاته: “في الشمال أعطبوا لنا 8 دبابات، الكثير من القتلى والجرحى.. نطلب دعما جويا”.
كان “جونين” يتوقع أن تزأر الطائرات الإسرائيلية فتدك القوات المصرية المهاجمة وتنهي تلك الحرب في مهدها ولكنه فوجيء بأن “ديان” يطالبه بأن يتصرف ويدافع بقدر استطاعته!!
سارع “جونين” بالاتصال رئيس الأركان “إليعازر” يطلب منه سرعة التحرك ودعم قواته ولكنه فوجيء بأن الصورة لدي القيادة الإسرائيلية قاتمة والوضع سيء في الجبهة الشمالية “سوريا” أيضا والجيش يطلب الاحتياط ووعده بالدعم سريعا..
وظلت الحرب دائرة دون أي تحرك من القيادة لقد اصبح “جونين” وجنوده في مرمى الخطر بمفردهم.. لقد اشتعل الغضب بداخل “جونين” وهو يوجه جنوده وضباطه للتصدي للطوفان العسكري المصري الذي أصابهم.. عاد الاتصال بين جونين و”ديان” يوم السابع من أكتوبر الساعة 11.40 صباحا ليصرخ جونين: “الوضع ليس جيدا.. نحتاج مساعدة جوية كبيرة جدا، المصريون أشعلوا النار في مخازن الوقود.. ليس لدينا وقود، المصريون يواصلون الهجوم الكاسح على جميع الجبهات، الجنود يخافون، لا يريدون الصعود إلى الدبابات”.
فوجيء برد محبط وبصوت فاقد للحماس والقوة من “ديان” قائلا: “لدينا مشكلتان كيف نوقف الهجوم المصري؟ وكيف نوزع القوات على المواقع؟ ما أفهمه أن سلاح الجو قادر على صدهم ولكن يجب ألا نبنى على ذلك، المواقع التي يمكن المقاومة فيها عليها أن تقاوم، ولكن لا نبادر بالهجوم، يمكن التسلل نحوهم في الليل، أما بالنسبة للجرحى فاتركوهم يقعوا في الأسر، والجنود المعاقون ينسحبون بالتدريج وبشكل فردي ليلا”.
كانت كلمات صادمة لـ جونين.. وزير الدفاع ليس لديه خطة لانقاذ الجيش!!.. يطلب منه الاستسلام أو القتال حتى الموت!!.. إذا كان هذا حال قادة إسرائيل فلماذا نلوم الجنود والضباط على خوفهم من المواجهة؟
اتصل جونين بـ رئيس الأركان ليخبره بما سمعه من وزير الدفاع، إلا أنه فوجيء بـ إليعازر يخبره بما دار من ديان في اجتماع الحكومة وتفكيره في الانسحاب.. فيرد عليه جونين بصوت جهور مملوء بالغضب: “سأترك الجبهة حالا وأعود لكم في تل أبيب واقتل ديان في مكتبه الذي يحتمي به من نيران المصريين الغاضبة.. ولتكن تلك هي آخر طلقة أصوبها من سلاحي ثم أعود بعدها للجبهة واستسلم أنا ورجالي وليذهب الجميع إلى الجحيم”!!
صراع الجنرالات!
مع تيقن الجميع من أن النصر سيكون حليف الجيش المصري في تلك حرب كيبور، حتى بدأ التخبط واضحا في قرارات وتصرفات قادة الجيش الاسرائيلي بل والضباط والجنود، فوفقا للوثائق السرية المفرج عنها كانت “الفوضى والتخبط والأنانية” هي المشاعر السائدة والحاكمة للموقف..
فالضباط الإسرائيليون بدأوا يصدرون أوامر لجنودهم بشكل فردي وبدون الرجوع للقيادة حتى أن الصفوف الخلفية البعيدة عن مرمى نيران المصريين والسوريين شهدت قتل جنود إسرائيليين لبعضهم البعض متوهمين أن العرب أقتربوا من تل أبيب!
كما تبادل ايلي زعيرا رئيس الموساد وتسفي رئيس المخابرات العسكرية بتبادل الاتهامات بـ “الخيانة” والانصياع وراء الجواسيس المصريين وتسليم معلومات مضللة للحكومة الإسرائيلية.
أما اسحق حوفي قائد اللواء الشمالي (سوريا) في جيش الاحتلال الإسرائيلي، فطالب جنوده بتفخيخ أنفسهم والهجوم على دمشق، ثم عاد وطالبهم بالاستسلام فورا لأي قوات تقابلهم من الجيش السوري، ثم تراجع مرة ثالثة وطالبهم الصمود في المعركة متهما وزير الدفاع ورئيس الأركان بأنهم يضللون الجيش ويضحون بالجنود على “مذبح السياسة”.